وهبت مصر للقناة الأرض والعمال ورأس المال، ثم وهبت لها الدم الطاهر الزكي، ومع كل ذلك لم تكن القناة في خدمة مصر، بل كانت في بادىء أمرها نقمة على الوطن، ولم تصبح نعمة إلا بعزم الرجال ودمائهم.
كلمة السر
لا يجوز الكلام عن القناة إلا بذكر فرديناند ديليسبس الذي يظن البعض أنه هبط فوق الأرض المصرية من السماء.
فالحقيقة التاريخية تؤكد أن ديليسبس كان يعرف مصر جيدًا حتى يجوز لنا القول بأنه عرفها قبل أن يولد وذلك بحكم «الجين» فوالده ماتيو ديليسبس كان المبعوث الشخصي لنابليون إلى مصر، وكانت بعثته في العام 1803، أي قبل ميلاد ديليسبس بعامين فقط، في مصر تقرب ماتيو من شيوخ الأزهر الذين كانت لهم اليد الطولي أيامها في رسم السياسة المصرية، ثم تعرف علي شخص الزعيم القادم وهو محمد علي باشا، وسرعان من أصبح من أصدقائه المقربين.
تلك الصداقة ستجعل من الابن فرديناند ديليسبس صديقًا مقربًا من أولاد محمد علي وبخاصة من ابنه سعيد باشا أصغر أولاد الأسرة العلوية آنذاك.
فى بدايات شبابه عمل ديليسبس مساعدًا لقنصل فرنسا في تونس، كان القنصل العام هو والده ماتيو ، وكان الأمر طبيعيا لأن عائلة ديليسبس كانت من أعرق العائلات العاملة في السلك الدبلوماسي الفرنسي.
ومن تونس جاء إلى الإسكندرية ليكون مساعد قنصل وكان ذلك في العام 1832.
بعدها بسنة واحدة جرى تعيينه قنصلا فى القاهرة، وبعدها بفترة وجيزة أصبح قنصلًا عامًا لفرنسا في مصر وظل كذلك حتى العام 1837.
ثم عاد إلى بلاده وبقي بها سنوات إلى أن عاد إلى مصر مرة ثانية، في عودته الجديدة كان صديقه القديم محمد سعيد باشا قد أصبح واليًا على مصر، هنا جاءته الفرصة التي من الواضح أنه كان يحلم بها ليل نهار، مشروع قناة السويس.
المشروع قديم جدًا بدأ مع الفراعنة ثم العرب الذي فتحوا مصر وتواصل مع أمراء البندقية الإيطاليين، حتى وصل إلى نابليون الذي أمر بحفر القناة التي ستضمن له السيطرة على التجارة العالمية، المهندس الذي كلفه نابليون بالدراسات الهندسية أكد أن المشروع سيؤدي إلي غرق مصر لأن منسوب البحر الأحمر أعلى من المتوسط، هذا التأكيد لم يجعل الفرنسيين ييأسون، فقد عادوا لدراسة المشروع وتبين لهم خطأ تقديرات مهندس نابليون، وعلى ذلك فقد تسلم ديليسبس الفكرة مكتملة من ناحية الدراسات والجدوى الاقتصادية، ديليسبس كان صاحب طموح مبني على دراسات علمية ولذا فلم يبذل مجهودًا سوى في إقناع الوالي محمد سعيد بالفكرة، اقتنع سعيد بالمشروع وفي 25 أبريل 1859 بدأ العمل في إنشاء القناة تحت الإشراف المباشر من ديليسبس الذي ضمن لشركته أن تكون لها كل المغانم على أن تكون كل المغارم على مصر، يكفي أن نذكر أن أكثر من مئة وعشرين ألف مصري سيقعون ضحايا القناة في العشر سنوات التي استغرقها الحفر.
لقد كان ديليبسبس هو كلمة السر في خراب مصر ثم أصبح كلمة السر في رخائها.
سيظل ديليسبس ملكًا متوجًا إلى أن يموت موته الأول في العام 1894، أما موته الثاني فكان يوم أعلن ناصر استرجاع مصر للقناة ، ولسوف يموت ديليسبس ميتة الأبد عندما هدم المصريون تمثاله الذي كان يتحدى -في غطرسة – أحلامهم في الحرية والاستقلال.
نحن نستطيع
عندما تولى الزعيم جمال عبد الناصر المسئولية كان قد مضى علي حفل افتتاح القناة الأسطوري سبعة وثمانون عامًا، وكانت القناة خلال عمرها الماضي سببًا رئيسيًا من أسباب احتلال مصر من الانجليز، كانت خنجرًا في الخاصرة المصرية وشوكة في الحلق. فشركة القناة العالمية، أو شركة القناة الأوربية، تكاد تكون إلهية، فلا تملك مصر، التي هي أم القناة، حق رفع ولو أصغر أصابعها في وجه مدير من مديريها.
المتفق عليه في كتابات المؤرخين والسياسيين أن عبد الناصر كان يبحث عن تمويل لبناء السد العالي، رفضت أمريكا والبنك الدولي وكل أوربا الغربية الثرية منحه التمويل، فما كان من ناصر إلا أن رد الصاع صاعين وقام بتأميم القناة لكي يستخدم إيرادها في بناء السد.
لا أنا ولا غيري نملك تكذيب هذا الإجماع ، لكن أين غيرة الأسد على حرمة عرينه؟ أين حلم الحرية والاستقلال؟ أين زهو المظلوم باسترجاع حقه بيديه؟.
لن أتقول علي التاريخ كذبًا، لكن عبد الناصر كان سيفعلها حتى لو مولوا السد، فلم تكن ثورته لتكتمل دون تلك الخطوة، لم تكن جمهورية مصر العربية ستعلن عن ميلادها الحقيقي بدون تأميم القناة، وكأن عبد الناصر كان يصيح: نحن مصر، نحن نستطيع.
جاء يوم 26 يوليو 1956 حين وقف ناصر خطيبًا في حشد خرافي من جماهير الشعب، وكان قد اتفق مع مساعديه علي أنه فور نطقه بكلمة «ديليسبس» عليهم أن ينطلقوا ليستعيدوا قناتهم من يدي غاصبيها، خاف ناصر من حدوث أي سوء فهم، فظل يردد بين جملة وأخري كلمة «ديليسبس» لكي ينطلق البطل محمود يونس ورفاقه ليحرروا القناة ويستردوها.
أسرة من حديد
إن كان ديلسبس قد قاد المشروع، فإن محمود يونس هو الذي حرره ليكون مشروعًا مصريًا كامل المصرية. ومحمود هذا هو ابن أحمد بن يونس ولد في شارع الأربعين بحى السيدة زينب لأب يعمل موظفا في السكة الحديد في ١١ أبريل عام ١٩١١. عمل الأب بين آلات من حديد سيلقي بظله على مستقبل الابن الذي سيتمتع بعقلية هندسية وبعزم حديدي وبشجاعة نادرة.
في طفولة يونس لم يكن هناك سوى الكُتّاب، فالتحق بكتاب بحي السيدة وحفظ بعض سور القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب.
ثم حصل على الابتدائية من مدرسة محمد علي عام ١٩٢٤، والتحق بالمدرسة الخديوية ونال الكفاءة في ١٩٢٨ ثم البكالوريا عام ١٩٣٠ والتحق بمدرسة الهندسة الملكية وفى هذه المدرسة (الكلية) كان زعيما للطلبة وخرج في مظاهرات كوبرى عباس، وبعد معاهدة ١٩٣٦ التحق يونس بمدرسة الهندسة العسكرية وكان ضمن أول دفعة مهندسين مصريين في الجيش المصري.
وفى ١٩٤٣ عمل في إدارة العمليات الحربية وكان زميلا للملازم أنور السادات ثم تعرف على جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وشارك في حرب فلسطين. ولما قامت الثورة أسند إليه المكتب الفنى ورئاسة لجان جرد قصور الملك وفى نوفمبر ١٩٥٣ انتخب نقيبا للمهندسين لدورتين.
مهمة سرية
تاريخ محمود يونس مع المهمات السرية الخطيرة بدأ منذ اللحظات الأولى لقيام ثورة يوليو.
كانت الثورة تفاوض المحتل لكي يرحل عن البلاد، وكانت المفاوضات متعثرة، وكان منهج زعيم الثورة جمال عبد الناصر أن يفاوض بيد ويقاوم بالثانية، لأنه كان مؤمنًا أن التفاوض وحده لن يفضي إلى إنجاز حقيقي. فكر عبد الناصر في حرمان المحتل من مصادر الطاقة فجلس مع محمود يونس لوضع خطة للضغط على المحتل.
انتهى الاجتماع برسم خطة خطيرة، سيقوم يونس ومعه صاحباه المهندسان عزت عادل، وعبد الحميد أبو بكر، بتدمير معملين لتكرير البترول لا يوجد غيرهما فى مصر، معمل التكرير الحكومى، ومعمل شركة شل، والمعملان فى السويس، بحيث يحرم الإنجليز من الوقود اللازم لمعداتهم.
قام يونس بتجهيز كل ما يلزم لنجاح العملية، ولكن فجأة تقدمت المفاوضات بل ونجحت فتم إلغاء العملية.
الرؤية أولًا
عملية معمل التكرير التي لم تنفذ جعلت عبد الناصر يلتفت بشكل خاص ليونس، فقد عرف أصالة معدنه ونقاء رؤيته.
الانجازات الكبرى الخطيرة إن كانت تحتاج إلى شجاعة فائقة، فهى أحوج إلى فكر ورؤية، فلا تضع السيف موضع الندى ولا تضع الندى موضع السيف كما قال أبو الطيب المتنبي.
نحن الآن نهتم بتطوير القناة ونحلم بتنمية كل مدن القناة، ونجلس هادئين ونحن نحصي عدد البواخر والسفن وناقلات البترول التي تعبر القناة، ونحصي أرباحنا، ونحلم بتحطيم كل الأرقام القياسية العالمية، لكي تتربع قناتنا على عرش النقل البحري، نفعل كل ذلك وننسى جبروت خطوة تحرير القناة، تلك الخطوة التي تعني -أول ما تعني – جلب عداوة دول عظمى، عداوة وصلت إلى عودة الاستعمار القديم لاحتلال مصر، ولكن بفضل الله ثم بعزيمة الرجال تحطمت محاولتهم وباءت بالفشل.
رجل تحرير القناة كان محمود يونس ضابط المهمات السرية الخطيرة، وعن دوره في ذلك الحدث التاريخي يقول: «في ليلة التأميم كنا ثلاث مجموعات إحداهن رئيسية في الإسماعيلية والثانية في السويس والثالثة في بورسعيد وكنت على رأس مجموعة الإسماعيلية ولم يكن أحد يعلم سر المهمة في المجموعات الثلاث غيرى وعبد الحميد أبوبكر وعادل عزت ووصلنا الإسماعيلية بعد ظهر يوم التأميم فلما خطب ناصر في الإسكندرية وقال كلمة ديليسبس ثم قال: «والآن أقول لكم»، دخلت مع المجموعة مبنى الشركة واستدعيت المسئولين وأبلغتهم قرار التأميم بالعربية وانهاروا أمامى وطلبوا منى تأمين حياتهم».
معركة المرشدين
بالدم تستطيع التحرر، ولكن قد لا تستطيع الإدارة، لأن الإدارة علم قائم بذاته، فهى تحتاج إلى كفاءات نادرة، الآن عادت القناة مصرية، ولكن مَنْ يتصدى لإدارة هذا المرفق الذي يهتم به العالم؟.
كان عبد الناصر قد درس خطوات تحرير القناة خطوة خطوة ولذا قام وهو يشكل مجلس إدارة هيئة القناة باختيار اسم مدني لكي يتولى رئاسة مجلس إدارة القناة فعين الأستاذ الدكتور حلمي بهجت بدوي أستاذ القانون رئيسًا لمجلس الإدارة، وكان بهجت اسمًا مرموقًا على الساحة العالمية فقد درس في باريس وتعرف على عواصم الغرب الكبرى، ثم حدث وأن توفى الدكتور بهجت فحل محله محمود يونس الذي سيخوض معركة كبرى مع المرشدين.
كان مرشدو السفن من الأجانب وكانوا متأكدين أن القيادات المصرية غير قادرة علي إدارة القناة.
يقول مؤرخو تلك الأيام العظيمة: بدأت مؤامرة انسحاب المرشدين الأجانب عندما قام مسيو بول ريموند نائبا عن موظفي القناة ومرشديها الفرنسيين بمقابلة محمود يونس الذي كان يقوم بدور رئيس هيئة قناة السويس بشكل عاجل كان ذلك في ليلة 13 سبتمبر 1956.
وقال ريموند ليونس إنه قرر هو وزملاؤه من المرشدين والموظفين الأجانب البالغ عددهم 206 من المرشدين و154 موظفا أن يتركوا أعمالهم في القناة لعدم استطاعتهم التعاون مع يونس بحجة عدم رضائهم عن معاملته لهم، وفي خلال اللقاء ألمح ريموند إلي أن ثمة تعليمات قد وصلته من باريس بهذا التوقف وأن الشركة المنحلة بقرار عبد الناصر ضمنت لهم مرتباتهم وأعمالهم بل وأعلنت عن مكافأة مرتب عام لمن يترك العمل في القناة منهم.
وبالفعل وفي الليلة الثانية مباشرة، ترك المرشدون الفرنسيون أعمالهم و جلسوا في نواديهم يطلون علي مياه القناة ويحتسون الويسكي وبجوارهم كان مراسلو الصحف الأمريكية قد تجمعوا ليشهدوا الفضيحة المتوقعة لتوقف الملاحة في القناة.
عندما تأكد يونس من انسحاب المرشدين الأجانب في منتصف ليلة 15 سبتمبر 1956 لم يهتز ولم يرتبك كان واثقًا بالله ثم بسواعد وهمم المصريين كعادته.
لقد رد على انسحاب المرشدين قائلًا: «مع السلامة ونحن مستعدون لتقديم أية تسهيلات لخروجكم فورا».
أخبر يونس ناصرًا بما حدث فقال له ناصر: قل لهم: إنني أعطيت تعليماتي بتيسير حصولهم علي تأشيرات الخروج و بأن تعزف الفرقة الموسيقية لهم عند رحيلهم نشيد( حفظ الله الملكة) آو "المارسيلييز».
توقف القناة لساعة واحدة عن العمل كان يعني فضيحة عالمية لن تقوم للقناة قائمة بعدها، الموقف صعب جدًا وخطير جدًا ولا يحتاج إلى خطب رنانة ومواقف جوفاء وشجاعة متهورة رعناء، إنه يحتاج لعقول فذة وهمم عالية، وهذا ما كان يتمتع به البطل يونس.
منذ البداية كان يونس يتوقع أن المرشدين الأجانب ومعظمهم من الإنجليز والفرنسيين سيغدرون وسيعملون على تعطيل القناة لفضح نظام ثورة يوليو وإظهار عجزه عن إدارة القناة، ولذا أعد يونس خطة لتعويض انسحاب المرشدين، كان البديل جاهزا ففي يوم 10 سبتمبر 1956 وقبل الانسحاب بخمسة أيام تم تعيين 46 مرشدا منهم 28 أجنبيا من جنسيات مختلفة أغلبهم كانوا من اليونانيين والقبارصة واليوغوسلاف، وكان عبد الناصر بعد التأميم مباشرة قد قام بالاتصال بالدول الصديقة وطلب مساعدتها لإيفاد مرشدين للعمل في القناة وقد سارعت هذه الدول وفي مقدمتها اليونان وقبرص بإيفاد الأعداد المطلوبة في أقل من24 ساعة من طلبهم.
عاش يونس تلك الأيام العظيمة العصيبة وقد أطلق عليها «أيام الامتحان» لقد أستطاع بأربعة وثلاثين مرشدًا فقط، إرشاد أربعين سفينة، وهذا كان متوسط عدد السفن العابرة للقناة في ذلك الزمن.
وظل محمود يونس حارسًا أمينًا على القناة حتى جاء شهر أكتوبر من العام 1965، وفيه قرر عبد الناصر تعيينه نائبا لرئيس الوزراء لشؤون النقل والمواصلات ثم وزيرا للبترول.
لم يكن محمود يونس منفذًا عبقريًا فقط، بل كان رجل سياسة يستطيع طرح الأفكار ومناقشتها، ولذا فقد أصبح عضوًا بالبرلمان عن دائرة البستان ببور سعيد، وظل عضوًا له صولات وجولات تحت قبة البرلمان إلى أن لقي ربه فى١٨ أبريل عام 1976.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى موقع "أصوات أونلاين" 25 نوفمبر 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق