كيف سيكون شعورك، عندما تفتح عينيك على الحياة فتجد أن والدك هو الدكتور عميد الأدب العربي طه حسين؟ ستقول: سأكون سعيدًا بدون أي شك.
أنت محق في شعورك بالسعادة، ولكن هل لديك فكرة عن مصيرك عندما يكون أبوك هو طه حسين؟
أرجوك لا تجب الآن، ولتكن إجابتك بعد معرفتك بقصة الدكتور مؤنس طه حسين.
ولد مؤنس في الثامن من سبتمبر من العام 1922. وعند ميلاده كان أبوه رجلًا صاحب سمعة وصيت، فهو كاتب مرموق وأستاذ جامعي قدير، ينشر علمه على تلاميذه وما فاض منه ينشره على قراء الجرائد والمجلات.
في طفولة مؤنس أصبح أبوه يملأ الدنيا ويشغل الناس، فقد أصدر كتابه الصادم «في الشعر الجاهلي» وهو الكتاب الذي وإن جلب له أزمات طاحنة إلا أنه جلب له شهرة ومكانة قلما تمتع بها كاتب.
المأساة
أم مؤنس هي السيدة سوزان، الفرنسية قلبًا ولغة، كان أبوه في شغل دائم على مدار ساعات الليل والنهار، فهو يؤسس لمجده في زمن كان منافسوه فيه أمثال العقاد، باختصار نقول: طه حسين لم يكن رجلًا فردًا، لقد كان في تلك السنوات مؤسسة، يديرها هو بنفسه ولنفسه، فعن أي ساعات فراغ نتحدث.
مؤنس لم تكن له سوى شقيقة واحدة هي السيدة أمينة (لاحظ عروبة طه حسين في اختيار أسماء أولاده).
فمع من سيلهو مؤنس، ومع من سيتحدث، والأهم مَنْ سيعلمه فنون الحياة؟
ليس أمامه سوى أمه الفرنسية، فتلقى عنها الفرنسية التي هي ليست اللغة فحسب، بل معها التفكير والوجدان.
نام العميد وصحا، فرأى أن يختبر ابنه في العربية التي هو عميد أدبها. لم نعرف وظني أننا لن نعرف طبيعة الاختبار وأسئلته، ولكن سنعرف أن مؤنس تلجلج ولم يجب على شيء من أسئلة أبيه.
وظني أن العميد قد سمع جرسًا أعجميًا ولكنة مستهجنة، وتعثرًا واضحًا في النطق، واضطرابًا في مخارج الحروف.
لقد عرف العميد على وجه القطع واليقين أن ابنه فرنسي باسم عربي.
الآن أنا مشفق على العميد وظني أنه زفر زفرة ذهبت بنصف قلبه وهو يقول لنفسه: أنا طه حسين ابن فصاحة القرآن وبلاغته، ربيب أروقة الأزهر، عميد أدب العرب يولد لي هذا الذي يرطن فلا أعرف لكلامه رأسًا من قدمين؟
الصحوة
قرر العميد إنقاذ ما يمكن إنقاذه فجاء بمدرس عربي ينقذ عروبة ابنه، ولكن هيهات، لقد كان قلب مؤنس، قد أُشرب الفرنسية وانتهى الأمر. تحرك مؤنس في دوائر الفرنسيين المقيمين في القاهرة، ونفض العميد يديه من أمر تعليمه العربية، ثم بعد قليل وبقلب الأب وفّر لابنه أرقى تعليم فرنسي، بل أحاطه بمناخ ثقافي عظيم، فضيوف الأب من أمثال توفيق الحكيم وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل كانوا في مقام أعمام مؤنس الذين يبشون في وجهه ويمدون له يد العون متى طلب معونة على أمر من الأمور.
من ناحيته لم يكن مؤنسًا عالة على سمعة والده، لقد كان وهو في سنوات مراهقته من أولئك الفتيان الأذكياء الشجعان الذين يشعرون بحرارة المصيبة، نعم كان مؤنسًا يدرك وضعه، فهو العربي ابن عميد الأدب العربي الذي لا يعرف كيف يقرأ مقالًا لوالده.
تلك النقمة جعلها مؤنس نعمة، لقد قرر أن يكون فارسًا من فرسان الفرنسية التي رضعها من ثدي أمه. الجينات تلعب دورًا لا شك في هذا، فطه حسين هو أديب عظيم والأم مثقفة تعرف كيف تتذوق الآداب والفنون، ثم قلب مؤنس مترع بتلك الرهافة التي تتيح لصاحبها التأمل والقراءة المختلفة للحياة.
كل تلك العوامل جعلت من المراهق مؤنس شاعرًا فرنسيًا لا يشق له غبار فقد نشر ديوان شعره الأول «شاحباً كان الفجر» وهو في السادسة عشرة من عمره.
مضت السنون ثم تذكر مؤنس أيام طفولته وصباه، فنقلت عنه الكاتبة لوتس عبد الكريم ما قاله عن والده: «ابتسم مؤنس وهو يتذكر أن والده كان يسرح أحيانا ويبدو أنه قد ابتعد بفكره عن أسرته فيسألونه: أين أنت؟
فيرد بأنه فى سورية خلال القرن الرابع الهجري يسمع أبا العلاء المعرى، أو كان فى الحجاز فى المئة الأولى للإسلام، يستنشق الهواء الذي استنشقه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتابع مسيرته فى هجرته، أو كان فى تونس مع ابن خلدون وهكذا، وفى كل حالة من هذه الحالات كان يعرفنا بأسلوبٍ بسيطٍ عن المكان والزمان والشخص الذي يقول إنه كان معه.
الازدهار
تلك لعمري لعبة مزدوجة كان العميد يلعبها، لقد أفلت منه ابنه وأصبح فرنسي اللسان، ولكنه بتلك اللعبة جعل فكره عربيًا وذكرياته إسلامية. ساعد العميد ولده على النبوغ فترك له حرية الدراسة، فدرس مؤنس الفرنسية في الجامعة المصرية وحصل على مؤهله الجامعي في العام 1939.
ثم كان لابد من السفر، الابن سينطلق إلى باريس ليحصل على الدكتوراه، ليعيد سيرة الأب، والأب تحجرت دموعه في عينيه، ولكنه ملك من ملوك البيان، فيقدم الجزء الثاني من «أيامه» الشهيرة إلى مؤنس كاتبًا: «ها أنت تهجر وطنك لتطلب العلم فى باريس وحيدًا فدعني أهدى إليك هذا الحديث عن أيام طلب الوالد العلم فى الأزهر، لعلك ترتاح إليه كلما أجهدك درسك بين الحين والحين، هناك ترى لونًا لم تعرفه من ألوان الحياة فى مصر وتذكر شخصًا طالما ارتاح إلى قربك منه، وطالما وجد فى جدك وهزلك لذة لا تعدلها لذة ومتاعًا لا يعدله متاع"
حصل مؤنس على الدكتوراه من باريس، فعن أي شيء كانت رسالته؟
ابن العميد هو ابن العميد، لقد جعل رسالته عن تأثير الآداب الإسلامية في الأدب الفرنسي.
لم يكتف العميد بحصول ولده على الدكتوراه فنصحه بمواصلة الدراسة، قال مؤنس للوتس عبد الكريم: «وفيما يخصني فقد اقترح أبي عليَّ ألا أكتفى بالدراسة للحصول على درجة الدكتوراه من فرنسا، بل بالدراسة للحصول على شهادة الأجريجاسيون فى اللغة والآداب الفرنسية وهى من أصعب الدراسات"
وقال غير واحد من الأدباء: «إن مؤنسًا كان أول مصري يحصل على شهادة الاجريجاسيون». وعندما عاد مؤنس إلى مصر بعد رحلته الفرنسية، عاش سنوات ازدهاره.
الثمار
نشر مؤنس في بدايات الستينيات كتابه المهم «ملامح رومانسية» وعنه يقول الكاتب عبد الحميد صبحي ناصف: «لقد صدر كتاب «ملامح رومانسية» لمؤنس عن دار المعارف المصرية بدون تاريخ محدد؛ إلا أنه في أغلب الظن قد نُشر بعد ظهور دراسته المطولة عن «الرومانسية الفرنسية والإسلام» الصادرة عن دار المعارف اللبنانية عام 1962".
وينص مؤنس صراحة في مقدمته «ملامح رومانسية»: بأنه لا يرمي بها إلى تقديم عمل أكاديمي صارم مثقل بالوثائق والمراجع. بل أرادها أشبه ما تكون بعرض محرر من القيود لأهم ما عنّ له من تصورات وتأملات حول رواد الحركة الرومانسية الفرنسية في إطار علاقتهم بالمؤثرات الإسلامية بالإضافة إلى ما تأتّى له من خطوات حول بعض الرموز الأخرى لهذه الحركة ولغيرها من التيارات الأدبية الموازية لها خلال القرن التاسع عشر.
وعلى هذا النحو تضم هذه الدراسة تسعة فصول يتناول فيها بالدرس والتحليل السمات الفارقة في الخطاب الرومانسي فى الأدب الفرنسي ويقدم مجموعة من «البورتريهات» لكل من فيكتور هوجو في ديوانه «الشرقيات» ولشاعر «الليالي» الفريدي موسيه ولجورج صاند وتمردها على المجتمع التقليدي ولجرادي نوفال
في ما يخص تصويره لليالي رمضان في القسطنطينية"
كان من الطبيعي أن يعمل مؤنس بالجامعة فهو يجيد الفرنسية واللاتينية واليونانية القديمة، وعن سنواته في الجامعة يقول الناقد الكبير الدكتور عبد الرشيد الصادق محمودي في كتابه «أدباء ومفكرون": أخبرنا بعض طلابه في قسم اللغة الفرنسية بآداب القاهرة أمثال أمينة رشيد وآمال الروبي. كيف كان مؤنس يفتح لهم أبواب الثقافة الرفيعة ويعلمهم الاهتمام بالموسيقى وتاريخ الفن حتى أنه كان يخرج عروضاً مسرحية يمثل فيها طلابه وكان يحضر تلك العروض كبار المثقفين أمثال: طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل".
ثم ترجم إلى الفرنسية بالتعاون مع أخته أمينة كتابيّ والده «أُديب» و«شجرة البؤس»، ثم نشر ثلاثة دواوين ومسرحية.
في تلك السنوات كان مؤنس يعد اسمًا مرموقًا بين أساتذة الجامعة وبين الأدباء.
قرار عجيب
في النصف الأول من الستينيات ترك مؤنس الجامعة.. لا أحد يقطع برأي في هذا القرار العجيب، بعضهم يقول: لقد شعر مؤنس بالظلم لأنه لم ينل ترقية كان يرى أنه يستحقها. آخرون يقولون: كانت الدائرة الفرنسية التي يعيش مؤنس في قلبها تتقلص بفعل التمصير الذي شهدته تلك السنوات، فقرر ترك الجامعة والهجرة الأبدية إلى فرنسا.
عن نفسي لم يقنعني أي من الرأيين، هناك أمر لا نعرفه أدى إلى هجرة مؤنس الذي ذهب إلى فرنسا فلم يعمل فى جامعة من جامعاتها، وهذا أمر عجيب يضاف إلى عجائب مؤنس، لقد عمل في هيئة اليونسكو في وظيفة تلتهم وقته وتقلل من ساحات إبداعه، فهو منذ هجرته لم ينشر شيئًا بل لم يكتب شيئًا، وكأنه لم يغادر الوطن فحسب، بل غادر الإبداع كله.
في باريس سيلتقي الدكتور عبد الرشيد الصادق محمودي بمؤنس وسيكتب محمودي عن مؤنس كما لم يكتب أحد.
لقد كشف له مؤنس أسرار حياته، قال له: إنه يكتب يومياته بانتظام وإنه ينوي استكمال رواية كان قد بدأ كتابتها قبل سنوات. ثم كشف له عن عذابه بعد فقدانه لزوجته التي لم يحب أحدًا كما أحبها. كان مؤنس قد تزوج ليلى العلايلي وهي مثقفة مثله وتتقن الفرنسية مثله، إضافة لكونها حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي. رحلت الزوجة الحبيبة وتركت له ابنته الوحيدة التي أطلق عليها اسم أخته الشقيقة أمينة.
بعد رحيل الزوجة نشر مؤنس بعد طول انقطاع عن النشر بل عن الكتابة ذاتها ديوانه الرابع الذي جعله في رثاء زوجته وقد صدر في العام 1995 تحت عنوان «سوف ينحسر البحر".
ولكي تكتمل دائرة مفارقات حياة مؤنس، فإن ابنته الوحيدة قد تزوجت من أستاذ أكاديمي ياباني متخصص فى تدريس اللغات الشرقية، ويعمل فى إحدى جامعات باريس، وأنجبت منه ولدين!
النهاية
مرض مؤنس بمرض جعله يكاد يفقد صوته، فكان يكتب لصديقه المحمودي عوضَا عن الكلام. ولم يكن يقوم بأمره إلا ابنته التي كانت تزوره مع حفيديه، وفي اليوم السابع والعشرين من نوفمبر من العام 2004 لفظ مؤنس أنفاسه الأخيرة.
بعد موته تحدثت ابنته عن يومياته فقالت: إنها من أربعة أجزاء ومكونة من 800 صفحة من القطع الكبير. ثم قال وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني: إن وزارته قد حصلت على موافقة أمينة بنت مؤنس على شراء حقوق ترجمة المذكرات، وقد بدأ فريق من الوزارة في ترجمة الجزء الأول. ثم مرت السنوات ولم تظهر المذكرات، ليسقط الأستاذ المرموق والشاعر الكبير وابن عميد الأدب العربي في جب النسيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بموقع أصوات 16 سبتمبر 2019
مقال رائع يلقي أضواء على ظلال!!
ردحذفجميل. هناك سر لم تفصح عنه. لعله غير صحيح لكنه منتشر.
ردحذفصافي ناز كاظم
ردحذفرائع ! , لكن لماذا لم تنشر الوزارة مذكرات الأستاذ مؤنس رغم كل هاته السنوات؟
ردحذفكان الدكتوى طه رحمه الله ينادي ابنه باسم كلود وابنته باسم مونيه وهما اسمان اعجميان موفلان في للعجمة ويؤسفني تجاهل حضرتك لابسط قواعد النحو بقولك كان مؤتسا وهذا لا يليق من كاتب مخضرم مثلك
ردحذفطاردت مؤنس اتهامات بابلحاد ولعل هذا ما صرف وزارة الوزسر الفنان عن نشر المذكرات من باب الحرص على الشرف ومكارم الاخلاق
ردحذف