كتب الشيخ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، رحمه الله، كتابه "الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، الذي نعرفه باسم "صحيح البخاري" قبل ألف ومائتي سنة، ومن يوم شيوع الصحيح بين الناس وإلى يومنا هذا والكلام عنه لم يتوقف ولن يتوقف.
وذلك راجع لخطورة وأهمية ما جاء في الكتاب، لأن الكتاب كما هو ظاهر من عنوانه يختص بأحوال رسولنا الكريم من كلام أو فعل أو تقرير أو حتى صمت أو وصف خُلقي أو خِلقي، فكل تلك الأحوال هي ما نعرفه باسم "الحديث النبوي".
ومن هنا جاءت خطورة هذا العلم الشريف، وذلك لأن الرسول هو المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، وفي حالات يكون الرسول هو المصدر الأول والوحيد، وذلك عندما يُجمّل القرآن الحكم في أمر ما فيأتي الرسول ويقوم بتفصيله، ومثال ذلك الصلاة التي هي أهم أركان الإسلام بعد الشهادة، القرآن لم يذكر تفصيلًا كيفية أداء الصلاة، فصلى الرسول وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ومن الرسول عرفنا الكيفية وعدد ركعات كل صلاة، وكذا كان الأمر في قضايا كثيرة لا يتسع المجال لذكرها .
ولكل ما سبق يظل "علم الحديث" علمًا خطيرًا شائكًا، لا يهجم عليه إلا أحد رجلين، عالم ثبت امتلاكه الأدوات ولديه الموهبة وفائض من الصبر والجلد والهمة، وجاهل يغره جهله فيخبط خبط الناقة العشواء في الليل البهيم فيأتي بالمضحكات المبكيات.
فمن فروع علم الحديث هناك علم قائم بذاته وله رجاله اسمه "علم الجرح والتعديل"، وهو يبحث في الرواة الذين وصلنا الحديث عن طريقهم، وتخيل معي الجهد الذي يبذله الباحث ليتقصى أحوال رجال ماتوا قبل ألف سنة، ليعرف مَنْ منهم كان صادقًا ومَنْ منهم كان غير ذلك، وحتى الصدق بمفرده لا ينفع، فلابد من الصدق والعدل والفهم والحفظ والإتقان وشروط أخرى كثيرة يفرضونها على الراوي لكي يتقبلوا حديثه.
هذه الاحتياطات ألقت بظلال من القداسة على عمل بشري قام به الإمام الجليل البخاري، والقضية هي أبعد ما تكون عن القداسة، فنعم البخاري أوقف عمره على تتبع الحديث الشريف، ولكن البخاري يظل رجلًا من رجال الأمة، وهو لم يقل قط إنه قد أُوحي إليه وإنه من المعصمين، وفي كتابه الجليل ما يؤكد ذلك، فبداية هو قد اختار (7563) حديثًا فقط من بين ستمائة ألف حديث وصلت إليه!
وهذا يعني أن لديه كلام عن الأحاديث التي تركها أو على الأقل لم يجد بها شروطه التي اشترطها على نفسه لكي يقبل الحديث، ولم يعب أحد عليه ذلك، ولم يتنطع عليه متنطع ويقول له: لماذا أخذت حديث فلان ولم تأخذ حديث علان.
ثم بعد شيوع الكتاب وقد تلقته الأمة في مجملها بالرضا والقبول قامت جماعات من العلماء بنقده، ولم يحدث أن كَفّرتْ الأمة عالمًا لأنه نقد البخاري، بل كانت الأمة تسمع للرأيين وتختار منهما ما يُصلح شأنها، وتنتهي القصة.
نقد كتاب الإمام البخاري قديم جدًا وسأذكر في عجالة أهم أبرز الأسماء التي تناولت الكتاب بالنقد.
أولًا: الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي أحصى الأحاديث التي نقدها العلماء فوجدها مئة وعشرة أحاديث، ثم قال الحافظ جملة واضحة تمامًا وهي: "بعضها يُسَلَّمُ لهم فيها، وبعضهم لا يُسَلَّم"، وهي تعني أن بعض رواة البخاري من حق العلماء ـ من وجهة نظر الحافظ ـ نقدهم، وبعضهم كلام العلماء عنهم غير صحيح.
ثانيًا: حكم الألباني - وهو من هو - بضعف حديث واحد فقط في صحيح البخاري وهو حديث: "نكاح الرسول عليه الصلاة والسلام لميمونة بنت الحارث"، وقد ذكر ذلك تلميذ الألباني أبو اليسر، في تسجيل صوتي منشور على شبكة الإنترنت.
ثالثَا " ابن حزم الذي تكلم عن بعض الأحاديث الواردة في صحيحيّ البخاري ومسلم.
رابعًا: الإمام الدار قطني، وله كتاب مشهور جداً طُبع وحُقق أكثر من مرة اسمه "الإلزمات والتتبع"، انتقد فيه 199 حديثاً جاءت في الصحيحين.
إذن القصة قديمة ولم يحدث أن عاقبت الأمة ناقدًا للبخاري ومسلم ولم يحدث أن كفرت عالمًا بعلمه حتى لو قال كلامًا يخالف به الشائع المشهور، الأمر كله متروك للعلماء الذين يعرفون كيف يستنبطون الأحكام ويصبرون على متاعب العلم ولا يخشون في الله لومة لائم، هؤلاء من حقهم بل الواجب عليهم القيام بحق العلم، وذلك بتمحيص كل نص وصل إلينا، دون خوف ولا وجل من هجوم العامة، فليس للعوام الذي يصدقون خرافات مثل خرافة "عوج بن عنق" شأن بنقد الأحاديث، كما لا يصح أن يقوم متعالم مغتر بجماهيريته بالتطاول على جهود علماء أصلاء لأنه يريد الشهرة أو يريد المناكفة، ثم أن أي قانون لن يوقف الناس عن تناول كتب تضم خلاصة شريعتهم ، نطالب فقط بالصبر على المتكلم حتى يشرح كامل وجهة نظره ثم يقوم فريق من العلماء بنقاشه، بغير ذلك سنظل ندور في الحلقة المفرغة التي اسمها "قانون ازدراء الأديان" التي إن لعبت اليوم لصالحك أو لصالح فريقك فستلعب غدًا ضدك وضد فريقك، ويومها لن تجد مَنْ يساندك ويدافع عنك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بصوت الأمة 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق