يعد الدكتور يوسف
زيدان من الظواهر العجيبة التي لا أجد لها تفسيرًا يطمئن إليه ضميري،
الرجل لا يعاني أدنى معاناة على أي صعيد كان، فهو شهير غاية الشهرة، ثري
بكل تأكيد، كتبه تظهر دائمًا في قوائم الأعلى مبيعًا، معظم إنتاجه جرى
ترجمته لأكثر من لغة كبرى، لم يسجن قط، ولم يمنع قط، ولم يُطارد قط، بل
لم تضيق عليه سلطة في أي عهد، ولو أجرينا استطلاعًا دقيقًا لظهر لنا أن
عدد قراء يوسف زيدان يفوق عدد قراء عشرة أدباء من أصحاب الأسماء اللامعة.
إذًا أين المشكلة ؟
الحقيقة
المشكلة لدى زيدان نفسه، الرجل يشعر شعورًا ليس مريحًا تجاه ذاته، فهو
لا يتمتع بشهرته ولا بصيته ولا يشعر بخطورة نفوذه وتأثيره على قرائه، فكل
كثير في عينيه قليل، وكل ناعم بين يديه خشن جارح، وكل بعيد لامع براق،
وكل قريب معتم منطفيء، فيروح يخترع المعارك اختراعًا، ولا تهدأ ثائرة
نفسه إلا إذا قذف أهله بالطوب فرد أهله الصاع صاعًا وليس صاعين فتسيل
الدماء فيجلس زيدان هادىء النفس قرير العين، فأخيرا سالت دماء، وهو لا يشغل باله بأن أول دم يسيل هو دم الحقيقة ذاتها.
دم الحقيقة الذي سال هو دم معنى مصر، فما مصر؟
مصر
ليست سوى المصريين، وتاريخ مصر هو تاريخ المصريين وأبطال مصر هم المصريون، وخونة مصر هم من المصريين، زيدان ومعه جماعة لا يستهان بهم يُحّقرون من
شأن تلك الحقيقة التي تقوم مقام البديهيات، فمصر عندهم منفصلة تمام
الانفصال عن المصريين.
على زيدان وجماعته أن يدركوا أنهم عندما
يهيلون التراب على تاريخ مصر فهم يهيلون التراب على ذواتهم، وعندما
يحتقرون أبطال مصر فهم يحتقرون أهلهم، على هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم
ويتخلصوا أولا من مشاكلهم هم مع أنفسهم هم ثم بعدها نبدأ معهم من أول السطر.
الدكتور زيدان ظهر الأسبوع الماضي مع الإعلامي عمرو أديب وقال بيقين يحسد عليه كلامًا يمس حياة المناضل الزعيم أحمد عرابي.
كلام زيدان اليقيني يمكننا تقسيمه إلى قسمين.
الأول قوله إن عرابي لم يقل في مواجهة الخديوي توفيق الجملة الذائعة: "لقد خلقنا الله أحرارًا".
الحقيقة
يمكن تفهم نفي زيدان للجملة الشائعة لأنها لم ترد سوى في مذكرات عرابي،
أما المتاح من المصادر والمراجع التاريخية فلم تذكر الجملة بنصها المعروف
وإن كانت قد ذكرت ما هو قريب منها بل أشد في التحدي وأدق في المعنى.
القسم الثاني من كلام زيدان هو نفيه اليقيني لوقفة عرابي ذاتها.
وهذا
النفي لا يقوم إلا على احتقار زيدان لتاريخه الذي هو تاريخ مصر، الرجل
يستكثر على المصريين مجرد وقفه أمام حاكم غاشم جهول مثل توفيق.
كان
على زيدان إن كان يريد الإنصاف والتحري لا "جر شكل" المصريين وإظهار
احتقار تاريخهم أن يقول لمشاهده أن هناك روايات لها قيمتها واعتبارها تؤكد
أن عرابي قد واجه الخديوي.
قبل تقديمي المختصر أرجو ألا يكون مخلًا
للروايات أرجو من القاريء الكريم أن يلتفت أولا إلى أن الروايات هى لشهود
عيان، وثانيًا هى لكارهين لعرابي أو على الأقل غير مرحبين به، وثالثًا
تضم الروايات رواية لإنجليزي محتل يجرى حب الاحتلال في عروقه مجرى الدم.
الرواية الأولى كتبها سليم النقاش وظهرت لأول مرة في العام 1884، ثم تكرمت الهيئة العامة للكتاب بإعادة طبعها قبل سنوات قلائل، وما تزال الرواية تملأ الأسواق.
رواية
سليم ظهرت تحت عنوان "مصر للمصريين" وجاء فيها: "كانت ساحة عابدين
غاصة بجماهير المتفرجين من أجانب ووطنيين ونوافذ البيوت المجاورة للسراي
وأسطحتها ملأى بالنساء المتفرجات. فأشرف الخديوي على الجيش من السلاملك
وأمر بإحضار عرابي فحضر راكبًا على جواده سالًا سيفه ومن حوله ضباط السواري
للمحافظة عليه فأمره بإغماد سيفه والنزول إلى الأرض وإبعاد الضباط عنه
ففعل. ثم سأله الخديوي: وما هي أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟
فرد عرابي: لإسقاط الوزارة وتشكيل مجلس النواب وزيادة عدد الجيش والتصديق على قانون العسكرية الجديد وعزل شيخ الإسلام.
أرجو أن يسامحنى القاريء في ما قمت به من اختصار لأن المساحة لا تتسع لذكر كل التفاصيل المهمة جدًا والمثيرة للغاية.
الرواية
الثانية صاحبها هو أحمد شفيق باشا وعنوانها "مذكراتي في نصف قرن" وهى
تملأ الأسواق الآن، وأرجو الانتباه إلى أن أحمد شفيق باشا كان يعمل
بالديوان الخديوي وقت أحداث الثورة العرابية، وكان منتميا للخديوي
وقت الثورة. جاء في رواية شفيق: "رأينا الجيش قادمًا من
جهة شارع عابدين، وتقدم عرابي راكبًا جواده شاهرًا سيفه وخلفه بعض الضباط
فنزل الخديو إليهم من قصره غير مكترث لما قد يتعرض إليه من الأخطار، وكان
معه السير أوكلاند كولفن المراقب والمستر كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية
النائب عن معتمد انجلترا، ولم يتبعه سوى اثنين من عساكر الحرس الخصوصي
أحدهما حسن صادق وكان ضخم الجسم فلما رأى عرابي شاهرًا سيفه، صاح به: اغمد
سيفك وانزل عن جوادك، فامتثل. ثم خاطبه الخديوي بقوله: ما هي أسباب حضورك
بالجيش إلى هنا، فرد عرابي قائلًا: جئنا يا مولاي لنعرض على سموك طلبات
الجيش والأمة، فقال الخديوى: وما هي؟ فقال: هي إسقاط الوزارة المستبدة
وتشكيل مجلس نواب وتنفيذ القوانين العسكرية التي أمرتم بها".
أما الرواية الثالثة فمذكورة بتفاصيل أشد إثارة في كتاب "الكافي تاريخ مصر القديم والحديث" لصاحبه ميخائيل شاروبيم، وهذا
الكتاب كسابقيه موجود في الأسواق وليس نادرًا، وقد جاء فيه: "التفت
كولفن إلى الخديوي وقال إذا تقدم نحوك أحمد عرابي فأمره أن يرد سيفه إلى
غمده ويتبعك، فإذا فعل تقدم أنت إلى رأس كل فريق من الجند ومُره
بالانصراف، فقدم الخديوي بقلب ثابت وشهامة كبرى وسار نحو أحمد عرابي وعبد
العال باشا وأشار لهما بالسلام فسلما بالاحترام والتجلة والوقار، فقال لهم
مالكم نبذتم طاعتي وعصيتم أمري.
فأجاب عرابي إني وإخواني وجميع
ضباط الجيش وأفراد العسكر خاضعون لك يا مولاي وكلنا لا نبرح من هذا الموقف
حتى تنجز لنا ما طلبناه.
الرواية الرابعة صاحبها هو اللورد كرومر
شخصيًا، وقد ظهرت روايته تحت عنوان "مصر الحديثة" وفي ذلك الكتاب ينقل
كرومر المحتل ما رواه السير أوكلاند كولفن الذي كان من أبطال المشهد.
جاء
في الرواية: "وصل عرابي بك على ظهر حصانه، طلب منه الخديوي النزول، فترجل
عرابي عن حصانه، و تقدم نحو الخديوي ماشيًا على قدميه، مع حرس كبير شاهرين
حراب بنادقهم، وحيوا الخديوي، قلت للخديوي: الدور عليك الآن، رد عليّ
قائلًا: "نحن الآن بين أربع نيران"، قلت: تشجع، واستشار الخديوي ضابطًا
وطنيًا كان يقف على يساره، وكرر عليّ السؤال: ماذا أفعل الآن؟ نحن بين
أربع نيران، سوف نُقتل، ثم طلب من عرابي بك بعد ذلك أن يغمد سيفه. وأطاع
عرابي الأمر، ثم سأل الخديوي عرابي بعد ذلك عن ذلك الذي يحدث، ورد
عليه عرابي بك محددًا ثلاث نقاط، وأضاف أن الجيش جاء إلى ميدان عابدين
نيابة عن شعب مصر لفرض هذه النقاط الثلاث، وأنه لن يتراجع إلى ثكناته إلا
إذا أجيبت هذه المطالب الثلاث. تحول الخديوي إلى ناحيتي وقال: أنت تسمع ما
يقول، ورددت عليه ليس من اللائق أن يناقش الخديوي مسائل من هذا القبيل مع
العقداء، واقترحت عليه الدخول إلى قصر عابدين، وأن يتركني أتحدث مع
العقداء، تصرف الخديوي مثلما قلت".
ختامًا هل لزيدان أن يكذب كل تلك الروايات ويواصل احتقار تاريخه ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة "صوت الأمة" السبت 21 أكتوبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق