كان من حسن حظنا أن شخصية الشيخ الرئيس ابن سينا، قد لفتت أنظار الروائيين فتناولها ثلاثة منهم في فترة وجيزة، كتب عنها الروائي الفرنسي جلبيرت سينويه، روايته المترجمة إلى العربية "ابن سينا والطريق إلى أصفهان".
وكتب عنها الروائي العربي المصري محمد العدوي روايته "الرئيس".
وأخيرًا كتب عنها الروائي المصري يوسف زيدان روايته "فردقان.. اعتقال الشيخ الرئيس"، التي نشرتها دار الشروق.
والروايات الثلاث، لاسيما، رواية زيدان تطرح سؤالًا مهمًا عن حدود المسرح الذي سيعرض عليه الروائي، كاتب الرواية التاريخية فنون إبداعه.
قارئ الروايات الثلاث التي تناولت شخصية ابن سينا سيخرج بنتيجة تكاد تكون نهائية، وهى أن التاريخ تاريخ والرواية رواية.
وفي تفصيل هذه النتيجة كتب الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم بحثًا طيبًا بعنوان "الرواية التاريخية.. زمن الازدهار"، جاء فيه: "التداخل بين الأدب والتاريخ على صفحات الرواية التاريخية يستوجب المصالحة بين الصدق الفني والصدق التاريخي، وكلما نجحت هذه المصالحة زاد نجاح الرواية التاريخية.
وهذا هو الفضل المشكور للرواية التاريخية، كما جسدته الروايات التاريخية الحقيقية، وكما تجسده ظاهرة ازدهار الرواية التاريخية العربية الآن.
فالرواية التاريخية تقدم التاريخ من خلال صورة فنية كلية تبث روحًا في الجسد الذي يصوره التاريخ جامدًا باردًا بفضل العناصر الفنية المتنوعة التي يستخدمها الروائي، ومن خلال السرد والحوار وغيرها من الأدوات الروائية، وهو ما يختلف عن الصرامة التي تتسم بها الدراسة التاريخية الأكاديمية.
وإذا كانت وظيفة المؤرخ قد تحولت من "رواية ما حدث" إلى محاولة فهم السبب وراء ما حدث، ومحاولة الإجابة عن السؤال الذي يقول لماذا حدث ما حدث؟ فإن الروائي لم يكن مضطرًا إلى التفسير أو الإجابة عن أي أسئلة".
انتهى كلام الدكتور قاسم ، فهل حقًا أن الروائي ليس مضطرًا لتقديم تفسير أو إجابة عن أسئلة؟.
نبوغ مبكر
ضربة البداية التي نفذها الروائي يوسف زيدان كانت موفقة، فهو اختار ذروة من ذرى الدراما لينطلق منها إلى تفصيل روايته عن ابن سينا.
فتح زيدان الستار على ابن سينا الذي كان في تمام فتوته وشبابه وعلو مقامه ومكانته وهو يسير في ركب فقير ذاهبًا إلى قلعة فردقان ليبقى بها معتقلًا لزمن قادم لا يعرفه !
"جاء راكبًا بغلةً هرمةً، تنوء بحمله هو والمخلاة التي خلفه.. جاء مفكوك العمامة، مكشوفَ الرأس، كسيرَ النفس، كسيفَ النظرات، خجلًا من هيئته، ومن السلسلة الصدئة المقيدة لقدميه وكفيه".
بداية مؤلمة ما في ذلك شك، ولكنها جهزت مسرح العمليات لزيدان لكي يقدم ويؤخر كما شاء له فنه الروائي، فهو يتنقل برشاقة بين الأزمنة والأمكنة التي تقلب بينها ابن سينا.
التزم زيدان بوقائع التاريخ كما حدثت، فلم يخالف المروي عن ابن سينا الذي هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، ولد في قرية أفشنة (الواقعة في أوزبكستان حالياً) في العام خمس وسبعين وثلاثمائة من الهجرة، وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، ولم يزد عمره عن ثلاث وخمسين سنة، كتب خلالها ما يزيد على الأربعمائة كتاب!
أشار زيدان إلى النبوغ المبكر لابن سينا الذي كان والده من دعاة التشيع وكذا كان شقيقه، ولكن ابن سينا لم يربط نفسه بمذهب بل كان يخاف المذهبية لأنها تثير التعصب وتجعل الأمة الواحدة فرقًا متناحرة.
تابع زيدان بصبر رحلة التعلم التي قطعها ابن سينا الذي حفظ القرآن الكريم كاملًا وهو ابن عشر سنوات، ثم تبحر في علوم عصره حتى أصبح من شباب العلماء المعدودين وهو ابن ست عشرة سنة.
شهرة ابن سينا المبكرة في علوم الطب والفلسفة والفلك والمنطق والعربية والرياضيات لفتت إليه أنظار حكام عصره، فقد كان طبيبًا خاصًا لأكثر من ملك وحاكم، وعمل بالسياسة حتى تولى منصب الوزارة الذي هو بلغة عصرنا منصب رئيس الوزراء ومن هنا جاء لقب الرئيس ليلتصق به مدى حياته وبعد مماته.
عالم النساء
عندما كان ابن سينا معتقلًا لغضب حاكم عصره عليه، وجدها زيدان فرصة سانحة لكي يخوض بنا في خفايا حياة بطل روايته، وذلك الخوض يعيدنا إلى المربع الأول عن الفرق بين الرواية وبين التاريخ.
في التاريخ روى أبو عبيد عبد الواحد الجوزجاني التلميذ الوفي لابن سينا، الذي عاش تحت ظله خمسًا وعشرين سنة، ويكاد يكون صاحب الترجمة الأولى لابن سينا، قال أبو عبيد عن أستاذه ابن سينا: "وكان الشيخ قويَّ القوى كلها، وكانت قوة المُجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيرًا ما يشتغل به، فأثَّر في مزاجه".
هذه الجملة معدودة الكلمات سيأخذها زيدان ليقيم عليها معمار روايته!
فهناك جيش من النساء كان يحيط ابن سينا نفسه به.
وقد توقف الناقد الأستاذ عبد اللطيف مجدوب عند هذا المحور من محاور الرواية فقال: "لقد أسهب يوسف زيدان في ذكر أسماء نسوة أذقن ابن سينا جرعة الحب والهوى، فهام بهن، وهن: ماهتاب، روان، سندس، عدا الجواري اللائي كن هدايا من الحكام والأمراء والوزراء الذين تم شفاؤهم من عللهم على يديه.
ونلاحظ أن الروائي زيدان أغرق في وصف سحنات العشيقات وهن يتوددن إليه إلى أن يأخذهن ابن سينا بين أحضانه، حتى إن إحداهن ولعلها روان حزن لفراقها على إثر غارة ليلية استهدفت منزله فعاثوا فيه فسادا، واقتادوا عشيقته جارية لعرضها للبيع بسوق النخاسة، ومن ثم انقطعت أخبارها، أما مهتاب فكانت في نزاع مع ضياء الشمس لإشراقة وجهها وفتون جمالها الخارق، كانت ذات إلمام بعلوم الفلسفة والطب فأخذت تغترف منه المزيد وتعينه في التمريض، لكن خلال الساعات المتأخرة من الليل كان يهفو إليها وتأخذ الهمسات والآهات تدب بين أوصالهما بدلا من مفردات التعليم والتعلم.
أما الثالثة فكانت سندس "المرأة الثرية الشهية الجامحة المتوهجة"، أرملة جليل الخنوفي والتي باحت له بأنها سقطت صريعة لعشقه والهيام به، فتوسلت له أن يعالج شغفها وقلبها العليل"، بيد أن قصتها مع ابن سينا، وهو ابن الخامسة عشرة من عمره، انتهت بطريقة درامية.. حملته فيما بعد على أن يعاف النساء ومضاجعتهن وحتى الكلف بهن حينما أرسلت إليه كتابا "بألا يتأخر عن زيارتها ليلا"، إلا أن أم ابن سينا دعته ألا يثق بها وبغوايتها الشيطانية.. فتأخر عن الذهاب إليها لتبعث له بكتاب آخر دعته أن يفتح النافذة المقابلة لنافذة غرفتها مساء.. "فلما فعل ذهل ابن سينا وأصابه دوار ومغص عندما شاهد سندس وقد أمسك بها عبدان لها وهي عارية.. أحدهما من خلفها والآخر من أمامها".
النساء الثلاث هن من مخترعات زيدان وليس لهن وجود حقيقي، ولو تمهل زيدان وهو يسرف في ذكر تفاصيل علاقة ابن سينا بهن، لسأل نفسه: هل ابن سينا كان جريئًا على الفاحشة كل هذه الجرأة ؟
فاثنتان من الثلاث نساء كانت علاقة ابن سينا بهما خارج الشرع.
ثم ورط زيدان ابن سينا في العكوف على شرب النبيذ، لقد شرب منه بحرًا على مدار صفحات الرواية، وعندما ناقشته مهتاب حول حرمة السكر، رد عليها بكلام لا يصدر عن فيلسوف وطبيب، وذلك لأن حجته كانت ضعيفة وتحمل قدرًا من الإساءة لعلمه الغزير.
ثم توقف زيدان عند مسألة شائكة تحوم حولها الشكوك، وهى مسألة انكار ابن سينا للبعث الجسماني.
زيدان قطع بإنكار ابن سينا للبعث الجسماني، قطع وهو يعلم يقينًا بأن تلك المسألة محل أخذ ورد بين دارسي ابن سينا العارفين بتراثه، فطائفة منهم نفت وقوع ابن سينا في هذه المسألة، وطائفة ثانية قالت: إنه قالها ثم تراجع عنها، وطائفة ثالثة قالت: كان لابن سينا منطقان، واحد للعامة وآخر للخاصة، فربما تكلم للخاصة في هذه المسألة، ولكن في دروسه العامة لم يقل بغير الشائع بين جمهور المسلمين حول البعث الجسماني.
كما أغرق زيدان قارئه في تفاصيل فلسفة وأفكار الشيخ الرئيس بحيث جار على الشاعر الفذ الذي يسكن جوانح ابن سينا، فليته ألقى نظرة واسعة تشمل الشاعر الذي قال عن نفسه:
لما عظمت فليس مصر واسعي
لما غلا ثمني عدمت المشتري
وبعدُ فقد حققت الرواية النجاح الجماهيري الذي يليق بكاتبها وبالمكتوب عنه، حتى أن دار الشروق ناشرتها قامت بطباعتها غير مرة في فترة وجيزة جدًا، ولكن الرواية تستحق ما هو أكبر وأهم من النجاح الجماهيري وأعني ذلك الاشتباك الجاد مع ما طرحته من أفكار ورؤى في غاية الثراء، حتى لو اختلفنا مع بعضها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بموقع "أصوات" مايو 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق