حاور الكاتب الصحفي الأستاذ سعيد الشحات الفنان الكبير محمد رشدي رحمه الله في النصف الأول من الثمانينات، ومنذ ذلك الحوار القديم وقلب الشحات يتوق لتسجيل مذكرات محمد رشدي، راحت سنون وجاءت غيرها والمشروع قائم لا ينام في قلب سعيد، ثم جاءت اللحظة وحصل الشحات على تسجيلات غاص فيها رشدي في أدق تفاصيل حياته، وكان الشحات ينوي نشر المذكرات قبل العام 2005 وهو العام الذي شهد رحيل رشدي، ولكنه تهرب من النشر رغم مطاردة كثيرين له، سيذكر الشحات في مقدمة المذكرات التي نشرها أخيرًا عن دار نشر ” ريشة ” تحت عنوان ” مذكرات محمد رشدي / موال أهل البلد غنوة ” أسبابًا عن تهربه، وعندي أنا أن أسباب الشحات رغم ما تحلت به من منطق إلا أنها تلك القمة المدببة التي تخفي تحتها سفحًا عريضًا ضخمًا مُهيبًا.
الحق أن شحنات الصدق التي ضمتها المذكرات قد أرهقت الشحات، لقد سمع
الشحات ولكن السماع شيء وتدوينه شيء آخر مختلف تمامًا ومرهق غاية الإرهاق.
رشدي للذين عرفوه يمثل عالمًا شاسعًا من القصص الموجعة والحكايات
النادرة ويمثل مرحلة في تاريخ الغناء العربي تعد بكل المقاييس أسطورية، الشحات
أدرك تلك المعاني فنفر من الابتذال،والابتذال كان سيتحقق لو أنه ترك الحبل على
الغارب لرشدي يحكي كما شاء، الشحات أراد قالبًا صارمًا ينزل الحقائق حق منزلتها،
لا مجاملة ولا نفاق ولا ترخص، ولا أكاذيب يطلقها حاملو المباخر، كان رشدي يتكلم
ولكن الشحات كان جاهزًا للقيام بدور المونتير الذي له رهافة عازف البيانو وحسم
الجراح، يقطع الحكاية ليذكر خلفياتها التاريخية ويفك خيوطها ليصفيها من خداع
الذاكرة التي تنحاز دائمًا وأبدًا لصاحبها.
هذا القالب أرهق الشحات ففرضه على قارئه، فأنت تقرأ عن صراع ساخن
جدًا ولكنه بين عبد الحليم ورشدي وعبد الوهاب وأم كلثوم، فتسأل نفسك عن الصراعات
الدائرة الآن وعن الأسماء المتورطة فيها!
ثم كان الصراع عن الفن وحول الفن ولا شيء غيره، فعلام يتصارع القوم
اليوم، ستحلق مع الكتاب حتى تلامس سماء الفن الصافية، وما أن تنتهي من القراءة حتى
تسقط من شاهق إلى هاوية أغنيات الهلوسة!
سأورد مثلًا واحدًا يكشف صرامة القالب الذي صب فيه الشحات كتابه، تحدث رشدي عن دور فريد باشا زعلوك في حياته ومدح الرجل ومواقفه، واحد غير الشحات كان سيكتفي بما قاله رشدي وهو طيب ويكفي، ولكن الشحات فتش دفاتر التاريخ التي تحتوي على ذكر آل زعلوك ليتحف قارئه بقصة هي أقرب للكارثة التي تدمي القلوب.
تقول سجلات التاريخ التي كشفها الشحات: إن إبراهيم باشا ،ابن محمد
علي باشا، كان خارجًا في حملة عسكرية قاصدًا شبه الجزيرة العربية، في ذلك اليوم
كان من بين مودعيه كبير آل زعلوك إسماعيل زعلوك عمدة دسوق بكفر الشيخ، لسبب ما لم
يغادر إسماعيل القلعة فور خروج الحملة، جاء صباح الثاني من مارس من العام 1811
ليأمر محمد علي بإغلاق أبواب القلعة، فاللحظة هي لحظة إبادة الأمراء المماليك،
إسماعيل بن زعلوك المصري الذي لا علاقة تربطه بالمماليك ذبح مع الذين ذبحوا، وبعد
الذبح صدر فرمان الباشا بالاستيلاء على كل أملاك المذبوحين، لقد ضاعت ثروات آل
زعلوك لأن كبيرهم كان بالقلعة في تلك اللحظة، ثم بعد جهاد عفا الباشا عن آل زعلوك
وعادت إليهم بعض ثرواتهم، كل جميل سيقدمه فريد باشا زعلوك لمحمد شدي سينطلق من
تلك اللحظة المفصلية.
وقديمًا قال أبو الطيب:” أفْعَالُ مَن تَلِدُ الكِرامُ كَريمَةٌ
“.
أم حنون
ولد رشدي في العام 1928لأسرة بسيطة كثيرة العيال، وتعرض رشدي في
طفولته لحادث أليم فقد أنفصل أبواه، وتزوج الأب لمرة ثانية، أم رشدي راهنت عليه
بوصفه جوادها الرابح، فحرصت وهى السيدة الأمية على تعليمه، الأب كان كأنه زوربا
المصري، فنان تلقائي، جميل الصوت حافظ للتراث، صاحب خبرات عريضة بالحياة، ولكنه
يظل النسخة المصرية من زوربا اليوناني .لا يفكر لأبعد من لحظته، يمتص رحيق الحياة،
ثم الأرزاق بيد الله.
تأثر رشدي (اسمه الحقيقي رشدي محمد وليس محمد رشدي) بأبيه فقد جمع
بينهما الفن وورث رشدي عنه الصوت الحسن، الأم من ناحيتها قاتلت قتال الأبطال لكي
لا يجرف الفن وحيدها فهو ذكر على ثلاث بنات.
عندما وصل رشدي إلى قمته كان يسأل إحدى شقيقاته : هل سمعتني أمي يومًا
؟.
فترد الأخت:" لا، لم تسمعك ولو مرة " لحظتها كانت الحسرة تأكل قلب رشدي، فقد كان يتمنى لو سمعته أمه وأصبحت من معجباته فهي سيدة قلبه بلا منازع.
صراع رشدي مع أمه جعله يتوقف عند الحصول على الشهادة الإعدادية، ثم
يضرب في الأرض باحثًا عن الرزق فعمل في حقول القطن والأرز ثم في مضارب الأرز وعمل
في كل عمل شريف يدر عليه قروشًا يساعد بها أمه التي ظل يحبها بطريقة جنونية حتى
وهى تقف بينه وبين الفن.
خلف قناع الصرامة الذي كانت أمه تتقنع به لمح رشدي قلبًا ذهبيًا
يتدفق بالمحبة غير المشروطة وبالحنان الغامر، ولعل تلك المفارقة هي التي جعلت صوت
رشدي مزيجًا من الدموع والضحكات.
شهادة أم كلثوم
يبرع الكاتب الأستاذ سعيد الشحات في تصوير المرحلة الانتقالية في
حياة رشدي، وهى تلك المرحلة التي شهدته صبيًا حتى مغادرته إلى العاصمة القاهرة.
القصة كما يصورها الشحات لم تكن قصة رشدي أو غيره، لقد كانت قصة
الفن المصري كله.
في ذلك الزمان لم يكن مسموحًا لك أن تقدم فنًا أي فن ما لم يقدم لك
المجتمع جواز المرور، كان للأمر قانون في غاية الصرامة لا يفلت منه أحد، ستغني
أولًا أمام الأصدقاء فإن أعجبوا بك ستنطلق لدائرة أوسع، ستطارد كل الراسخين تسعى
خلفهم بين القرى والكفور والنجوع، ستتعلم
منهم وتتشرب سر الصناعة، نعم كان الفن صناعة ثقيلة، فإن تعلمت سمح لك أحدهم
بأن تكون من بطانته، تظل واقفًا على قدميك لساعات لكي تردد خلف المغني جملة أو
جملتين، ذلك التدريب القاسي، يجعل عود الفنان صلبًا لا ينحني لعواصف قادمة لا
محالة، وتجعله يدرك أن الفن رسالة وليس لهوًا ولا عبثًا من العبث.
ذاق رشدي كل مرارة هذه التجارب حتى قيض الله له رجلًا يدعى أحمد
الدفراوي، والدفراوي هذا هو عم الفنان الكبير محمد الدفراوي، وقد أعجب الرجل برشدي
وبخصوصية صوته فحرضه على المغادرة إلى القاهرة.
مربك أن فريد باشا زعلوك قد قتل محمد على جده إسماعيل زعلوك، ومن
يومها وآل زعلوك يصرون على تقديم شيء لأمتهم كان فريد ثوريًا من الطراز الأول
محبًا لوطنه معاديًا للاحتلال البريطاني، وقطبًا من أقطاب الوفد عندما كان الوفد
حزبًا للأمة.
رأي فريد خوض انتخابات مجلس النواب عن دائرة دسوق، وكان قد سمع عن
جمال صوت رشدي فعقد معه صفقة تاريخية، قال له فريد باشا: ستتولى الدعاية لي بصوتك،
وإن أنا نجحت سأجعلك تدرس الموسيقى في القاهرة.
نجح فريد باكتساح بمساعدة صادقة من صوت رشدي الذي كان يرتجل غناء
الهتافات الانتخابية، وجاءت أم كلثوم لتغني في حفل نجاح فريد، ليلتها قامر رشدي
بكل شيء ، نستمع لرشدي وهو يروي الواقعة العجيبة:"
جاءت أم كلثوم إلى دسوق مع “الحسينى” شقيق “فريد” وكان رئيسا للسكة
الحديد فى القاهرة، ومقربا من مصطفى باشا النحاس زعيم حزب الوفد، كان حضور أم
كلثوم إلى دسوق حدثا كبيرا فى المدينة وكبيرا لى أنا شخصيا، كان السرادق فى قصر
فريد زعلوك، وكانت السيدات فى الحرملك للاستماع إلى أم كلثوم، وأثناء عشاء فرقتها
الموسيقية، صعدت على المسرح ومعى طبيب الوحدة الصحية الدكتور لطفى.. وقف لطفي
وكأنه قائدا لفرقة موسيقية، فأمسك بمشط ووقف بجواري، وقدمت أغنية “أنا فى انتظارك”
لأم كلثوم: “أنا فى انتظارك خليت/نارى فى ضلوعى وحطيت/إيدى على خدي وعديت
/بالثانية غيابك ولاجيت/ياريتنى عمري ماحبيت”.
انتهيت من الأغنية، صفق الناس، نزلت من على المسرح، وجهوني إلى أم
كلثوم، كانت فى حجرة انتظار كبيرة، سلمت عليها، مسكت إيدى، وسألتنى: “انت بتغنى
فين ياواد؟. كانت كلمة “ياواد” دليلا منها على الانبساط والتبسط.. قلت لها: “هنا
فى دسوق، فى الأفراح”.. التفتت إلى فريد زعلوك: “الولد ده صوته يجنن، هيبقى مهم،
خد بالك منه يا فريد”..رد فريد: “أنا وعدته يدرس فى القاهرة فى معهد الموسيقي”،
هزت أم كلثوم رأسها: “لازم، لازم، يا فريد تنفذ وعدك”.
سرقة عبد الوهاب
أوفى فريد باشا بوعده وطلب من رشدي الحضور إلى القاهرة، على رصيف
المحطة سيلتقي رشدي بعبد الحليم حافظ الذي كان اسمه عبد الحليم شبانه، سيصعدان إلى
نفس القطار وسيقطعان المسافة في الغناء، وسيدرك رشدي أن صوت عبد الحليم من خامة
خاصة.
دخل رشدي معهد الموسيقي، ولا تظن أن الأمر قد مر على أهله مرور
الكرام، لقد خاض رشدي معارك طاحنة لكي يحصل على موافقتهم لكي يتعلم الموسيقى، كان
ينجح في الدراسة فيزداد فقرًا، فكل دخله ليس أكثر من ثلاثة جنيهات شهريًا، فكان
يقضي يومه في النوم والتدريب لكي لا ينفق قرشًا أزيد من اللازم.
ثم رأى أن يذهب إلى واحد من أهل دسوق كان يعمل فراشَا في مكتب
الموسيقار محمد عبد الوهاب، عمل رشدي في مكتب عبد الوهاب الذي لم يسأله قط:"
من أنت؟"
كان عبد الوهاب فاتنًا وكان رشدي يبحث عن طوق نجاة، وقد وجد الطوق في
سلة مهملات عبد الوهاب، فبعد مغادرة عبد الوهاب لمكتبه كان رشدي يفتش السلة بحثًا
عن أي شيء ينقذه من فقره، وجد رشدي غنيمته، لقد وجد كلمات أغنية عبد الوهاب الشهيرة”
أنت أنت ولا أنتش داري “.
كان رشدي قد سمع الأستاذ يدندن لحنها فأخذ الكلمات واللحن وراح يغني
الأغنية في الأفراح والحفلات الشعبية وعلى المقاهي بوصفها أغنيته الخاصة، نجحت
الأغنية نجاحًا ساحقًا وعرف الجميع أن مطربًا شابًا مغمورًا يدعى محمد رشدي يمتلك
صوتًا جبارًا وأغنية عظيمة.
وفي ليلة من الليالي كان عبد الوهاب نجم حفل وفدي، وقدمه للجمهور أحد
أعظم وزراء خارجية مصر محمد صلاح الدين، وبدأ عبد الوهاب في غناء لحنه الجديد” أنت
أنت” وهنا صاح الجمهور متهمًا عبد الوهاب بسرقة أغنية فنان شاب!
هنا جن عبد الوهاب وأدرك أن جاسوسًا في مكتبه فقام بطرد كل العاملين
تخلصًا من الجاسوس.
بعد تلك الواقعة سقط رشدي في الضياع، كان يستهلك عمره في لعب الورق
على المقاهي وتدخين السجائر، وفي تلك السنوات كان عبد الحليم رفيق رحلة القطار
يصعد بسرعة الصاروخ.
سقوط رشدي كان خلفه سؤال وجودي لا يخطر إلا على بال فنان حقيقي، كان
رشدي يسأل نفسه صباح مساء:” مَنْ أنا وماذا أريد؟ “.
كان رشدي يجيب على سؤاله قائلًا لنفسه:” أنا رجل كذاب”.
هذه إجابة مؤلمة جدًا ولا ينطق بها إلا صادق مع نفسه باحث عن طريق نجاة.
منذ البداية عرف رشدي أن الغناء المصري بل العربي هو على قسمين لا
ثالث لهما، غناء صالونات وغناء شوارع.
كل الناس تغني غناء الصالونات وهو غناء طيب وجيد ولا غبار عليه ولكنه
ليس غناء الناس، وغناء الشوارع له ضريبة باهظة، فعندما تنتمي لناس الشوارع لا بد
أن تكون صادقًا.
كان رشدي يريد الغناء للحبيبة ولكن الحبيبة التي يعرفها، ستكون بنتًا
من النجوع وليكن اسمها ” ست أبوها ” ولتكن زينتها ملاحة وجهها فقط، ولتكن ملابسها
الجلباب البلدي والمنديل المشغول، أما الحبيبة المعطرة المترفة فرشدي لا يعرفها
وعندما يغني لها يشعر بأنه يكذب وبأن صوته يذهب أدراج الرياح.
تواصلت سنوات الضياع إلى أن وقعت الواقعة وأصبح الشاب الوسيم محمد
رشدي مقعدًا لا يقوى على الحركة.
نواصل في الجزء الثاني بإذن الله.ــــــــــــــــــــــــــ
نشر بموقع أصوات
19 أغسطس 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق