كان نجيب محفوظ متاحًا كالماء
والهواء وباقيًا كأنه النيل، لذا لم استعجل مقابلته، سأقابله متى أردتُ فالرجل متاح
كالماء والهواء وباقٍ كأنه النيل، طعنه مخبولٌ في رقبته، فقلت سينجو وسأقابله متى أردتُ،
ثم تكالبتْ عليه أيام الزمن، فقلتُ مطمئنًا نفسى: "لن تنال منه وسأقابله متى أردتُ".
قبل رحيله بثلاثة أشهر، قابلته،
كان قد أصبح عجوزًا جدًا وثقيل السمع جدًا وضعيف البصر جدًا، كنتُ أمام رجل لم يعد
يربطه بماضيه سوى حس أولاد البلد الساخر، حتى وهو على حافة النهاية كان قادرًا على
إشاعة البهجة والضحكات بأبسط تعليق يطلقه كأنه لا يقصد شيئًا.
كان محفوظ يجلس كما يجلس مشايخ
الحارات، حوله أولاده وأحفاده وعارفي فضله ورفاق زمان شبابه، لاحظ الشيخ بحس أولاد
البلد الذي لم يغادره أبدًا ارتباك خطواتنا ونحن في طريقنا لمصافحته فصاح بصوت مجلجل:
"بالدور يا زباين".. ضحكنا جميعًا وسلمنا عليه وجلسنا.
قطع أحد موظفي الفندق الذي أصبح
مقرًا للقاءات الشيخ بمرديه بدايات محاولات تقديم أنفسنا لشيخنا وقال للشيخ:
"جاءت اليوم سيدة فرنسية مع ابنتها الشابة وتركت لك هذه البطاقة".
باغت الشيخُ الموظفَ سائلًا:
"المهم الست حلوة وإلا لأه ؟"، عدنا للضحك لكن محفوظ كان جادًا، تناول البطاقة
من يد الموظف وسلمها لصديقه المخرج السينمائي توفيق صالح قائلًا: "بص يا توفيق
لا تستغل الموقف وتترجم على هواك، أريد منك ترجمة دقيقة، دي الست جاية من فرنسا مش
من طنطا".
يومها كنت مستمعًا فقط، لم أوجه
كلمةً واحدة لمحفوظ مكتفيًا بحضوري في رحابه وسماع صوته بشكل مباشر، لو كنتُ تكلمتُ
لوجهت إليه سؤالًا واحدًا: "لماذا يا شيخنا كتبت روايتك ليالى ألف ليلة وليلة؟".
كان السؤال يشغلنى حقًا وكنتُ
قد بحثتُ عن إجابة له لدى أكثر من ناقد، فما كان جوابهم إلّا أن قالوا: "من حق
أيًا كان أن يستلهم أي عمل كان"، لم يقع جوابهم موقع الرضا من نفسي، فهذه ألف
ليلة وليلة، العمل الأشهر إن لم يكن الأخلد في تاريخ النثر العربي، العمل الذي سينطلق
من الزمان العربي القديم ليخترق الدهور الأوربية الحديثة، فما من كاتب عربي أو أجنبي
إلا وكانت لليالي من قلبه نصيب قل أو كُثر.
ثم هذا نجيب محفوظ الذي تُروى
الروايات عن حرصه على وقته بل وبخله به، فالرجل إن لم يكن يمتلك جديدًا يقدمه فى سياق
استلهامه لأجواء ألف ليلة ما كان سيقدم على إهدار وقته الثمين فى كتابة رواية تحاكي
عملًا خالدًا.
هل كان محفوظ قد حقق كل طموحاته
بعد أن قدّم الثلاثية وأولاد حارتنا والمرايا والحرافيش و.... ثم رأى أن آوان خلق التحديات
الفنية قد جاء فكتب روايته تلك؟ هل في الأمر شيء من استعراض الروائي الجبار لعضلاته
الروائية؟
وكأنه يقول لنا: أنا أستطيع تقديم
أجواء ألف ليلة وليلة ولكن في عدد أقل من الصفحات وبلغة تبدو حديثة ولا تتخلى عن عراقتها
وفي بناء محكم يقنع القارئ بأن الخيال صالح لتفسير الحقائق ؟!!!!!!
منذ ضربة البداية يذهب محفوظ إلى
الهدف مباشرة، في سطور قليلة يقدم لنا عالم سلطنة شهريار الملطخ بالدم والقهر والسلطة
المطلقة التي هي مفسدة مطلقة، وحدها شهرزاد استطاعت تقليم أظافر هذا الوحش الكاسر الذي
يدعى شهريار، قلمت أظافر غروره وغطرسته، لكنت بقيت روحه التي خرّبها سفكه لدماء العذارى.
هل العذارى فقط هن مَنْ دفعن ثمن
جنون شهريار؟ هنا تبرز الرؤية المحفوظية لماسأة حياتنا العربية، كل الممالك تدمرها
السلطة المطلقة، وكل الرعية تذبحها غيبة الحرية.
لا شيء عند محفوظ أثمن من الحرية،
إنها النواة الصلبة لروايته ، يحكى الغرائب ويسرد المعجزات، ويقص الخرافات، ثم يعود
للحرية التي هي عنده ليست شعارًا من الشعارات بل هي ماء الحياة، بدونها تخلو المدينة
من العقلاء ويظل العاقل الوحيد هو شخص تاجر الانتيكات المعلم سحلول، ليس لأنه الاستثناء
ولكن لأنه ملاك كريم معصوم من الرضوخ للطغاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بموقع التحرير في 4 سبتمبر 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق