( 1 )
سألتُ صديقة من الكاتبات: "كيف ترين الصعايدة؟".
تنهدتْ بأسى صادق قبل أن تجيب: "رجال غربة".
صدقتْ والله صديقتي، نعم كأن الغربة هي قدر الصعيدي، يتغرب حتى لو كان في
وطنه، في زمن مضى كان الصعيدي الأسيوطي يحلف بغربته إن أقام أيامًا في محافظة المنيا رغم أنها تجاور بلده.
كلنا نعرف ملحمة الأبنودي عن السد العالي "جوابات الأسطى حراجي" حراجي من قرية بقنا، ثم عندما سافر إلى أسوان التي لا تبعد كثيرًا عن
بلدته بكى غربته دمًا لا دموعًا.
ملمح الغربة هذا أو التغريب القسرى بفعل السعي خلف رزق العيال ، كان العيد
الكبير هو الفرصة الوحيدة المتاحة لكسره.
( 2 )
قبل أربعين عامًا من عامنا هذا ـ وهو الزمن الذي سأنطلق منه ـ لم نكن نحن
الصعايدة نعرف شيئًا عن مباهج عيد المدن، كانت لنا مسراتنا الخاصة، هي فقيرة نعم، وارتجالية بل وعشوائية، ولكنها تبقي مسراتنا الخصوصية التي تمنحنا تميزًا ما أو
اختلافًا ما عن الآخرين.
أولى المسرات كانت انتظار العائدين على محطة القطار في الليلة التي تسبق
ليلة الوقفة، لابد وأن يعود الغريب قبل الوقفة ليصوم معنا صيام عرفة، الذين
يعودون صباح العيد أو بعده هؤلاء انخلعوا منا فنحن لا ننتظرهم وعندما نقابلهم نصافحهم
في برود، لأننا نعلم أنهم عادوا مجبرين اتقاءً للقيل والقال، نحن نحب العائد الذي يسوقه الشوق.
يعود المتغرب أبًا كان أو عمًا أو
خالًا أو شقيقًا أو صديقًا، فتدق طبول العيد في قلوبنا.
كنت أرى النسوة المتشحات بالسواد دائمًا، وكأنهن في جنازة الدهر نفسه،
يتخلين عن خجلهن الفطري ويخلعن عنهن وقارهن الأبدي الأزلي وتمسك الواحدة منهن برأس
العائد وتأخذه في صدرها وتوسعه تقبيلًا، ثم تشمه، ثم تعود وتتأمله كأنها تراه
لأول مرة، ثم تتمتم: "الحمد لله رجع كامل".
الآن أظن أن المرأة الحاضنة كانت تبحث عن نقصان ما يُصاب به قلب المغترب،
ثم تحمد الله لأنها وجدت قلب رجلها كاملًا
مكتملًا.
( 3 )
فرحتنا بالعائد المكتمل تنسينا النوم، ثم كيف سننام قبل السحور؟
غدًا يوم صيام مقدس لدينا كصيام
رمضان، بل بعضهم يحرص على صيام عرفة أشد من حرصه على صيام رمضان.
ضحى عرفة نبدأ حملة تنظيف الشوارع، هي ترابية نعم ولكن لأبد وأن تقابل
العيد بنظافتها، ثم نرشها بالماء النظيف، ونسرف في رشها، الكلام الذي يحاصر أيامنا هذه عن الفقر المائي وسد
النهضة الأثيوبي وإلى آخر هذا الهراء، لم
نكن نسمع به ولم يكن في مقدورنا تخيله، نحن نتعامل مع النيل بوصفه جدنا الصعيدي
القديم الكريم المعطاء، نحن نتفضل على سكان المدن والبحاروة بما يفيض من خيرات
جدنا، النيل نيلنا نحن أولًا، ونحن أحفاده المهذبين، نحترمه ونخشى غضبته ونهاب
هيئته، بل نشعر بالحرج عندما لا نلقبه
بالبحر، لقد عرفنا إنه نهر من مدارس الحكومة، ونحن لا نصدق الحكومة ولا مدارسها.
بعد الانتهاء من تنظيف الشوارع ورشها نصلي الظهر في مساجدنا البسيطة، كنا
نتسابق للتقرب من سيدنا الشيخ إمام المسجد فقد يختارنا للمهمة السحرية التي تضمن
لنا الحسنات المخلوطة بفرحة غامضة كأنها اللذة التي نسمع بها ولكن لا نعرف ما هي
على وجه التحقيق.
سيدنا الشيخ يعرف كيف يتلاعب بمشاعرنا ويعرف أن حرصنا على الصلاة ليس بدافع
التقوى في المقام الأول، يطيل سيدنا الصلاة وكذا ختامها ثم ينظر إلينا مبتسمًا: "يا اللا خدوها".
المشار إليها هي حُصُر المسجد، لم نكن نعرف السجاد ولا الموكيت ولا الحُصر
البلاستيكية، كانت حُصُر مساجدنا من سيقان البردي أو من نبات الحلفا، دائمًا ما
كانت مبتلة بماء الوضوء المتساقط من الجباة الساجدة، لحُصُر المساجد رائحة خاصة
لا تشبهها رائحة، رائحة تجمع بين إتقان يد الفنان الذي نسجها وبين ماء الوضوء وبين ذرات
تراب تتخلل نسيجها وبين رائحة بخور قديم سكنها ثم لم يغادرها.
نجمع الحُصُر وننطلق إلى الترعة، لا تحدثني عن البلهارسيا، وصدقني لو قلت
لك إن مياه ترعنا كانت أنظف وأنقى من الماء الذي نشربه الآن من الصنابير المزودة
بالفلاتر.
نغسل حُصُر المسجد قربى لله عز وجل ونسبح ونرش الماء على بعضنا البعض قربى لأجسادنا التى
لم تكن قد عرفت شيئًا عن مباهج المصايف.
لو كان طقس غسل الحُصُر يجري صيفًا، فسنظل في الماء حتى تجف الحصر، لكن
لو كان الزمن شتاءً فسنبادر بالخروج من الماء فور انتهاء الغسيل، وسنظل نرتجف من
البرد إلى أن يقوم ولد فلتان منا بإخراج علبة كبريت، وجود علبة كبريت مع أحدنا
علامة تشير إلى أنه مدخن أو لص يسرق كبريت البيت ليوهمنا بأنه قد أصبح رجلًا لا
يخشى من تهمة التدخين.
يلوح الفلتان بعلبة كبريته فنفهم الإشارة، نسارع بجمع الحطب، وعندما
ننتهي من الجمع يكون أحدنا بكل يسر وسهولة قد اصطاد قرموطًا أو اثنين، لتبدأ حفلة
شواء ارتجالية في الخلاء، صاحبكم الذي هو أنا لن يأكل ثانية سمكًا له طيب مذاق سمك الحصر، فهكذا كنا نسميه.
عندما نعود بالحصر النظيفة اللامعة يكون الرجال قد نظفوا المسجد وجعلوه
لامعًا، نفرش المسجد بالحصر النظيفة فتلفنا رائحة النظافة، نعم للنظافة رائحة،
وكنا نسميها نفحة عرفة.
( 4 )
نحن في يقظة من ليلة أمس ويجب أن
ننام ولو قليلًا ولكن هل ننام ونترك الاستماع للراديو الذي ينقل على الهواء مباشرة
شعيرة الوقوف بعرفات ؟.
نتحلق حول الراديو، لم نكن قد عرفنا
التليفزيون، نظل نسمع ونكبّر خلف المذيع لكي نحظى بثواب التكبير، في خلفية قلب كل واحد منا
لحظة ستأتي عندما يقول المذيع: "أيها السادة، يسعد اتحاد الإذاعات العربية
أن يكون معنا أخونا المذيع المصري الأستاذ ".
لا نسمع باقي الجملة، نصرخ في فرح مجنون: مصر، مصر، تحيا مصر.
مع المذيع المصري نترك التكبير والتسبيح ونصفق عقب كل جملة يقولها ونعاود
الصراخ: مصر، تحيا مصر.
نعم نحن نحب مصر، ذلك الحب المتوحش المجنون، إنها مصر الكبيرة البعيدة،
مصر التي وراء خيالنا وفوقه، مصر الحلوة المضاءة بالكهرباء، ثم مصر هذه قريبتنا
قرابة الدم، كأنها العمة أو الخالة، من أجلها يستشهد أجمل شباب بلدنا، ويوم
دفنهم لا نحزن ولا نرتدي السواد، بل نقول: عيالنا رجالة وخدوا بتارنا.
في الرابعة عصرًا ينتهي البث المشترك بين دول اتحاد الإذاعات العربية،
نقسم جميعًا بأن مذيعنا كان الأجمل والأفصح.
لو سألت أحدنا: ماذا قال المذيع؟. فلن يرد بجملة مفهومة، الموضوع وما
فيه أننا نؤمن أن مصر هي أعظم وأجمل شيء في الكون، وعلى ذلك يكون المذيع المصري
هو أعظم وأجمل مذيع في الكون.
هل ننام لو قليلًا الآن والساعة تقترب من الخامسة من عصر يوم عرفة؟
هل يعقل أن ننام ولا نشارك في زفة العايقة؟
( 5 )
أيامها كان المضحون قلة، وقد شكت الناس لشيخ المسجد فقال لهم: الأضحية
على الأغنياء فقط، وأنتم لو سبحتم الله ألف مرة فكأنكم ضحيتم.
كانت الناس تسبح الله يوم عرفة وتكبره وتحمده آلاف المرات فتطمئن قلوبهم لعدم تقصيرهم في
العبادة.
العايقة هي البقرة التي يأتي بها الجزار من بلد بعيدة، يغسل جلدها حتى يلمع، ثم يأتي بالمناديل المشغولة بالترتر والخرز ويزينها بها ثم يقف بها في قلب شارع
من الشوارع ويصيح صيحة واحدة: يا عيال.
تصلنا الصيحة فنأتيه من كل فج عميق، يرى الجزار حشودنا فيبتسم في رضا
ويصيح: يا عايقة.
نرد على صياحه: يا أم المنديل.
يلين صوته ويسيل نعومة ويشير إلى بقرته: يا عايقة.
فنرد: شعرك طويل.
نظل نزف العايقة من شارع إلى شارع ومن درب إلى درب حتى لا يبقى بيت بالبلد لم يشاهد العايقة ويدعو
بأن يكون لحمها حلالًا طيبًا.
نعود من فرح زفاف العايقة مع أذان المغرب، نفطر مع أسرنا، وتؤنبنا
أمهاتنا على اتساخ ملابسنا من جراء الجري في تراب الشوارع خلف العايقة، لا نلتفت
لتأنيب أمهاتنا لأننا نعرف أن ثمة ملابس نظيفة سنصلي بها العيد.
لابد وأن نصلي العيد بملابس نظيفة، لم نكن نشترط أن تكون جديدة، لم نكن
نرهق آباءنا بمسألة شراء الملابس، وكنا إذا عرفنا أن فلانًا منا قد أرهق أباه،
نسلقه بألسنة حداد، ونشنع عليه بأنه: "عيل طري وناقص يندغ / يمضغ لبان".
نقترب من أربعين ساعة بلا نوم، إذًا سننام قليلًا لنحلم بفيلم عبد الحليم الذي شاهدناه مئة مرة
ولكن لا نمل من مشاهدته.
نصحو قرب الفجر فنغتسل، ثم نطير إلى المساجد لكي نلحق أصوات التكبير، عدم المشاركة في التكبيرات عار، وقد أفتى بعضنا بأن عدم التكبير يبطل صوم يوم أمس كما يبطل ثواب غسل الحصر
وتنظيف الشوارع.
نكبر ونشعر بأننا أصبحنا رجالًا
وننتظر على أحر من الجمر الصلاة على النبي: " اللهم صل على سيدنا محمد وعلى
آل سيدنا محمد وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أنصار سيدنا مع وعلى أزواج سيدنا محمد
وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا".
لم نكن نعرف ما الجهاد ولا الجماعة الإسلامية، ولم نكن نعرف ما الإخوان،
ولم نكن قد سمعنا بلفظ سلفيين، لم يكن أحد يعكر علينا يومنا ويقول: "لا
تسيدوا النبي".
سيدنا محمد كان عندنا مثل سيدنا بحر النيل، أنهما شأن صعيدي خاص، ليس من حق الأغراب الخوض فيه.
نغادر المسجد فنجد البنات يملأن الشوارع وقد كشفن عن شعورهن السوداء
الطويلة اللامعة، وهذا حدث جلل، نعاكسهن بأن نقارن بين شعورهن: "فلانة
شعرها أجمل من شعر فلانة" تضحك البنات من قلوبهن ويتسابقن في إظهار جمال
شعورهن، وتمضي المعاكسة في لطف دون أن تخدش أي معنى نحترمه ونقدره بفطرتنا.
( 6 )
الآن حانت ساعة الحقيقة، إنها ساعة العيدية، نعرف مقدمًا مَنْ من أقربنا
سيهبنا كم.
مفاجآت العيدية كانت تأتي دائمًا من النساء، هل تعرف خالتك فلانة؟
نعم هذه القريبة من بعيد فهي خالة
أم زوجة عمك، هذه المرأة تستطيع في يسر وسهولة منحك ربع جنيه بأكمله، هي فقيرة
نعم، ولكن لحظة العيدية ترفرف فوق رأسها
أجنة ملائكة الجود والكرم.
هل تعرف أنت هؤلاء الرجال الصعايدة
الذين يلبدون لبعضهم في الدرة، هؤلاء الذين تقف الصقور على شواربهم ، هؤلاء جميعًا كان يقصدهم أمل دنقل عندما قال: "ربما أحمس ربّته امرأة" أنا أحذف ربما المتشككة هذه، أحمس ربّته
امرأة صعيدية وهابّة معطاءة منّاحة ودود ولود تعلمك الرجولة على أصولها، وتقف
حامية لظهرك في أيام قسوة الحياة، تلمك في حضنها بل في قلبها ولا تبعثرك، تشبعها
نظرة رضا وتطير من الفرح لو حصلت على لمسة حانية.
نحمد الله أن تكرم علينا وخلق العمات والخالات والأمهات والقريبات لو من
بعيد، ونطير بمفاجآت العيدية إلى السينما حيث ينتظرنا عبد الحليم حافظ.
العيد كان عيدنا كلنا، لم نكن نعرف الفرق بين المسلم والمسيحي، فنحن معًا
دائمًا، ولذا كان من الطبيعي بل من الواجب أن يقودنا في الطريق إلى السينما
الكبار من المسيحيين، والكبير عندنا هو من بلغ اثنتي عشرة سنة.
الطريق إلى السينما ترابي ولا سيارات بل ولا حتى دواب في معظم الأحيان،
يمضى الطريق سهلًا كأنه أصبح أقصر.
هو ذاته فيلم العيد وكل عيد "أبي فوق الشجرة".
الصعايدة ينظرون لعبد الحليم نظرتهم لابنهم الذي اختطفهم منهم البحاروة
وأهل البندر، عبد الحليم صعيدي بعوده النحيل الناشف مثل حطب القطن، بسمرته
الرائقة مثل سمرة طمي بحر النيل، بحزن عينيه، بيتمه، بمرضه الذي ندعو الله أن
يشفيه منه، عبد الحليم ليس رجلًا طريًا بُقُصة يندغ اللبان، عبد الحليم جمل
محامل أضناه العشق والمرض.
من باب التسخين نبدأ في عد القبلات التي بين عبد الحليم ونادية لطفي، ثم
نزهد في القبلات التي لا نعرفها هكذا، نحن نعرف "الحَبّة" المخطوفة
في ستر حقول القصب والذرة، نحن لا نعرف
القبلات السهلة المتاحة.
نحن الآن ننتظر لحظتنا أو بالأحرى لحظة عبد الحليم التي لو كان قد عرفها
لاعتزل الحياة مكتفيًا بها.
سيقترب عبد الحليم من ميرفت أمين ويغني لها
الهوى هوايا
ابنيلك قصر عالي
واخطف نجم الليالي
وأشغلك عقد غالي
يضوي أحلى الصبايا
أنا الهوى هوايا هوايا
الآن حانت لحظتنا نشارك عبد الحليم في الغناء، نردد بخفوت
الهوى هوايا
يبقى القمر قاربنا
والليل بحر مهاودنا
والنسمة اللي تاخدنا
ترجع شايلة الحكاية
الهوى هوايا
ثم يعلو صوتنا ويختفي صوت عبد الحليم، أصوات صعيدية عفية وقادرة ومتشوقة
للحياة، نغادر السينما ونحن نغنى غناءً كأنه الهتاف لبعيد نحلم بأن يقترب
يومًا
الهوى هوايا
ادخل كتب الحكاوي
واروي سنينك غناوي
واعمل طبيب مداوي
وأشيل حبي دوايا
أنا الهوى هوايا هوايا
نعود إلى أمهاتنا وننام حالمين بأن نشارك في زفة العايقة في السنة المقبلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور في جريدة "المقال" الخميس 15 سبتمبر 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق