لن نقدر يوم
العبور العظيم حق قدره إلا إذا نظرنا إلى ما كان قبله.
في الخامس من
يونيو من العام 1967 تلقينا ضربة موجعة قاسية جدًا، ومن فرط قسوتها ظن الذين في
قلوبهم مرض أن الدولة المصرية، قيادة وشعبًا وجيشًا لن ترفع رأسها مرة ثانية
وستعيش تلعق جراحها وتبكي حظها حتى يفنيها عار الهزيمة.
لكن المصري
الحقيقي عض على شفتيه كما تفعل الجِمَال، ولم يسقط في الانهيار وغيبوبة النسيان،
ظل قابضًا على جمر الحقيقة القاسية وأمضى ست سنوات كاملة في تأدية أقسى وأصعب
التدريبات، ولم تكن التدريبات عسكرية فقط، بل شملت مختلف وجوه الحياة، لقد عاش
المصري السنوات الفاصلة بين قسوة الهزيمة المباغتة وبين تألق النصر المبين وهو
يتدرب على أن يعيش حياة حرب بكافة تفاصيلها.
أين كان الشعب في
هذه الملحمة؟
الشعب لم يقل
لجيشه ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم، موسى كليم الله:" فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ".
شعبنا العظيم قال لجيشه ما قاله أصحاب
سيدنا محمد له:" اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".
لقد تقدم شعبنا الصفوف وحمى جيشه وقيادته
ولم يبخل بشيء حتى لو كان في أشد الاحتياج إليه، ويكفيه أنه قدم أولاده فلذات
أكباده الذين هم الضباط والجنود ليكونوا وقودًا لمعركة استرداد الكرامة وتطهير
الأرض من دنس الاحتلال.
وقد وقعت قبل أيام على سطور مضيئة كتبها
الكاتب الأستاذ سعد الأزهري، وقد نشرها تحت عنوان" شاهد شاف كل حاجة"
يعني أن سطوره هى شهادة شاهد عيان، رأى
بعينيه وسمع بأذنيه وعاش الموقف بكامل تكوينه ووجدانه.
نقرأ معًا سطور الأستاذ الأزهري لكي نعرف
قدر شعبنا الذي ساند جيشه العظيم وكيف لم يخذله الجيش الذي قدم بطولات نادرة ستظل
خالدة في سجلات التضحية والشجاعة.
قال الأستاذ الأزهري: “أثناء حرب أكتوبر
1973، دخل قطار بضاعة بعرباته الكثيرة إلى منطقة الانتظار، بمحطة قطارات شبين القناطر.
محطة قطارات شبين القناطر محطة رئيسية، على خط
الشرق القديم بين القاهرة والمنصورة نهاية خط كوبري الليمون الشهير. وكان من
المعتاد أن تمر قطارات البضاعة المحملة بالمواد المحجرية وهي من محاجر أبو زعبل
القريبة، وتقف قليلا قبل أن يُفتح لها الطريق. ويحيط بالمحطة ميدان رئيسي وهو
ميدان واسع وحيوي وهو أيضا سوق البلد الرئيسي والمشهور بتجارة الفاكهة والخضار و
" الشنايش " التي تبيع بالجملة والباعة الجائلين الذين يعج بهم الميدان
ويفترشون الأرض والأرصفة بكل أنواع الخضار والفاكهة.
توقف القطار قليلا قبل السماح له باستئناف رحلته
وفتح الخط له . وانتبه الناس الي الحركة الغريبة حول القطار وكثرة عدد جنود
الحراسة.
ولاحظوا أيضا أن هناك عربات مغطاة بجريد
النخل وفروع الأشجار، والأغطية الخضراء الثقيلة.
وبدأ الفضول يدفع الناس إلي التساؤل: ما الذي
يستدعي حراسة قطار محمل بمواد محجرية بهذا الشكل؟
وعرفوا أن القطار محمل بالعتاد العسكري والمؤن والأغذية،
متوجها إلى جبهة القتال.
وماهي إلا لحظات حتى حدثت حركة هياج شديدة بين
الناس وكأن مس من الكهرباء سري فيهم، واصطفوا كأسراب النمل النشط ــ وبدون قرار أو
أوامر من أحد ــ وفي دقائق معدودة تم دفع وتحميل كل ما في السوق إلي داخل القطار،
الباعة الجائلون قبل التجار، ولم يبق شيء في الميدان إلا الصمت وهم يتابعون تحرك
القطار، ما بقى إلا شعب يحارب معركته".
انتهت سطور الأستاذ الأزهري التي تنطق
بعظمة هذا الشعب الذي عندما يريد فإنه يتوكل على الله وحده ثم يمضي لتحقيق ما
يريده لا يمنعه مانع، حتى لو كان ذلك المانع هو اقتحام قناة السويس وتحطيم خط بارليف، أحد أقوى الخطوط الدفاعية التي عرفتها البشرية.
لم يصدق شعبنا يومًا أكذوبة أن خط بارليف
سيمنعهم من تحقيق النصر وتطهير الأرض، في الموقف الذي ذكرناه تبرع الشعب بدون أمر
من أحد بقوت يومه، وصنع ذلك بتلقائية الذي لا يريد جزاءً أو شكورًا، لقد صنعه يريد
وجه الكرامة والعزة وقد قاتل جيشنا العظيم وعاد مرفوع الرأس ليقدم نصره الخالد
هدية لشعبه المقاوم البطل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق