* خطأ التوريث قضى على حكم مبارك
* أطالب بإلغاء الامتحانات ولو أصبح التعليم أسوأ سأقذف بنفسي في النيل
* هل دور وزارة التعليم ووزيرها هو حراسة أسئلة الثانوية العامة؟
* الإعلان يدمر الإعلام وإغلاق الصحف الورقية كارثة
* الله عز وجل تعهد بالحفاظ على " الذكر " ولكنه لم يتعهد بالحفاظ على اللغة العربية
ظهر الثلاثين من يونيو 2013 كان تكويني العام يلزمني بالمشاركة في المظاهرات المنادية بإنهاء حكم المرشد، في تلك الظهيرة الحارقة وتحت عين الشمس، رأيت الكاتب والناقد الكبير الدكتور محمود الربيعي يقف فوق رصيف شارع البطل أحمد عبد العزيز هادئًا وقورًا كما يليق بأستاذ جامعي عريق.
كنتُ مندهشًا لوجوده بين تلك الحشود الغاضبة، بعينه الخبيرة قرأ دهشتي فابتسم وقال: "للحديث وللشرح وقت آخر".
كنتُ مندهشًا لوجوده بين تلك الحشود الغاضبة، بعينه الخبيرة قرأ دهشتي فابتسم وقال: "للحديث وللشرح وقت آخر".
تركته حيث يقف لأواصل التظاهر، ولكن لم تتوقف أسئلتي عن رجل في الثمانيين، عمل بالجامعة المصرية حتى وصل إلى منصب وكيل كلية دار العلوم، ثم عمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة أستاذًا للأدب العربي، ودرّس في جامعات شتى، وكتب آلاف الصفحات ما بين دراسات وكتب، وأخرج للناس كتابين فريدين في فن السيرة الذاتية "في الخمسين عرفت طريقي" و"بعد الخمسين".
ما الذي جاء برجل له مثل هذا التكوين إلى هذه المظاهرة ؟
مساء السبت الماضي جلست بين يديه في صحن منزله لأسمع منه الإجابة على أسئلة شغلتني مع الشرح والتفسير فقال: "لم تدهشني قط سرعة سقوط دولة الإخوان، وذلك لأن الجماعة لم تقرأ المصريين جيدًا، أنا أؤكد لك أن المصريين متدينون، بمعني أن الدين بمعناه العام هو جزء لا يتجزأ من تكوين المصري الثقافي والاجتماعي بل والسياسي، هذا المصري الذي يحترم الدين هو نفسه الذي ينفر بل ويتصدي للدولة الدينية، والكلام عن الدولة الدينية مبحث خطير ومتشعب، ولكنه في الظرف الإخواني واضح، فقد تأكد المصريون من أن الجماعة ستذيب حدود دولتهم، هذا ما وصل للمصريين من الحديث عن الدولة الدينية، المصري لديه مشكلة مع حدوده، إنه يريدها كما ورثها، بدون زيادة أو نقصان، وفي سبيل الحفاظ عليها يقاتل لآخر قطرة من دمه.
مساء السبت الماضي جلست بين يديه في صحن منزله لأسمع منه الإجابة على أسئلة شغلتني مع الشرح والتفسير فقال: "لم تدهشني قط سرعة سقوط دولة الإخوان، وذلك لأن الجماعة لم تقرأ المصريين جيدًا، أنا أؤكد لك أن المصريين متدينون، بمعني أن الدين بمعناه العام هو جزء لا يتجزأ من تكوين المصري الثقافي والاجتماعي بل والسياسي، هذا المصري الذي يحترم الدين هو نفسه الذي ينفر بل ويتصدي للدولة الدينية، والكلام عن الدولة الدينية مبحث خطير ومتشعب، ولكنه في الظرف الإخواني واضح، فقد تأكد المصريون من أن الجماعة ستذيب حدود دولتهم، هذا ما وصل للمصريين من الحديث عن الدولة الدينية، المصري لديه مشكلة مع حدوده، إنه يريدها كما ورثها، بدون زيادة أو نقصان، وفي سبيل الحفاظ عليها يقاتل لآخر قطرة من دمه.
قلت: أين إذن عالمية الرسالة وأممية الإسلام؟
رد الدكتور الربيعي مبتسمًا: وما علاقة هذه بتلك؟ إن كنت تتحدث عن دولة الخلافة فقد كانت دولة ككل الدول، سيطرت بقوتها على بقاع من الأرض وقالت: هذه دولتي تُحكم بقانوني، دائمًا كانت هناك دولة محددة الحدود واضحة الهوية أما الإذابة تحت زعم عالمية الرسالة فلم ولن تحدث، ولن أحدثك عن شروط الدولة المعاصرة وتكوينها، فكل ما لدي ينفي معتقد الإذابة التي تتبناه الجماعة تحت شعار إقامة دولة الخلافة.
قلت: إذا كانت الدولة الدينية هي التي أسقطتْ نظام الجماعة فما الذي أسقط نظام مبارك؟
لمعت عينا الدكتور الربيعي قبل أن يجيب:"يوم جمعة الشهداء 28 يناير كنت في الإسكندرية، ومن شرفة المكان الذي كنت فيه، رأيت جماعات من الشباب يتسلقون برشاقة وثقة تلك الأعمدة التي تعلوها صور جمال مبارك، كانوا يمزقون الصور وكأنهم لا يصنعون شيئًا خطيرًا، اللافت أن الصور كان عليها شعار يقول: "خير خلف لخير سلف"، إذن قصة التوريث هي التي أسقطت مبارك، لحظتها تأكدت أن الأمر قد انتهى، وما سيحدث هو مجرد تفاصيل لن تقدم ولن تؤخر، المصريون في عمومهم ارتضوا النظام الجمهوري، ثم صحوا من نومهم على إجراءات توريث، ولم يكلف مسئول نفسه بأن يستمع لرأي الشعب، فكان ما كان.
سألته: عندما تطل على المشهد من على بعد ست سنوات، هل ترى لنا مكاسب؟
بحماس رد:نعم هناك أرباح، هي جد قليلة، ولكن يمكننا البناء عليها، المكسب الذي أسعدني كان في سقوط "النفوذ الزائف" بعد الثورة لاحظت من موقعي الجامعي أن طلابي يناقشونني بجدية غير مترددين، وغير خائفين، هذا النقاش المهذب الجاد الباحث عن الحقوق والواجبات، إنجاز ثوري هائل، لابد من استثماره، أن تعرف ما عليك وتؤديه وأن تعرف ما لك وتحرص على التمسك به ومن ثمّ الحصول عليه كاملًا غير منقوص.
قلت: نحن سيدي الدكتور نؤدي ما علينا وزيادة ثم لا نحصل على شيء.
بنبرة غضب رد الدكتور الربيعي: هذا ليس صحيحًا، ولكي يصلك المعنى الذي أقصده سأضرب لك مثلًا بسيطًا، هب أنك تدينني بمئة جنيه، وأنا لا أردها لك، هل ستشكو إلى القاضي أم ستكتف يديّ وتخرج حافظتي وتقتنص ما لك؟
إن شيوع الحصول على الحقوق الآن وبأي طريقة خطير جدًا، إنه أمر يهددنا جميعًا وسنقع أسرى له، الطريق إلى الحق لابد وأن يكون هو أيضًا حقًا، غير ذلك سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
قلت: يعني هناك أمل في النهوض؟
أجاب: طبعًا ولكن لا أمل هكذا في المطلق، فلن يجعلنني أحد متفائلًا رغم أنفي، ولكن أكون متفائلًا تحت قصف الأمنيات والأحلام الوردية، هناك منظومة للأمل الذي يؤدي إلى النهضة، تلك المنظومة ليست أكثر من كلمتين هما "التعليم الجاد"، بغير التعليم الجاد لن يكون هناك أمل في شيء.
سألته: هل ترى أن تعليمنا ليس جادًا؟
رد بغضب: هل تعبث معي الآن؟ عن أي تعليم تتحدث؟ لم يعد لدينا تعليم، أقولها وأنا أتعلم منذ الخامسة من عمري، ما هو دور وزير التعليم؟
لقد أصبح دوره الوحيد هو حراسة أسئلة الثانوية العامة؟
لقد أصبح رجل شرطة وليس وزيرًا للتعليم، ثم في كل عام يجرى تسريب الأسئلة، أين دور المدرسة غارسة القيم؟
أين دور المدرس حامي العقل؟
ما هذه الدروس الخصوصية؟
ما هذا الكلام عن المجاميع وعن كليات للقمة وأخرى للقاع؟
أين هذا من العلم؟ أين هذا من التعليم؟
يا أخي أنا أنادي بإلغاء الامتحانات التي يذلون بها أعناق الطلاب وأهاليهم، ثم راقبوا أنتم حال التعليم في السنة التي ستمر بدون امتحانات، فإن وجدتم أن حاله قد أصبحت أسوأ مما هو عليه الآن فأنا سأقذف بنفسي في النيل، يا أخي هناك فرق بين "حامل الشهادة" وبين "المتعلم" ليس أكثر من حاملي الشهادات ولكن المتعلمون حقًا قلة لا تكفي لإدارة شئون الوطن.
قلت: إذن غاب دور المدرسة والمدرس، ودور البيت غائب منذ زمن، يبقي دور الإعلام، كيف تراه؟
أجاب: هذا جرح جديد، بل جرح مقزز، هناك مَنْ دمّر الإعلام لصالح الإعلان، هل تعرف أن إذاعة القرآن الكريم تبث إعلانات؟
هل تعرف أن إذاعة البرنامج العام بدأت تنافس الإذاعات التجارية؟
ما هذا الذي يحدث؟ ولصالح مَنْ؟
يقولون: لابد من المال وإلا توقفت الفضائيات والجرائد والإذاعات المسموعة؟
سأقول إن فلانًا قد عجز عن أن يظل بيته مفتوحًا، هل نقترح عليه أن يؤجر غرفة الاستقبال لتاجر مخدرات يجعلها مخزنًا لبضاعته؟
هذه كتلك، بل الإعلام أخطر وأهم، إن تأجير الهواء لمن يدفع كارثة، ندفع ثمنها وسنواصل الدفع ما لم يتوقف هذا المسلك، منذ أن فتحت زعم نقص الأموال بدأ ترويج فكرة الاستغناء عن الصحافة الورقية، كيف نهدر تجربة صحفية مضى عليها أكثر من مئتي سنة؟ أي عقل يستسيغ هذا الكلام؟
يقولون: صحف بريطانيا يجرى إغلاقها؟
مالك أنتَ وبريطانيا؟ لماذا يجري اقتطاع الأمر من سياقه العام ومن لحظته التاريخية؟
يتحدثون الآن عن الهيئة الوطنية للإعلام، منْ اختار أعضائها؟ وما هي معايير اختياره؟ ثم لا جدوى من أي هيئة تتجاهلني أنا رجل الشارع، أنا المواطن لابد وأن تكون لي كلمة مسموعة، لأني المستهلك الأول، فيجب وضعي في الحسابات النهائية لأي هيئة ولأي مشروع.
قلت: إذا كان لرجل الشارع رأي فأين المجمع اللغوي الذي حضرتك نائب رئيسه من الشارع؟
رد هادئًا: ما هذا الخلط؟ نحن نقوم بعملنا الذي هو الحرص على سلامة اللغة، وتعريب المصطلحات وإخراج المعاجم، والدعوة إلى مؤتمر عام مرة في السنة، ولا يلبي الدعوة سوى قلة، عملنا فني في المقام الأول يقوم به متخصصون، كون الشارع لا يصله ما نقوم به، فهذه ليست مشكلتنا.
كأن الدكتور الربيعي قد رأى في وجهي علامات الحسرة على دائرة لا تكتمل وعلى لغة تكاد تضيع فواصل تدفقه قائلًا: بخصوص اللغة فهناك أخطاء وقعنا فيها، بعضنا نفض يديه من الأمر كله تحت مظلة قوله تعالى: "إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون".
ذلك البعض الذي أقصده يؤمن أن الله عز وجل قد تعهد بحفظ العربية، هؤلاء يقعون في الأوهام، لدينا في المجمع باحث سعودي اسمه أحمد الزبيدي قال: "الله تعهد بحفظ الذكر ولم يتعهد بحفظ العربية"، إن لم نحافظ على لغتنا فستظل موجودة في المصاحف وفي بطون كتب العلماء، ستصبح مثل الإغريقية واللاتينية لا يعرفها إلا الموسوعي الحريص على معرفة اللغات النادرة.
الخطأ الثاني: هو تجاهلنا لكون اللغة كائن حي، يضعف ويقوى، يتقدم ويتأخر، يتطور بمضي الزمان، فإن ظننت أنك قادر على المحافظة على لغة امرئ القيس مثلًا فأنت واهم، لأنك تغفل فعل التطور.
الخطأ الثالث: وهو مرتبط بالخطأ الثاني، وأعنى به "حراسة اللغة" يا أخي الأمر أشد تعقيدًا من حراسة القاعدة التي تقول: "إن الفاعل مرفوع"، اللغة أوسع من هذا، إنها كائن حي يجري في نهر لا يحده حد، ثم أي لغة نريد؟ هناك لغة بمعنى القواعد وهناك لغة بمعنى المستويات، هل قرأت كتاب "مستويات العربية المعاصرة في مصر" للدكتور السعيد محمد بدوي؟
لم تقرأ، سأعطيك نسختي وهي أثمن عندي من أي شيء، صورّها ثم أعد لي نسختي، هذا الكتاب يحل ما نظنه معضلات، أنا وأنت نتحدث الآن بأحد مستويات اللغة، ويفهم أحدنا صاحبه، وهناك مستويات أعلى، ومستويات أقل، أنا وأنت لسنا المتنبي، كما أننا لسنا هؤلاء الذين يتعاملون مع الرقم سبعة بوصفه حرف الحاء، عندما نختار المستوى في ظل الحفاظ على القواعد الرئيسية ستنمو اللغة.
الخطأ الرابع: هو الخوف من انقراض اللغة، هل سينقرض المصريون؟
هل سينقرض العرب؟ نعم هناك غزو من كتابات الفيس بوك ومن أصحاب التعليم الأجنبي، ولكن كم يمثّل هؤلاء من العدد الكلي للمصريين؟
قلت: على ذكر الدكتور بدوي، أراك متحمسًا له.
أجاب: نعم، هناك رجلان قاداني لما أنا عليه الآن، الدكتور بدوي وشقيقي محمد، الدكتور بدوي أزهري ودرعمي مثلي، لكنه كان دائمًا يسبقني بخطوات، إنه رجل العمل الجماعي وأنا رجل العمل الفردي، إنه يسافر كثيرًا ويجتذب إليه الناس أينما حل، يعرف كيف يؤسس لمشروع وكيف يديره، ثم لا تسمع له صوتًا، بعض ما للدكتور بدوي عليّ جعلني أكتب عنه كتابًا به بعض الذكريات والمختارات من شعره.
سألته: وماذا عن شقيقك محمد ؟
أعترف أني ضقت بسؤالي وندمت عليه، فقد اختنق صوت الدكتور الربيعي ولمعت عيناه بالدموع وهو يتحدث عن شقيقه الذي لا يكبره إلا بسنوات قليلة ، ومع ذلك يتحدث عنه ويكتب عنه كتابًا بوصفه الأستاذ والمعلم والأب المرشد.
قال الدكتور الربيعي: أخذني أخي إلى المدرسة، وأوقفني في الصف، وقال لي: أنت تلميذ نظيف مهذب، ستؤدي ما عليك من واجبات، ثم لا تسمح لأحد بأن يجبرك على شيء أو أن يتطاول عليك أدنى تطاول.
وصية أخي تلك حددت لي معالم طريقي، كان شقيقي يربح شهريًا خمسة عشر جنيهًا، يرسل لي ثمانية منها، لكي لا أشعر بعوز أو حرمان، أنظر لأخي بوصفه أحد صناع الحضارة، يرحمه الله أعطى كل شيء ولم يأخذ منها إلا القليل.
غيّرت مجرى الحديث لأهرب من دموع الشيخ الكبير فسألته: هل حصلت أنت على حقك؟
أجاب بتلقائية: نعم وزيادة، أنا الآن في الخامسة والثمانين، أتمتع بالحياة، الثمانون متعة، ادع ربك أن تبلغها في صحة، ويوم كتب عني الشاعر عبد المنعم رمضان تحت عنوان "بطل في الظل" قلت له: أنا لست بطلًا، أنا رجل يمضي على منهاجه ، ولم أعش في الظل قط، أنا مشتبك مع تفاصيل الحياة أتعلم وأعلم، وأكتب الكتب وأحضر الندوات مستمعًا أو متحدثًا، أنا أنفر من الضجيج والزحام التافه فقط، لست انعزاليا، أنشد العمل الجاد المتواصل والهدوء.
غادرت الدكتور الربيعي فأنشدت من شعر الفاجومي:
"مصر يا أمه يا بهية / يام طرحة وجلابية / الزمن شاب وإنتي شابه / هو رايحة وأنتي جاية".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة "صوت الأمة" الأحد 23 إبريل 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق