يأكل
المصريون الفول والطعمية والكشرى وأمعاء الأبقار وأطرافها، لكن بعد تنظيفها تنظيفا
جيدًا ، وبعد طهوها جيدًا.
الأكلات
المصرية يستهجنها بعضهم، لكن لا يجرؤ أحدهم على أن يقول إن هذه الأطعمة تسبب ضررًا
لصحة الذى يأكلها أو لمن يخالطه، الاستهجان قادم غالبًا من منطقة الذائقة أو الاستكبار،
فقد روى العالم الجليل الدكتور خليل حسن خليل فى سيرته الذاتية «الوسية» فقال «عندما
كنت فى طريقى إلى لندن فى أواخر الأربعينيات لدراسة الدكتوراه، صاحبت على متن السفينة
فتاة أوروبية ، ولكى نهون الطريق علينا توافقنا على أن يحدث كل منا صاحبه عن عادات
وتقاليد بلاده، وعندما حدثتها عن المطبخ المصرى ذاكرًا الفول بوصفه الطبق الرئيسى لدى
المصريين، قالت متعجبة: ولكن هذا طعام الحيوانات!».
هذه
فتاة أوروبية تتحدث مع شاب مصرى أسمر البشرة وبلده محتل، فمن الطبيعى أن يقودها استكبارها
إلى التفوه بجملة غير لائقة بالمرة، ثم هناك أشقاء عرب لا يستكبرون لكنهم لا يتذوقون
الفول المصرى الشهير والعظيم.
وما
بين الذائقة وخصوصيتها والاستكبار وجرائمه، هناك تعصب حاد تصاب به الشعوب تجاه أطعمتها،
فكل شعب يدافع عن مطبخه وكأنه قدس الأقداس.
رأس القرد
هذا
التعصب مفهوم وله ما يبرره، ولكن جد جديد يجعلنا جميعا (أعنى بنى الإنسان)، أمام اختيار
صفرى، إما أن نكون أولا لا نكون.
هناك
ما يشبه الإجماع الطبى على أن بعض المأكولات تأتى بالفيروسات، وعلى ذلك يصبح من العبث
التعصب للمطبخ الوطنى، ويصبح من العبث الحديث عن حرية الأكل أو ثقافته، فلك أن تأكل
ما تشاء بشرط ألا يتسبب طعامك فى كارثة لك وللآخرين الذين يخالطونك.
قبل
عشرين عاما كتب الأديب الدكتور محمد المنسى قنديل قصة قصيرة بعنوان «ليدى هوم»، فى
تلك القصة مشهد لحفل عشاء يحضره ثرى فى مطعم فخم، ويصف بطل القصة المشهد فيقول: «فى
ركن من أركان المطعم كانت هناك منضدة مقسمة إلى قسمين، لاحظ بطل القصة أن عاملًا بالمطعم
قد حمل قردًا صغيرًا، ووضعه بين قسمى المنضدة، وقرّب المسافة بين القسمين بحيث توارى
جسد القرد وبقيت رأسه فقط هى الظاهرة، ثم شحذ سكينًا، وبضربة واحدة كشط رأس القرد فظهر
مخه، كان القرد يصرخ صرخات ملتاعة، يأتى عامل آخر وينكب على مخ القرد الظاهر وبملقاط
معدنى ينتزع المخ من مكانه ويضعه على طبق يزينه بالبقدوس والسرخس وفصوص الليمون، ويقدم
الطبق للثرى لكى يلتهمه.
الثرى
لم يكن جائعًا، ولم يكن هذا الطعام العجيب، ولن نقول المقزز، من مألوف طعامه، الثرى
كان يبحث عن مقويات لفحولته»!
قد يعترض
أحدهم على هذا المشهد المؤلم ويقول: هذا مشهد من قصة لا يمكن أن يحدث على أرض الواقع،
وللحق هو مشهد من قصة، لكن المنسى قنديل كان رحالة فى زمن عمله بمجلة العربى الكويتية
وقد جاب أرجاء العالم، والذى لديه أدنى بصيرة بفنون القص سيدرك أن المشهد حقيقى وهو
رؤية شاهد عيان نقلها إلى أرض القص تخلصًا من ثقلها على النفوس الطبيعية.
عن عمد
لم أذكر اسم المدينة ولا الدولة التى جرى على أرضها هذا المشهد، فنحن لا نريد التنابز
بالأكلات، نريد فقط التحذير من هذا الجشع والشره، فرجل يبحث عن المزيد من الفحولة يأكل
مخ قرد بدون حتى طهوه، فهل مخ القرد هذا ليس به من الفيروسات بل والأوبئة ما به؟! فماذا
سيحدث للثرى عندما تنتقل إليه فيروسات مخ القرد؟ ولو كان هو فقط الذى سيصاب لجاز لنا
أن نقول: لقد ذاق وبال أمره، لكن المشكلة الآن أن المصاب ينقل العدوى للسليم المعافى
البرىء.
حمام جماعى
الحمام
هو الحمام بخصوصيته الشديدة جدًا، ونحن لن نتحدث من منظر دينى ونتكلم عن حرمة كشف العورات،
فلكلٍ دينه وهو به معجب، كما لن نتحدث عن أبسط قواعد الذوق واللباقة التى تحتم أن يكون
الإنسان منفردًا عندما يقضى حاجته.
نحن
سنتحدث عن القواعد الصحية، ولنقرأ معا شهادة نشرتها الكاتبة الصحفية سارة علام على
حسابها بموقع التواصل الاجتماعى الفيس بوك، كنت أود لو نقلت الشهادة بنصها ولكن رأيت
صياغتها بالفصحى، كتبت سارة: «كنت فى زيارة لدولة شهيرة جدًا، وكان فى برنامج الزيارة
رؤية قرية قامت بتطبيق الانتقال من الزراعة للتصنيع وتطور المجتمع الريفى، دخلنا القرية
بعد سفر قطعناه بقطار فائق السرعة وفائق النظافة، فجأة أردتُ استخدام الحمام، فقال
لى مرافقي: تفضلى.. ذهبت إلى حيث أشار فرأيت العجب العجاب، لقد رأيت عشرين حماما (بلديًا)
فى قاعة متسعة، وليس هناك فاصل أو حاجز من أى نوع بين كل حمام وآخر! والناس يقضون حاجتهم
فى حشد جماعى، كاد يصيبنى بالجنون.
قال
مرافقى عندما رأى نفورى: هذه عادات الناس هنا!
ردت
عليه سارة: وما ذنبى أنا فى عادات غير صحية بالمرة؟!».
ظلت
الكاتبة تعانى مشكلتها إلى أن خرج الناس من الحمام فقامت بغلق باب القاعة الرئيسى لكى
تنفرد بنفسها، وظل الناس واقفين أمام الباب الرئيسى ينتظرون دورهم.
هل الحمامات
هى التربة الخصبة لكافة أنواع الحشرات والجراثيم والفيروسات، نعم أم لا؟.
الطب يقول نعم، فإذا كان الطب يشدد على نظافة البدن
فهو أشد تشديدًا على نظافة الأماكن العامة، خاصة الحمامات، فلا معنى لأى اعتراض على
هذا السلوك المنفر بزعم مراعاة تقاليد الشعوب.
ومن
شهادة سارة علام أذهب إلى شهادة نشرتها الكاتبة الصحفية نرمين يسر وجاء فيها: «كنت
مدعوة لحفل عشاء فى مطعم شهير مع صديقتى وزوجها ووالد الزوج الذى تجاوز عمره التسعين
عاما، لكنه يحتفظ بصحة طيبة، ومر نادل يمسك بيده ثعبانًا مثقوب الرقبة ودمه ينزف، يضع
النادل كوبًا لجمع دم الثعبان ثم يقدمه لرواد مطعمه، رأيت صديقتى تجرع الكوب فيحمّر
وجهها، وكانت المفاجأة أن صديقتى التى كنت أظنها فى مثل الثلاثينات من عمرها إذ هى
فى الستين من عمرها!
مرة
ثانية ما معنى بحث الإنسان عن مجدد لشبابه على حساب صحته وصحة المخالطين له؟ هل دم
الثعبان لا يحمل شيئا قد يدمر صحة الإنسان؟ الثعبان فى حد ذاته كائن سام، فكيف سيكون
دمه؟!
نواصل
مع شهادة نرمين التى تقول: «كنت فى دولة من الدول، وأكلت مرة شيئا جعل كل جسمى ينتفخ،
فذهبت فورًا إلى المستشفى وهناك عرفت أن الذى أكلته كان غرابًا»!
الخنزير حرام!
ومن
نرمين نعود إلى سارة علام التى قالت: «فى دولة من الدول كانت الأطباق الرئيسية التى
تقدم لنا تضم ما يلى: الأخطبوط، الضفادع، لحوم الخيول، طحالب لزجة، وكائنات أخرى لم
أسأل عنها، وفى لحظة ما كنت أشرب شوربة أعجبتنى، فهمست للمترجمة التى ترافقنى وسألتها:
ما نوع البهارات المستخدمة فى هذه الشوربة؟.
فردت المترجمة علىّ بعربية تشبه لغة الروبوت، وقالت
إنه الدود المقلى الغنى بالبروتين.
تختم
سارة شاهدتها قائلة: «المضحك، أنه فى آخر أيام الزيارة قدموا لنا لحم الخنزير ثم تنبهوا
إلى أننا من المسلمين، وديننا يحرم علينا لحم الخنزير».
وبعدُ
فلو شئتُ جمع مئة شهادة ما عجزت، لكن لأن الأمر ليس أمر جمع شهادات، كما أنه لم يعد
أمر ذائقة وتقاليد شعوب، فما قدمته يكفى لدق أجراس الخطر، فتلك الكائنات ليست مخلوقة
للأكل، فبعضها سام بطبيعة خلقته وكلها تحمل من الجراثيم والفيروسات ما تحمل، وقد ثبت
علميا انتقال الفيروسات من الحيوانات إلى الإنسان ثم انتقالها من الإنسان إلى مخالطيه،
وعملية الانتقال هذه نعيش نتائجها الآن، فيجب علينا أن نقف وقفة حازمة صارمة ضد هذه
الأمزجة التى تعلى نشوتها اللحظية على مصير البشرية، فعندما يتعلق الأمر بصحتى فلن
أسمح لك بأن تحدثنى عن عراقة مطبخك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة صوت الأمة / السبت 11أبريل 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق