إذا قُدّر لك قراءة كتب مثل "البداية والنهاية" لابن كثير و"الفهرست" لابن النديم و"حلية الأولياء" لأبي نعيم و"وفيات الأعيان" لابن خلّكان و"العبر في خبر من غبر" للذهبي، ستجد كل هؤلاء العلماء يقدمون ترجمة وافية لعبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمَد الأَوْزَاعِيُّ، ويشيدون بعلمه وفضله وتقواه، ويؤكدون أنه قد انفرد بمكانة لم ينافسه عليها منافس.
بعد القراءة قد تسأل نفسك: أين ذهب كل هذا العلم؟
بل ستسأل أين هو الأوزاعي الآن بين علماء الدين؟
تقول ترجمة الأوزاعي المختصرة إنه ولد في بعلبك بلبنان في العام 88 هجرية، ومات ببيروت في العام 157 هجرية، وما بين مولده وإلى موته ملأ الدنيا وشغل الناس بفقه ومواقفه.
لقد ولد الأوزاعي يتيمًا فقيرًا، وكانت أمه تنتقل به بين البلدان لضروريات الحياة، ثم علّم نفسه بنفسه وجالس علماء زمانه، فما مضت سنوات كثيرة حتى دخل مكة للحج، وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله، ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: "أفسحوا للشيخ"، حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه.
يعني رجل يسير في موكبه، بل في خدمته أمثال سفيان الثوري ومالك بن أنس كيف يكون؟
الرجل لم يكن فقيهًا محليًا يفتي لأهل بيروت والبقاع، لقد طار صيت فقهه حتى سيطر على الشام كله وأصبح الأوزاعي الفقيه المعتمد لكل الشام لأكثر من مئتين وعشرين سنة، ومن الشام انطلق فقهه إلى الأندلس وأصبح مذهبًا لأهل الأندلس لعقود طويلة.
ولكن في معمعة هذا الصعود وقع أمر عجيب جدًا، بدأ مذهب الأوزاعي يتراجع بل يتقهقر حتى أصبح أثرًا بعد عين أمام مذهب الشافعي في الشام ومالك في اليمن.
فهل العيب كان في الفقه الذي لم يصمد أمام المذاهب الجديدة، أم في الفقيه الذي لم يحشد لنفسه التلاميذ والمؤيدين، أم في السياسة؟
في سياق الإجابة سنجد أن فقه الأوزاعي ما زال يملًا بطون الكتب، وقل أن تجد كتابًا جادًا يخلو من ذكر فتوى أفتى بها الأوزاعي أو رأي قاله، أما مسألة حشد التلاميذ وتنظيم صفوفهم ليكونوا درعًا لشيخهم حتى بعد موته، فهذه المسألة لم يتعمدها الأوزاعي لكنها وقعت بحكم الظرف التاريخي والعلمي فما أكثر تلاميذه الذين عرفوا فضله ونوهوا بذكره.
إذًا بقي الاحتمال الثالث ألا وهو السياسة، الأوزاعي لم يكن يشتغل بالسياسة بمعناها العام ولكنه كان لا يهاب الساسة خاصة الحكام الطواغيت منهم، نعم لم يكن يتعمد الاصطدام بهم ولكنه لم يكن يتلجلج إذا تحدث أمامهم.
مشكلة الأوزاعي الرئيسية هي أنه كان يمد الخيط إلى منتهاه، وأمثاله لا يرحب بهم الحكام، ويحدث أن يخشاهم المجتمع، خاصة إذا كان المجتمع ميالًا لنوع من أنواع نفاق الحكام ومداهنتهم تحت أي شعار كان النفاق ولغرض أي هدف كانت المداهنة، وعندما يكون الحال كذلك، يبدأ المجتمع نفسه في إزاحة العالم من هؤلاء من فوق قمته ويظل يواصل إزاحته إلى أن يسقط في السفح ويتوارى عن الأنظار فيرتاح الحاكم والمجتمع من صوت الضمير المؤنب والموبخ.
أظن، من خلال تتبعي لسيرة الإمام الأوزاعي أن أمر إزاحته وإسقاطه قد تم بعد محادثة شديدة جرت بينه وبين الأمير العباسي عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، كان الأمير من سفاكي الدماء وكان جبارًا لا يلين، وقاسيًا لا يلتفت لرحم أو ذمة وقد قامت دولة بني العباس تحت ظلال سيفه ، فهذا الأمير قتل في يوم واحد خمسين ألف أثناء معركته مع أخر حكام بني أمية.
أمير بهذه الصفات يستدعي الأوزاعي ويسأله:"يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادًا ورباطًا هو؟
فيجيبه الأوزاعي: أيها الأمير، لقد قال الرسول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
يغضب الأمير من إجابة الأوزاعي فيعود لسؤاله ما تقول في دماء بني أمية؟
فيرد الأوزاعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
يشتد غضب الأمير الذي يصر على أن ينتزع تأييدًا ولو باهتًا لأفعاله من إمام الشام فيسأله: ما تقول في أموالهم؟
يرد الأوزاعي: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام عليك، وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي.
تأكد الأمير السفاح أن الأوزاعي ليس من الذين يبيعون فتواهم خوفًا من العصا، فلجأ الأمير إلى الجزرة وأمر بصرف عطية للأوزاعي، الذي أخذها وتصدّق بها .
ثم لو نظرت حولك ستجد تصديقًا لكلامي، عندما ترى فلانًا وفلانًا يتصدرون المشهد بينما يفرض التعتيم على فلان وفلان حتى تنساهم الناس فيرتاح الحاكم والمحكوم من صوت الضمير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة المقال - الخميس 9 سبتمبر 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق