قبل سنوات كنت أجلس مع جماعة من كبار الكُتَّاب، وكان نجم الجلسة الروائي الكبير الأستاذ بهاء طاهر، لكن نجومية الأستاذ بهاء في تلك الليلة كانت مغايرة لما أعرفه من معاني النجومية.
كان المجتمعون –
إلا أنا بالطبع – من سن ومقام الأستاذ بهاء، ولذا لم يتحرجوا من الحديث معه
بتلقائية، ولما كان الأستاذ بهاء قد عاد قبلها بأيام من رحلة الحج، فقد لاحظت أن
حديث أصدقائه إليه لم يكن خالياً من غمز ولمز، وكأنهم لا يريدون تصديق أن واحداً
منهم قد ذهب لأداء فريضة من الأركان الخمسة للإسلام.
من ليلتها
شغلتني فكرة أداء الفنانين عموماً – والأدباء بصفة خاصة – لشعائر الدين، فراجعت ما
كتبه الشيخ الأستاذ محمود شاكر عن رحلته الحجازية، وما كتبته عن شاكر أثناء الحج
تلميذته الراحلة الأستاذة عايدة الشريف، ورحلة الدكتور عبد الوهاب عزام ورحلة
الأستاذ أحمد حسين السياسي القديم ومؤسس حزب «مصر الفتاة»، وقد نشر رحلته تحت
عنوان «مشاهداتي في جزيرة العرب»، ورحلة الدكتور محمد حسين هيكل التي كتب عنها في
منزل الوحي"«.
تلك المراجعة
لهذه الرحلات ولغيرها جعلتني أقرب إلى الاعتقاد بأن العوام – أمثالي – يشعرون
أثناء أدائهم للشعائر والفرائض بمشاعر بسيطة، أما الأدباء فمشاعرهم مركبة حتى أن
الواحد منهم قد يحلق به شعوره إلى سماوات عالية فوق البصر، ويُطوّح به شعوره
ليُجلسه فوق ربوة بكر لم تطأها قدم بشر. وقد وقع في يدي كتاب قديم لأمير القص
العربي الراحل الدكتور يوسف إدريس، فجعلني أشد تصديقًا لما بت أعتقد.
"إسلام
بلا ضفاف"
يعد كتاب إدريس
«إسلام بلا ضفاف» من كتبه القليلة التي لم تحصد ما تستحقه من متابعة ودراسة، ربما
لأن كاتب الكتاب هو يوسف إدريس، الذي يظن كثيرون أن أمر الإسلام كله لا يعنيه من
قريب أو بعيد، فالرجل يساري عتيد، وهو صاحب مشاغبات للفهم العام للدين وتلك
المشاغبات موجودة بكثرة في قصصه، ومشاكساته لعلماء الدين أشهر من أن نعيد التذكير
بها.
وعلى الرغم من
ذلك كتب إدريس «إسلام بلا ضفاف» وهو سلسلة مقالات موضوعها العام الإسلام في
العموميات، دون الدخول في تفاصيل معقدة لم يكن الرجل يسمح لنفسه بمناقشتها في
مقالات كتبها لعموم القراء.
يهمني هنا
الوقوف عند فصل حمل عنوان «عمرة كاتب"
نعم يوسف إدريس
أدى العمرة وبكى بدموع حارة ظن أن رصيده منها قد نفد.
الكُتَّاب الذي
غمزوا ولمزوا بهاء طاهر فعلوها ثانية مع إدريس، ولكن بطريقة مكشوفة، وأترك الأستاذ
رجاء النقاش يحدثنا عن خلفيات وكواليس عمرة يوسف إدريس. إذ يقول النقاش، رحمه
الله، في مقال نشره بالأهرام: «كان ذلك فيما أذكر سنة 1984، وكنت قد ذهبت مع عدد
من الكتاب والصحفيين المصريين لأداء العمرة، بعد أن شاركنا في مهرجان الجنادرية الثقافي
الذي تقيمه السعودية كل عام، وقد بدأنا رحلتنا الي العمرة بزيارة المسجد النبوي
في المدينة المنورة، استعدادا للذهاب إلى مكة والطواف بالكعبة. وفي المسجد
النبوي، وفي الجزء المعروف باسم الروضة الشريفة، والذي يقع بين المنبر النبوي
وقبر الرسول رأيت الكاتب الكبير يوسف إدريس يقف وحده أمام قبر الرسول وهو يبكي،
وكان يوسف أحد المشاركين في رحلة العمرة هذه، وقد أدي يوسف معنا مناسك العمرة بعد
ذلك فطاف بالكعبة، وقبل الحجر الأسود، وسعي بين الصفا والمروة، وفي اللحظة
التي كان فيها يوسف إدريس يبكي بدموع حقيقية غزيرة، وجدت أحدهم يقترب مني ويهمس
في أذني: انظر إلي هذه الدموع الكاذبة في عيون يوسف إدريس.. إن يوسف يساري
معروف وأهل اليسار لا يؤمنون بالدين ولاشك أن يوسف إدريس له هدف آخر من وراء
هذه الدموع فهو إنسان ذكي وقادر علي التمثيل الجيد من أجل تحقيق أهدافه
الخاصة».
ويضيف النقاش:
«وجاء ردي على من قال هذا الكلام عنيفا وإن حاولت أن ألتزم بكل ما يمكنني من ضبط
النفس احتراما للمكان المقدس الذي نحن فيه وهو المسجد النبوي الشريف قلت لهذا
الشخص: إنني على العكس أثق بدموع يوسف إدريس وأثق بأنه صادق كل الصدق فانظر
إليه وهو يقف وحيدا لا يكاد يشعر بالزحام الذي يحيط به ولا يلتفت إلى غيره.
أدرك من يحدثني
أنني غاضب ومنفعل ضده بشدة فانصرف عني وبقي طوال رحلة العمرة حريصا على عدم
الاقتراب مني أو تبادل الكلام معي بأي صورة من الصور ولم أتحدث مطلقا مع يوسف إدريس
أو غيره عن هذه القصة التي أرويها اليوم لأول مرة".
انتهى الاقتباس
من مقال الأستاذ رجاء النقاش، والآن كيف أدى إدريسٌ عمرته؟
نحن ـ العوام،
نذهب إلى الحج أو العمرة، وليس في تفكيرنا غير ذواتنا التي نبتهل لله أن يخلصها من
ذنوبها، أما إدريس – شأن الأدباء – ذهب إلى العمرة بأفكاره هو الخاصة التي لا
يستطيع التخلص منها، فهو يبدأ العمرة بقوله: «منذ النصف الثاني من السبعينيات
والهم يتثاقل حتى يبلغ الحلقوم. ومع هذا، فنحن أحياء مازلنا نتحمل ونصبر، وحتى
نأمل ونحلم، وتلك هى معجزة الشعب المصري التي أبقته حيا طوال أكثر من ألفى عام من
حكم المستبدين والغزاة والمجانين، كانت هذه الأفكار تدور فى رأسي، وأنا أرتدى
ملابس الإحرام فى طريقي للصلاة فى الحرم وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم،
وصاحبيه أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، فأرضاهما"
واضحٌ أن الرجل
محملٌ بأفكار مركبة لن يستطيع تجاهلها أو القفز فوقها، إنه الآن أمام مقام الرسول
يقول: «وقفت أمام مقام الرسول الكريم وجموع المسلمين تتدافع لتلقى على بابه، وعلى
مقامه نظرة شوق طالت، وشفاعة مكتومة فى النفس، كل منهم يبوح له صلى الله عليه وسلم
بمكنون قلبه، وبدعاء له ولوالديه ولأولاده وعائلته، ومثلما كانوا يدعون دعوت، ولم
يكن الدعاء سهلا، فقد كان على أن أفرغ نفسى تماما من كل اهتماماتها الشخصية
والدنيوية، كان على أن أطهر قلبي وأفسح صدري وأمسح كل ما يزدحم فى رأسي من قلق،
ولم يكن الأمر سهلا، فما كان يشغلني عمره أحقاب وأحقاب، طبقات فوق طبقات من هموم
عامة وخاصة، من خوف غريب من المستقبل، من تشاؤم يكاد يطبق على بصيرتي وبصري، كان
على أن أتطهر وتعود نفسى بريئة كنفوس الأطفال الرضع، جديدة، وكأن لم يسمها سوء ولا
فعلت سوءا".
حسنًا لقد تخلص
إدريس بمشقة من أفكاره ودعا كما يدعو الناس، ولكن من قال لك إن الوضع سيستمر على
هذه الحالة؟
يقول إدريس:
«وأنا مستغرق فى دعائي لنفسي ولأسرتي وحتى لأصدقائي، هبط على خاطر كأنما هو منزّل
من أعلى عليين، وماذا يا يوسف لو استجاب الله لدعائك وحفظ عليك صحتك وعلى أسرتك
سعادتها وعلى أصدقائك حياتهم، أهذا هو منتهى الوصول؟ ما فائدة أن تحل البركة
والخير على تلك المجموعة الصغيرة من الناس، فى مجتمع يعاني، وبين مصريين يتحملون
ما لا طاقة لهم به؟".
لقد عاد إدريس
إلى طينته الأولى، وهي تلك الطينة التي تتحلى بها النفوس العظيمة، فهي طينة الإمام
الحسين بن علي عليهما الرضوان، الذي صرخ ذات يوم: «إني لاستنكف أن أكون حرًا بين
عبيد».. هؤلاء مسكونون بهموم جامعة، هموم الرقي ببني الإنسان، أن يعيشوا أحرارًا
في مجتمع حر، لا أن يتمتعوا هم فقط بالحرية.
بين يدي النبي الأعظم
يقول إدريس:
«دنوت من قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، ورأيته فى ضوء آخر تماما، هذا إنسان من
بنى البشر، اصطفاه الله ليكون رسولا ومبشرا بالإسلام العظيم، فماذا فعل؟ لم يكتف
بتبليغ الرسالة إلى أولى القربى منه أو إلى قريش وإنما جعل همه كله سعادة البشر فى
الجزيرة وفى الدنيا كلها، وآمن بهذا إيمانا جعله يتحمل الأذى ويتحمل النفي والهجرة
ويحارب ويقاتل المشركين الضالين، رجل واحد بمفرده وبقوة من عند الله، ولكن بإيمان
يجل عن الوصف، استطاع أن يغير أناسا يعيشون فى عصر الوثنية والبداوة والجاهلية
الأولي، يعبدون أصناما من الحجر إلى، قوم صنعوا أمة من أعظم الأمم، إن لم تكن أعظم
أمم الأرض".
ثم يودع إدريس
قبر الرسول ذاهبًا إلى أم القرى حيث الكعبة المشرفة فيقول: «وأنا أطوف بالكعبة
وأرى الناس، صينيين وأوروبيين، مشارقة ومغاربة، من نيجيريا إلى إندونيسيا، نلتف
جميعا حول الكعبة ونصلى المغرب، يا له من مشهد غريب فريد يشرح القلب، آلاف مؤلفة
من الناس يحمدون الله ويركعون ويسجدون، ويسبحون ويستغفرون، كان منظرهم يخلع القلب
فرحا، ويجعلك تنتقل من انتماءاتك المحدودة فى عائلتك أو فى بلدك إلى انتماء أشمل
وأكبر، الانتماء الأكبر، إلى المحيط الإسلامي، الواسع، وتحس بآلامك ومخاوفك، تذوب
تماما فى هذا المحيط، وتبدو نفسك كالماء المعكر بالطين حين يروق، ويروق حتى يصبح أصفى
من الماء المقطر، من نقاء وحلاوة ماء زمزم".
الدعاء بكاء
مرة ثانية تصحو
الطينة الأولى فيقول إدريس: «جاءتني مصر بشعبها ومشاكلها، بحاضرها ومستقبلها، ورحت
أدعو للشعب المصري، ما فائدة أن يرزقك الله بالملايين فى شعب يعيش على حافة
الفاقة؟ إن المسلم الحقيقي لا يسعد إلا فى مجتمع مكتمل السعادة ترفرف فيه السكينة
على الجميع.. وظللت أدعو وأدعو حتى وجدتني أبكي، بكاء لم يحدث لي من قبل، فهو ليس
بكاء حزن، وليس بكاء إشفاق على النفس والشعب، وليس بكاء مذلة وإحساس بالضيم، ولكنه
بكاء المحب لحبيبه، البكاء الواصل بين الله سبحانه والإنسان، البكاء المستلهم من
حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بكاء المتأمل فى الآيات البينات التي أوحى له
بها وغمرت الدنيا من أقصاها لأقصاها.
يا رب لا تمنحني
الصحة وشعبي مريض
ولا تمنحني
الرزق الوافر وشعبي يشكو الفاقة
ولا تمنحني
سلامة النفس وشعبي يطحنه القلق"
هل سمعت أحدًا
يدعو في هذا المقام ألا يرزقه الله وغيره جائع؟
نعم سمعنا إدريس
وسمعنا قبله الإمام الحسين، وسمعنا كل حر يتوق إلى غد جميل مشرق عادل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بموقع
أصوات 3 يونيو 2019