هناك رجل عصيّ على التعريف، وخارج على كل تصنيف، فهو ليس مصريًّا ولا عربيًّا ولا أفريقيًّا ولا آسيويًّا ولا مُسلمًا ولا مسيحيًّا ولا يهوديًّا، هو لا يتبع شريعة ولا ينتسب لعِرق ولا ينتمي لدولة، رجل كل شأنه عجيب، وأعجب ما في شخصية ذلك الرجل معرفته الأكيدة باللغة العربية، وإدمانه مشاهدة تليفزيونات العرب.
طبعًا لو سألته لماذا العربية وتليفزيوناتها؟ لن يجيبك سوى بمطّ شفتيه في حركة تُعني: أنا هكذا.
صباح الثلاثاء الماضي فعل الرجل ما يفعله كل يوم، لقد جلس أمام طاولة طعام بسيطة يتناول إفطاره البسيط، وهو إفطار عجيب مثله لا تعرف من أي المطابخ جاء. أضاء بلمسة شاشة التليفزيون ليعرف كيف هو العالم في هذا الصباح؟!
تنقّل بين القنوات، حتى استقرّ على قناة عربية أطلّ منها مارك لوكوك، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
كان السيد لوكوك تبدو على وجهه علامات الامتعاض وهو يخطب فى الجالسين بقاعة كبرى من قاعات الأمم المتحدة. قال السيد لوكوك: "إن نصف سكان دولة اليمن، البالغ عددهم نحو 14 مليون شخص، قد يجدون أنفسهم قريبًا على حافة المجاعة".
الرجل العجيب يعرف اليمن جيّدًا، ويعرف حضارته التي كانت، وسعادته التي بادت، لم يشرُد الرجل العجيب خلف معارفه العجيبة، وانتبه جيّدًا لخطاب السيد لوكوك الذي واصل قائلًا: "يُوجد الآن خطر واضح من مجاعة وشيكة واسعة النطاق تُفرض على اليمن، أكبر بكثير من أي شيء شاهده أي عامل في هذا المجال طوال حياته العملية".
كان الرجل العجيب قد انتهى من تناول إفطاره العجيب، فأشعل سيجارة الصباح ورشف رشفة من كوب قهوته، ثم قال لنفسه: «ما لي وهؤلاء؟ لماذا أنا مشغول بأُناس لا تربطني بهم رابطة؟ الحقيقة أنا لا أنتمي لأيّ بقعة في هذا العالم، فلماذا أُطارد أخبار اليمن؟ ولماذا أُعكِّر صفاء صباحي بأخبار هؤلاء الجوعى؟».
انتهى من حديثه لنفسه، ثم ذهب إلى قناة ثانية مُمنّيًا نفسه بأخبار طيّبة عن يمنه السعيد، رأى نائب المندوب اليمني لدى الأمم المتحدة يتحدّث، العجيب أن نائب المندوب لم يُنكر حرفًا من كلام السيد لوكوك، بل زاد عليه وقال: "إن الأحوال في بلادي لا تُوصف بأقل من الكارثة، ولكن ماذا نصنع مع الحوثيين الذين يُعطّلون تدفق المساعدات، في سعيهم الخبيث للسيطرة على مفاصل الدولة؟".
ذهب الرجل العجيب إلى قناة تُغطّي أنشطة الحوثيين، فسمع قياديًّا حوثيًّا يقول: "نحن نموت جوعًا، ولكن ماذا نصنع مع حُكّام بلادنا الذين يريدون فرض المجاعة علينا، ويقصفون بيوتنا ومصانعنا ويجرفون مزارعنا؟".
ذهب الرجل العجيب إلى قناة تُغطّي أنشطة جامعة الدول العربية، فلم يجد سوى صورة لقاعة فاخرة خاوية على عروشها.
ذهب الرجل لقناة تبثّ من صنعاء، فوجدها تبث أغنية راقصة يقول مطلعها: «صبّوا هالقهوة وصبّوها وزيدوها هِيل/ واسقوها للنشامى ع ظهور الخيل».
أغلق الرجل التليفزيون وغادر مقعده، ذهب لشُرفته ليرى شمس الله، تشوّشت أفكاره، فرأى سور الشرفة وقد أصبح حصانًا عربيًّا أصيلًا، قفز قفزة رائعة ليمتطى ظهر حصانه، فهوى من شُرفة الطابق السادس ساقطًا إلى الأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة صوت الأمة 27 أكتوبر 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق