قبل ربع قرن من الآن، كنت أسكن الحى السادس بمدينة السادس
من أكتوبر، كان كل شيء جديدًا ونظيفًا ولامعًا، قال لى الصديق الذى أخشى فراسته: «بعد
سنتين أو ثلاث سنوات، سيصبح هذا الحى عنوانًا للعشوائية!».
تركت الحى قبل أن يصبح عشوائيًا، لم أمر به قط على مدار السنوات
الماضية، لم أكن أعرف كيف صار فقد تركته وهو مجموعة من العمارات الخاوية على عروشها،
وثمة أشجار تبشر بظل ظليل، ثم لا شيء، فلم يكن طريق المحور قد ظهر بعد، وكانت الخدمات
الحكومية تكاد تكون معدمة.
ثم جاء الأسبوع الماضى، وأجبرتنى ظروف قاهرة على التجول فى
الحى السادس.
بداية إن كنت صاحب سيارة خاصة فأنصحك بعدم استخدامها، لأنك
إن لم يزعق لك نبى لن تجد مكانًا أى مكان «لركن» سيارتك، ولو فعلتها فأنت ونصيبك فيما
سيصيب السيارة من أضرار فادحة.
موقف أتوبيسات الحى السادس، هو أعجب موقف قد تراه فى حياتك،
سيجعلك تتذكر الكلمة الخالدة التى أطلقها اللمبى فى وصف مصر عندما قال: «جمهورية مصر
العالمية».
لن تشعر بعالمية مصر إلا فى موقف الحى السادس من مدينة السادس
من أكتوبر.
أتوبيسات النقل العام التى تذهب إلى رمسيس والتحرير والمؤسسة
وبلاد ما وراء الدائرى، تحترم وضعها الحكومى وتقف بعيدًا عن الموقف بمائة متر تحت ظلال
شجرتين عظيمتين من أشجار البونسيانا، ما الذى جاء بالبونسيانا إلى هذا الهجير؟.
ثم يكتب عليك الله بلاء التوغل فى موقف الباصات.
تمهل يا صاحبى ولا تدع شيئًا يستولى على انتباهك، أنت الآن
فى قلب مشهد عالمية مصر، ستجد «التوكتوك» اللعين والميكروباصات التى تعرفها وسيارات
الأتوبيسات المتوسطة التى تقل بالقانون ثلاثين راكبًا، ولكنها بجشع السائق وغياب الرقابة
وضخامة عدد البشرية تحمل مائة راكب، ثم ستجد كل أنواع المركبات التى تسير على أربعة
إطارات أو ثمانية أو عشرين، بداية من سيارات النقل الصغيرة، ونهاية بالمقطورات العملاقة.
مَنْ صاحب هذا الموقف؟.
يا رجل وهل هذا سؤال، إنها البركة يا صاحبى.
جفف عرقك لكى لا يضبب نظارتك الشمسية أو الطبية، سترى جيدًا
بقعة فى قلب الموقف مسيجة برائحة لا تطاق، إنها رائحة مخلفات خرفان العيد، نعم والله
فى قلب الموقف ما يشبه الحظيرة لتربية الخرفان، وبالقرب منها ستجد الكرشة والفشة ولحم
الرأس والمخاصى والكلاوى، وكل ما تهفو إليه نفسك، أنت لن تقدم على شراء هذه الأشياء،
غيرك جاهز دائمًا، طبعًا لن تتحدث عن التراب والغبار وعادم السيارات وكل ملوثات البيئة
التى تتوج أهرامات المعروضات من اللحوم.
هل تريد مانجو أو بطيخ أو أى نوع من الفاكهة؟.
ستجده فى الموقف.
هل تريد عصير قصب أو عصير برتقال أو أى عصير كان؟
الأمر يسير بعون الكريم، حتى الفطير المشلتت والجبن القديم
والمش والبتاو الصعيدى.
بائعو الملابس موجودون أيضًا، والملابس كما تعلم على نوعين
، حريمى ورجالى، وهذان بدورهما على قسمين خارجى وداخلى، فلا تفزع عندما تجد سيدات وآنسات
فضليات، يقمن باستعراض أشد القطع النسائية خصوصية جهارًا نهارًا بداية من متانة القطعة
مرورًا بمقاييسها ونهاية بطرازها، وإذا كانت الملابس الخاصة جدًا موجودة، فمن الطبيعى
وجود جميع أنواع الأحذية، من حفظ الله مقامك شبشب الحمام إلى الكوتشى الذى يلمع نوره
.
كل ما تريده ستجده فى قلب الموقف، هل تريد إبرة خياطة أو
ريموت للتليفزيون أو أمشطة شعر أو دبابيس أو علب تلميع الأحذية أو خلة للأسنان أو تريد
شيئًا لا تعرف له اسمًا، ستجده بعون الله، فالبائعون خصص كل منهم لنفسه «فرشة» من الكرتون
أو الصفيح أو القماش أو البطاطين وصنع محله الخاص المتنقل، ووضع بداخله أو على أطرافه
ما يريده الزبون.
طبعًا الممنوعات من كذا وكذا موجودة وإن كانت على استحياء،
فهى لها زبونها الذى سيعرف كيف يحصل عليها.
هل هناك كارتة أو أى تنظيم أو أى رقابة من أى جهة كانت؟.
يا رجل كف عن أسئلتك الوجودية، قلت لك سابقًا إنها البركة.
أرضية الموقف ترابية، عفوًا فالكذب على الله خيبة، هى ليست
ترابية إنها تلال من التراب ومخلفات البناء والرمال المحملة بكذا وكذا من مخلفات الإنسان،
فلا وجود لحمام أو أى ساتر يصلح لتلبية الطبيعة.
رأيت على أطراف الموقف مسجدًا يدل خارجه على عظمته، ولكنه
يغلق أبوابه فور نهاية الصلاة، وقد قال لى من يبدو خادمًا للمسجد: «السواقين هيبهدلوه
وهيعملوه لوكاندة».
يعنى لا أمل؟.
على العكس تمامًا، فالأمل فى إدارة الموقف وتحصيل منافع مادية
واجتماعية، بل وإنسانية لا يزال قائمًا بقوة، فلو تكرمت أى جهة مسئولة وأعلنت إشرافها
على الموقف وإدارته وفق نظام صارم مقابل تحصيل رسوم معقولة من أصحاب السيارات لكان
فى ذلك الخير للجميع، ولكن من الذى يريد العمل الجاد المنظم المتعب ؟.
ــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة صوت الأمة السبت، 13 يوليه 2019
سلام عليك يا ابني الفنان والكاتب الساخر أ.عبد الرحيم حمدي
ردحذفأولًا:معذرة أنني كنت جاهلًا بقلمك،واكتشفت ثمار قلمك في الخطوة الأخيرة من العمر
ثانيًا:أهنئ نفسي لأنني بدأت أقرأ لك اليوم فقط
ثالثًا:أخبرك أنني نشرت بعض مقالاتك باسمك -من مصادره-في صفحتي في الفيسبوك:"مقال وتعليق"،وبالتالي في الصفحة الرئيسية..
وشكرًا لك..