فى الذكرى الخامسة لرحيل عميد الدراما العربية
نكشف الأبطال الحقيقيين لمسلسلات أسامة أنور عكاشة
اليوم (28 مايو 2015) تحل الذكرى
الخامسة لرحيل عميد الدراما التليفزيونية أسامة أنور عكاشة.
ولا أقول عميد الدراما من باب
مجاراة وصف شاع ولقب جرى إطلاقه على الراحل الكريم، ولكن من باب معايشة ودراسة لرواياته
المصورة، التى أنجز من خلالها ما أنجزه محفوظ فى الرواية المكتوبة، الرجلان حملا عبء
الريادة وتحملا مسؤولية التطوير والتحديث، نعم كانت قبلهما أسماء بارزة، ولكن بسطوعهما
توارت الأسماء حتى كأنهما بدآ كتابة التاريخ الجديد للرواية المكتوبة والمصورة.
المعدة الفارغة
كأن الكتابة ضربًا من ضروب الرياضة
البدنية العنيفة، التى لا يمكن ممارستها والمعدة خاوية فارغة تشكو الجوع، كذا الكتابة
تحتاج إلى معدة وقلب ووجدان ورأس لا يشكو كل أولئك من الجوع شيئًا، لقد كانت معدة أسامة
متخمة بألف تجربة وتجربة، ولد ابنًا لتاجر ماهر (سنعود إليه فى ما بعد) فى 26 يوليو
1941، كانت الحرب العالمية الثانية تحفر فى الوجدان العالمى خندقًا من خنادقها التعسة،
لا جدال فى أن قلب الطفل الصغير قد توشح بوشاح من دم ولو من خلال ما تلتقطه أذن الطفل
من حكايات أسرته فى ليالى الشتاء، عن قتلى الحرب ومشرديها.
بعد نهاية الحرب بأربعين سنة سيعود
أسامة وقد نضج تماما لكى يقص أخبارها فى عشرات الحلقات من رواياته المصورة.
تقول «ويكيبيديا» إنه حصل فى العشرينيات
من عمره على ليسانس الآداب من قسم الدراسات النفسية والاجتماعية، وعمل بعد تخرجه إخصائيا
اجتماعيا فى مؤسسة لرعاية الأحداث، ثم عمل مدرسًا فى مدرسة بأسيوط ثم انتقل إلى العمل
فى إدارة العلاقات العامة بديوان محافظة كفر الشيخ، انتقل بعدها للعمل فى رعاية الشباب
بجامعة الأزهر وذلك من عام 1966 إلى عام 1982 ثم قدم استقالته ليتفرغ للكتابة.
هل تشير كل هذه الوظائف إلى شىء؟
نعم تشير، ونعم سيظهر أثرها جليًّا
فى روايات عكاشة التى ستجعل الشوارع تخلو من المارة وقت إذاعتها.
مقالات «الأهرام»
قبل رحيل عكاشة بسنوات قليلة عادت
جريدتنا الكبرى «الأهرام» إلى عريق تقاليدها وضمت عكاشة المحسوب على أرضية اليسار المترامية
الأطراف إلى كوكبة كتابها.
كتب عكاشة لـ«الأهرام» مئات المقالات
التى تناولت شتى القضايا، لكن قضية بعينها ظلت هى الأثير لديه، كان دائما يحوم حولها
كما يحوم الفراش حول الضوء، إنها قضية «خبرته هو الحياتية».
استعار خلال المقالات ألف وجه
ووجه، ونسب كلامه مرة إلى صديق «مناكف» ومرة إلى الصديق «أبو العريف»، ولكن ظل وجه
عكاشة يلوح من خلف القناع الشفاف الذى يتقنع به.
تلك المقالات سيضمها كتاب سينشره
أسامة تحت عنوان «على الجسر» وقد ضمنه أبرز مقالاته بعد أن جعلها على قسمين رئيسيين،
الأول يضم المقالات ذات التوجه العام، والأخير يضم تلك السلسلة التى نشرها تحت عنوان
«تلك الأيام».
هل أجازف وأقامر وأقول إن كتاب
المقالات هذا هو فى حقيقته ليس إلا صورة من صور السير الذاتية؟
نعم أجازف ولدى الأدلة.
كأن أسامة نفسه كان يعرف أن خاطرا
كهذا سيعرف طريقه إلى ذهن قارئه، لذا راح يثبته ولو بالإيحاء وذلك عندما يهدى كتابه
«إلى صاحب الأيام.. الأستاذ العميد».
استدعاء طه حسين وأيامه الشهيرة
لا أراه مجانيًّا بحال من الأحوال، عكاشة فى إهدائه كان يغازل روح أيام العميد لكى
تبوح له أيامه هو بأسرارها الدفينة.
مرة ثانية ليس من المجازفة أن
أقول إن تلك المقالات هى سهام إشارة إلى الينابيع الأولى التى اغترف منها عكاشة فنه
الخالد.
رقية وأخواتها
فى مقال حمل عنوان «امرأة مؤجلة»
كتب عكاشة عن بنت الأكابر المنعمة التى أحبت الشاب البسيط الذى يدربها على لعبة التنس،
قالت بطلة المقال لعكاشة إن أهلها قد رفضوا رفضا باتا زواجها من حبيبها، ثم لانوا بعد
إعلانها: «هو أو لا أحد».
تقول البطلة التى عن عمد لا يحدد
لها عكاشة اسما: «ثم صدر القرار النهائى (تزوجيه) إذا أردتِ ولكن لن تكون لك بعدها
أسرة».. ولم أتراجع.. خرجت من فيلا أبى المليونير بحقيبة ملابسى وعبرت النيل إلى دوران
خلوصى.. حيث كان رشاد (الحبيب) ينتظرنى.. وصحبنى إلى بيت أسرته.. وفى مساء اليوم نفسه
عقد قرانى عليه.. وكان وكيلى الشرعى فى العقد عمى الذى كان على خلاف قديم مع أبى..
وحددنا للزفاف يوما يوافق انتهاء (الترزى) من إعداد فستان الزفاف.. وليلتها.. ضاع نصفى
الآخر.
قتلوه! نعم لم يكن حادثا عرضيا
بالمرة كما لفقوه وصدقهم البوليس.. كانت خطة محبوكة وما زلت على يقين من أن اللورى
الذى صعد وراء رشاد على الرصيف وحشره فى الحائط وحطم ضلوعه.. كان بشكل أو بآخر واحدا
من أسطول النقل الذى يملكه أبى، رغم الأوراق المزورة التى دست على جهات التحقيق».
تنهى بطلة المقال بوحها لعكاشة
بأنها رغم مرور أكثر من عشرين سنة على مقتل حبيبها فهى لم ولن تتزوج ولم ولن تقترب
من رجل، لقد مات رجلها الذى يقف دائما بينها وبين الرجال وعالمهم، لقد أصبحت امرأة
مؤجلة.
والآن هل يذكرك هذا النموذج بشىء؟
أليست تلك كحكاية «رقية البدرى»
إحدى بطلات «ليالى الحلمية»؟
ألم تصرخ رقية كثيرًا فى وجه شقيقها
لأبيها «سليم البدرى» وهى تتهم آل البدرى طواغيت زمن ما قبل 23 يوليو 1952 بأنهم قتلوا
حبيبها ليلة عرسهما لأنهم لم يرضوا به صهرًا لهم.
وبعده عاشت امرأة مؤجلة لا تصنع
شيئًا سوى البكاء على حمامة بيضاء كانت تحط على شباكها ثم طارت راجعة إلى أهلها.
ثم أليست حادثة قتل الحبيب هى
عماد إحدى درر تاج عكاشة أعنى «الشهد والدموع» عندما تأكدت «زينب» من غياب شهدها ومجىء
زمن دموعها بعد أن قتلوا «شوقى» حبيبها، حتى لو كان القتل قد جرى بيد أخيه «حافظ» أو
بتوصية منه ولصالحه؟
ثم هناك قتل ثالث كان داميًّا
وفتت عالما بأكمله، أذكرّك أن بطلة «عصفور النار» وشقيقها كانا يبحثان على مدار حلقات
المسلسل عن حادث القتل الغامض الذى راح أبوهما ضحيته، وكانا يلمحان إلى أن عمهما عمدة
القرية قد تخلص من شقيقه، أبيهما، لكى يغتصب مقعد العمودية.
المرأة المؤجلة تقف خلف كل تلك
النماذج التى قدمها عكاشة فى عدد من أبرز وأجمل رواياته، لقد اغترف من الينبوع غرفة
ثم صنع هو بموهبته الفذة الجداول التى حملت إلينا فنه.
ظهور الخواجات
يبدو ولع عكاشة بتقصى حقيقة الوجود
الأجنبى على أرض مصر واضحا، بل واضحا جدا، حتى إنه أفرد رواية بكاملها لمناقشة سؤال
الهوية ومدى كون مصر قادرة دائما على تمصير حتى الوافدين إليها ولو كانوا مستعمرين
غزاة النماذج التى قدمها عكاشة فى روايته «زيزينيا» لا تأتى من فراغ، إنها قادمة من
عالم حقيقى عاشه عكاشة فى طفولته وباكورة شبابه.
فى مقال حمل عنوان «فى المغارب»
يرفع عكاشة الستار عن الخواجة الأول فى حياته، يقول: «كان للخواجة تودرى دكان بقالة
كبير يحوى (خمارة) يلجأ إليها هؤلاء الأشخاص الذين يصفهم الأب وأصحابه بأنهم (خمورجية)..
وكان تودرى يبيع فى محله أيضا تلك اللحوم المصنعة ذات الأسماء المريبة التى يحذره الأهل
من أكلها.. وكان يسمع لفظ (البسطرمة) فيشعر بمزيج من الفضول والتشوق والخوف معا.. وحين
أخبره طفل آخر صديق بأنه سيصطحبه لبيته ليذاكرا معا ووعده بأن يقدم إليه طبقا من (البسطرمة
بالبيض) أصيب بالهلع وكاد يولى هاربا لولا أن غلبه فضوله فمضى إلى بيت صديقه..و(استبيع)
وأكل البسطرمة لأول مرة.. ولكنه اعترف لأبيه باكيًّا بسقطته.. وفوجئ حين رأى الأب يضحك
ويهش له:
- وماله؟.. البسطرمة واللانشون
والبولوبيف مش حرام».
الخواجة تودرى اليونانى سيظهر
بشحمه ولحمه ولكن بعد نحو نصف القرن فى رواية «زيزينيا» سيكون كما وصفه عكاشة فى مقاله،
وسيحمل الاسم ذاته، وسيصاحب المصريين كأنه مصرى، وسينفر من الاحتلال البريطانى كأنه
واحد من أولاد البلد الذين تزدحم بهم أحياء الإسكندرية الشعبية.
وإلى جوار تودرى سيظهر باقى الخواجات
وعلى رأسهم عميد الجالية الإيطالية سنيور «جوفالى» الذى ستحب شقيقته الحاج عبد الظاهر
التاجر المصرى اللعوب المزواج وتلد له ابنه الهجين «بِشر» نصفه مصرى معجون بتراب كوم
الشقافة والأنفوشى والسيالة، ونصفه إيطالى حيث لا تكف موسيقى فيردى عن مزاحمة ألحان
سيد درويش.
الكتاب ممتلئ بذكر الأب التاجر
بحيث لا يخلو مقال من ذكره صراحة أو تلميحا، هذا الأب الذى يحدد الكتاب مهنته هو الأصل
والينبوع الحقيقى الذى استقى منه عكاشة شخصية الأب الحاج «عبد الظاهر» أحد أبطال رواية
«زيزينيا».
الأب فى الكتاب أو الرواية، رجل
ماهر حنكته التجارب، يعلم أن التجارة كالدنيا يوم لك ويوم عليك، يشقى حتى كأنه لا يعرف
الراحة، ثم فجأة يتذكر حظه من الدنيا فيسعى خلفه، يحب عبد الناصر ويقدر له طرد المحتل
وتأميم القناة، لكنه لا يغفل هواه الوفدى.
الحاج عبد الظاهر هو صورة عكستها
مرآة أسامة أنور عكاشة لوالده الحقيقى.
ارتباط أسامة بوالده التاجر هو
الذى دفعه إلى تقديم نموذج التاجر فى معظم أعماله، حتى لا تكاد تخلو رواية من تاجر،
بداية من التاجرة المتوحشة «فضة المعداوى» وصولًا إلى تاجر الأنتيكات فى «لما التعلب
فات» ونهاية بالعم «لطفى» صاحب كشك السجائر فى «أرابيسك».
كل هذا الزخم ما هو إلا تنويعات
على نغمة رئيسية عرفها أسامة من خلال معاشرته لأبيه.
جذور كمال خلة
نادرًا ما تجد رواية لعكاشة تخلو
من شخصية مسيحية، تؤدى دورا رئيسيا وفاعلا.
وقد سئل عكاشة مرة عن سبب إصراره
على تضمين رواياته لأشخاص بل ولأسر مسيحية، فكان من ضمن ما قاله فى الرد على هذه التساؤلات:
«إنه يرى حتمية درامية فى وجود المسيحيين فى رواياته، ليس من باب الوحدة الوطنية وباقى
تلك الشعارات التى جرى ابتذالها من كثرة استخدامها فى غير موضعها، ولكن لأن المسيحيين
مكون رئيسى من مكونات الأمة المصرية، ولا يمكن لروائى مصرى أن يتجاهل تلك الحقيقة بشرط
أن يقدمها بعيدا عن التهويل أو التهوين».
المتابع لروايات عكاشة سيتذكر
على الفور شخصية «كمال خلة» التى ظهرت فى درة أعمال عكاشة «ليالى الحلمية»، خلة ذلك
الضابط الوطنى عروبى الهوى والمزاج، الذى شارك فى عمليات الفدائيين وقت معركة القناة
قبل ثورة يوليو 1952، ثم صعد نجمه مع الثورة، ثم جرت فى النهر مياه كثيرة، حتى إن خلة
كان يسأل نفسه دائما بعد انفراط عقد الثورة ونكبتها فى الخامس من يونيو: «إزاى إحنا
بقينا كده».
ثم هناك سيدة العلم والتعليم
«مارسيل» فى رواية «ضمير أبلة حكمت» التى تحالفت مع «حكمت» ليشكلا فريقا واحدا يواجه
أطماع مسلمى ومسيحى الانفتاح، هؤلاء المتنطعون الذين يستترون بمزاعم دينية لتحقيق أسوأ
مصالحهم الشخصية على حساب وطن يئن مطالبا بالتوحد لا الفرقة البغيضة.
فى المقال سالف الذكر «بعد المغارب
سيحدثنا عكاشة بضمير الغائب عن نفسه وعن طفولته التى عاشها بين جيران مسيحيين». يقول
عكاشة: «وتعلم أيضا أن بين المصريين أنفسهم اختلافا فى الدين، لكنه أبدا لم يؤثر بمقدار
شعرة فى امتزاجهم وتوحدهم.. وفى تلقى الدرس الأول فى البيت الذى جاورتهم فيه (خالتى)
أم رمسيس التى كانت تصعد مع بناتها ليشاركن أمه وأخواته صنع (كعك العيد).. وكان هو
حين لا يعجبه الصنف المطبوخ فى شقته يهرع إلى شقة أم رمسيس ليتناول الطعام.. وقال له
أبوه: الست أم رمسيس لن تقدم لك أبدا طعاما به شبهة.. فكل ولا تخش شيئًا».
فى رواية «امرأة من زمن الحب»
سيظهر رمسيس باسمه ورسمه وستظهر عائلته كلها، وسيكون رمسيس فى الرواية مصدرًا للبهجة
وللطعام الطيب.
نكتفى هذا الأسبوع بتلك النماذج
الدالة، ونكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر الموضوع بجريدة التحرير بتاريخ 28 مايو 2015
الجزء الثاني سينشر الخميس القادم بإذن الله
عندما يكتب مبدع عن مبدع ننوالي الإشرافات، وتضاء أركان كانت في السابق معنمة
ردحذفالأستاذ صلاح الكريم
ردحذفشكرًا لتعليقك الراقي، وجعلني الله على قدر ثقتك الغالية