قصة قصيرة
لن أدع الزمان يزيّف مشاعري أو يجملها، ولذا يهمني التأكيد على أن حبي لأمل ليس كهذا الحب الشائع بين الرجال والنساء، إنه شيء مختلف كأنه ضحكتها العصية على التصنيف.
عندما كنت أنا أحقق نجاحًا ـ لا ينكره سوى حاقد ـ في هندسة البناء، كانت أمل تتزوج.
بدأت أمل زيجاتها بعد أول لقاء لنا بسنة، عندما كان لها من العمر خمس وعشرون سنة، وكفت عن الزواج عندما أصبح عمرها خمسًا وأربعين سنة.
في تلك العشرين سنة تزوجت أمل ثلاث مرات، وحصدت ثلاثة طلاقات، وولدت خمسة من الأبناء، ثلاثة أولاد وبنتين.
لم يكن أحد يعرف أسباب هذا الفشل المتكرر، حتى أنا لم أجرؤ يومًا على الدخول في تلك المنطقة الشائكة، كنت أظهر لها التعاطف الواجب ثم نعبر وقائع الزواج والطلاق ونوجه دفة حديثنا في اتجاه مغاير.
ظل هذا تعاملنا مع منطقة الزواج والطلاق حتى جاء لقاء قالت لي فيه:
ـ أنت مهندس ناجح، ومغازل منزوع الأنياب، لكنك أرعن، ورعونتك تلك أكسبتك حكمة عميقة، فأنت رجل حكيم.
توقعت أن تعقب على جملتها بواحدة من ضحكاتها، إلا أنها لم تضحك، بل لم تبتسم، وواصلت كلامها قائلة:
ـ آية حكمتك أنك لم تتورط معي على أي شكل كان التورط، أما قلب حكمتك فقد ظهر لي عندما منعت نفسك من الخوض في شأن زواجي وطلاقي، أنت تعلم، بل تؤمن، أن كل مطلقين هما كاذبان بالضرورة، ومن يوم لقائنا الأول، يوم اجتماع البطيخ، وأنا أعلم أنك تنفر من الأكاذيب، وعلى ما سبق لم توجه لي سؤالًا قط عن حياتي الخاصة، مكتفيًا بسماع ما أقوله مظهرًا الحزن والأسى وبعض التعاطف.
انظر يا صديقي يا حمودة، أنا لست كاذبة، أنا فقط مختلفة، ولذا فإن الوقائع التي أدت إلى فشلي في حياتي الخاصة لن يتفهمها أحد، هل أكشف لك عن سر؟
أشرت برأسي بعلامة الموافقة فراحت تقول:
ـ بعد طلاقي الثالث بدأت أرى أولادي رؤية جديدة، إنني أحيانًا أنظر إليهم كأني لا أعرفهم، وأبذل مجهودًا جبارًا لكي لا أسألهم: من أنتم ؟
لقد بدأت أتأمل أولادي باحثة عن جامع يجمع بينهم، أو يجمعهم بي، فلم أظفر بشيء، البنت الكبرى هي من الأول، والذكور الثلاثة هم من الثاني، والبنت الصغرى هي من الثالث، ما هذه المتاهة يا صديقي؟
أقول لنفسي: لا يجمعهم سوى شهوة فرجي وألم رحمي، إنهم نتاج حليب فحولة ثلاثة رجال، هل تعرف أن بعض النساء يذقن مَنيّ أزواجهن؟
ليتني فعلتها، كنت على الأقل سأعرف شيئًا عن أصل خلقة أولادي الذين أمنع نفسي من أن أصيح في وجوههم: من أنتم؟
بعد ذلك اللقاء بأسراره الثقيلة تباعدت مقابلاتنا حتى كان العام يمر بكامله ولا نلتقي خلاله مرة واحدة، فكنا إذا التقينا قالت:
ـ هيا نكذب مثل الأصدقاء القدامى ويعاتب أحدنا صاحبه ويتهمه بالتقصير.
تقول جملتها وتطلق ضحكتها التي تضيق لها عيناها، فيتفجر منهما دلال فاتن، ثم نتحدث كأننا نستأنف حديثًا كنا قد قطعناه قبل دقيقة لا قبل عام بأكمله.
في لقاءاتنا الأخيرة لاحظت أن تغيرًا عظيمًا قد طرأ عليها، تغيرًا شملها من رأسها حتى قدميها، ضحكاتها قلّتْ حتى كادت تنعدم، وقد يمضي اللقاء ولا تضحك ضحكة واحدة، ضرب شيب سخيف شعرها فأصبح لونه رماديًا باهتًا مقبضًا، الضيق من ملابسها اتسع، والقصير طال، بالجملة أصبحت لها هيئة أرملة تقف ذليلة في صف الأرامل منتظرة دورها في قبض معاش ضئيل يكفي بالكاد لأن يبقيها على قيد الحياة.
ومع هذا التغير الشامل جد عليها ثلاثة أمور، الأول هو التدخين، لم تكن في زمانها الأول مدخنة، الآن أصبحت مدخنة شرهة لكل أنواع السجائر، ومع التدخين تلفت حبالها الصوتية فكنت أنكر صوتها عندما يصلني بعدما ذهب عنه رنينه القديم.
الأمر الثاني، هو اقتناؤها لعدد مهول من المسابح، مسابح من كل لون وحجم، كانت تطمئن على وجودها في حقيبة يدها بين كل لحظة وأخرى، ولأني كنت أعرف نفورها من الرجال والنساء الذين يصطحبون معهم مسابحهم أينما ذهبوا فقد تجرأت وسألتها عن هذا التعلق الجديد على شخصيتها.
فلمعت عيناها بالحزن الذي حدثتني عنه قديمًا وما كنت أصدقه ثم قالت:
ـ لقد ضاع عمري وأنا لا أعرف شيئًا عن الاستغفار والتسبيح والتكبير والتهليل، هل ستصدقني لو قلت لك إن أغلب قراءاتي الآن عن فوائد الاستغفار؟ مسابحي تقربني من تحطيم الرقم القياسي، فقد قرأت أن أحدهم كان يستغفر الله في اليوم اثني عشر ألف مرة، قريبًا سأزف إليك خبر تحطيمي لذلك الرقم.
الأمر الثالث هو الرائحة، لم تكن في زمانها الأول من اللواتي يحببن أن يعلن عطرهن عن حضورهن.
كانت تقول لي:
ـ أكتفي برائحة جلدي، وعلى المتضرر اللجوء إلى سد أنفه.
تقولها وتضحك ضحكتها الفاتنة.
تقولها وأعتصم بصمتي لكي لا أرد عليها قائلًا:
ـ وأنا تنعشني رائحة جلدك المغسول بالماء الساخن والصابون، لك رائحة البهجة والسكينة والرضا.
الآن أصبحت لها رائحة خشنة نفاذّة، لن أستطيع وصفها إلا إذا استطعت العثور على وصف مناسب لرائحة القلق.
عندما نلتقي أجد نفسي مع امرأة يضربها ألم غامض، وتشي ملامحها بأسئلة جارحة لا تقوى على التخلص منها.
تقابلنا فقعدت مبعثرة، مخاصمة قعودها الذي كان أنيقًا محكمًا في زمانها الأول، ثم بدأت في التدخين، تشعل السيجارة من سابقتها، وتسعل سعالًا خشنًا يكاد يجرح حلقي أنا.
ضقت بتدخينها المتواصل وبالتزامها الصمت فقلت لها مشاكسًا:
ـ هل جئتِ لكي تحتفلي معي باليوم العالمي للصمت وتدخين السجائر الرديئة؟
غمغمت قائلة:
ـ جئتُ لكي أبوح لك بسر، سر له رمحان مغروسان في صدري.
خفت أن ينالني من سرها أذى فسكت ولم أدفعها للكلام، بل لم أرحب بأن تتكلم، ولأنها في غاية الذكاء فقد وصلتها رسالة سكوتي، فسعلت حتى دمعت عيناها ثم قالت:
ـ كن مطمئنًا، أنا لن أتجاوز حدودي التي رسمتها أنت لي، ما علينا، سري يا حمودة، سر مركّب من حالتين، الأولى هي أنني أصبحت أشعر بنشوة ما عندما تقع مصيبة ما، لا أقصد مصيبة شخصية أو حتى عامة، أعني المصائب التي يقولون إنها كونية أو طبيعية.
قاطعتها سائلًا:
ـ أرجو المزيد من الإيضاح لأنني لا أفهم ما تشيرين إليه.
أشعلت سيجارة جديدة وقالت:
ـ يعني عندما تمطر السماء، أجدني أتمنى ألا يمر المطر كما مر سابقه، أتمناه مطرًا كأنه طوفان نوح، أتمناه مطرًا نفر منه إلى أعالي الجبال فيحبسنا هناك في ثلج القمم الشاهقة وعزلتها وقسوتها، وأرانا وقد بدأنا حياة جديدة ليس بها من أحزاننا القديمة شيء.
هناك في قمم الثلج والقسوة والعزلة، سيعود الرجل رجلًا، وتعود المرأة امرأة، ويعود الطفل طفلًا، وتسري في عروقنا المتيبسة نفخة الله، فنولد ثانية أبرياء رحماء.
إنني أكون منتشية بذلك الأمل كلما تدفق المطر، ثم أصاب بالضمور حتى أكاد أتلاشى عندما تكف السماء ويمر المطر كغيره، مخلفًا بركًا من الماء الآسن والمزيد من أوحال الشوارع المتعفنة.
وقس على ذلك حالي كلما سمعت بحريق، أو علو موج البحر، أو حتى حادث قطار.
سمعتها وواصلت اعتصامي بصمتي لأن أي تعليق لي كان سيخرجها من حالة البوح، وأنا أريدها أن تتخلص من كوابيسها الخاصة بالبدء من جديد.
نظرت لي مبتسمة وقالت:
ـ أراك سكت، أراك خائفًا من صديقة قديمة غنت لاسم تدليلك في أول لقاء جمعها بك، ما علينا، الحالة الثانية لسري المركّب، هي أنني أتخيل موتك وموت أولادي وموت كل أحد أو شيء تعلقت به، حالة شاملة من حالات الفناء الخاص، فناء يخصني أنا فقط، يضغط خيالي على قلبي حتى يصبح كالحقيقة، فأبكي وحدتي ووحشتي وموتكم، وأظل أبكي حتى يستولي صداع قاتل على رأسي، فأدفن نفسي في الغطاء وأسقط في نوم عميق.
جاءت تزورني في مكتبي الخاص، لقد نجحت حتى أصبحت أمتلك مكتبًا له صيت الشركات الكبرى، كثيرًا ما دعوتها لزيارتي في مكتبي ولكنها كانت ترفض بحجج شتى، يومها جاءت من غير دعوة، جاءت من تلقاء نفسها، جاءت كما كانت تأتي في زماننا الأول.
جاءت لامعة مهندمة تفوح منها رائحتها القديمة، رائحة جلدها والماء الساخن والصابون المعطر، فرحت بعودتها لهيئتها القديمة، فسارعت بالوقوف بنزق فتحت معه ذراعي باتساعهما لكي أحتضنها لأول مرة في تاريخ علاقتنا.
استكانت في حضني وهي تغمغم:
ـ ربع قرن، وحضن واحد، ما علينا.
أفلتها برقة من بين ذراعي وقلت بفرح صادق:
ـ حمدًا لله على سلامتك، كأنك كنتِ مريضة.
ضحكت ضحكتها الغالية وقالت:
ـ وكففت عن التدخين، وحطمت الرقم القياسي في الاستغفار، يوم أمس استغفرت ثلاثة عشر ألفًا وسبعمائة وثلاثًا وثلاثين مرة، أشعر بأنني ممتلئة حتى حافتي بعظمة ما.
قلت وكأنني عثرت على كنز:
ـ هذه مناسبة عظيمة لا يليق بها سوى حفل عظيم، هيا نهندس حفلًا يليق بهذه المناسبة.
أشارت بيدها بعلامة السكوت ثم قالت:
ـ قبل التفكير في هندسة احتفالك، كيف ترى مصطفى محمود؟
أدهشني سؤالها، خاصة وأنا لا أعرف مَنْ مصطفى محمود الذي تسألني عنه، فأجبتها قائلًا:
ـ عن أي مصطفى تسألين؟
ظهر الضيق على وجها وقالت:
ـ مصطفى محمود الكاتب، صاحب المسجد الشهير وبرنامج العلم والإيمان.
ابتسمت قبل أن أجيبها:
ـ لم أعرف لك اهتمامًا به من قبل!
وكأنني بجملتي العابرة قد تعمدت وضع الملح على جرحها النازف فقد صاحت في غضب حاد:
ـ لا أكره منك شيئًا قدر كرهي لإجابتك عن السؤال بسؤال، كف عن هذه الطريقة السخيفة ولو هذه الساعة فقط، أرجوك، أعصابي لم تعد تحتمل مثل هذا العبث.
انكمشت في نفسي معتذرًا عن عبثي الذي لم أقصده ثم قلت:
ـ مصطفى محمود عندي هو نوع من أنيس منصور، هذا إن كنتِ تعرفين أنيس منصور.
ردت بنفاد صبر:
ـ أعرفه وقد قرأت له شيئًا من كتاباته، ولكن لا أعرف ماذا تقصد بجملة "نوع من أنيس منصور"!
أجبتها:
ـ أعني كأن أنيس منصور جنس قائم بذاته، وتحته تندرج أنواع من الكُتّاب، نوع منهم اسمه مصطفى محمود، ويجمع بين الجنس وأنواعه، جوامع كثيرة، منها الشهرة الواسعة، النفوذ الضخم، المبيعات المليونية، غزارة الإنتاج، التأثير الكبير، ثم في المحصلة النهائية لن تحصدي من ذلك الجنس سوى الخواء التام والكامل.
زفرت زفرة الساخط وسألتني:
ـ هل قرأت رواية مصطفى محمود "المسيخ الدجال"؟
أجبتها:
ـ طالعتها منذ زمن بعيد، ولم أعد أتذكر منها سوى ركاكتها وسعيها الفاشل في تقليد رسالة الغفران والكوميديا الإلهية.
تقلص وجهها بعلامة خيبة الأمل ثم قالت:
ـ أعطني سيجارة.
رددت بضيق:
ـ قبل قليل قلتِ إنك أقلعتِ عن التدخين.
ردت بحدة:
ـ قررت العودة إليه.
قدمت إليها السيجارة وبحثتْ هي بعينيها عن ولاعة فوق المكتب فوجدتها وأشعلت سيجارتها ونفثت دخانها في وجهي، ثم قالت بنبرة صوتها القديم:
ـ مصطفى محمود الذي لا يعجبك كتب رواية حياتي، كتبها لي أنا على وجه التحديد.
سكت ولم أعلق، فانتهزت فرصة سكوتي وتناولت حقيبة يدها وأخرجت مسابحها الكثيرة ومعها كتاب متهرئ الغلاف وقدمته لي قائلًا:
أقرأ بداية من الصفحة التاسعة.
تناولت الكتاب متأففًا، كان رواية المسيخ الدجال، رأيت في أولى صفحاتها سطورًا مكتوبة بقلم رصاص تقول: "للذكرى .. مستشفى حميات إمبابة / حجرة 8 الدور الثاني / الممرضة جميلة واسمها رانيا".
طفت ابتسامة على وجهي فصاحت أمل:
ـ قلت لك اقرأ، يعني اقرأ لي بصوت أسمعه، بداية من الصفحة التاسعة، تفضل اقرأ!
وضعت على عيني نظارة القراءة وبدأت أقرأ: "مضت على الرجل عشرون سنة وهو يتعبد الله في صومعة عند رأس الجبل، حتى اشتهر في القرية بأنه الرجل المبارك، وكان أهل القرية البسطاء يصعدون له بالطعام ويقبلون يده، ويأخذون منه العهد ويحملون له المرضى ليشفيهم والأطفال ليدعو لهم.
ولكن الله كان يعلم أن هذا الرجل فاسق برغم صلاته وصومه وعبادته، وأنه يحب الدنيا حب العبادة برغم عزوفه الظاهر عنها، فما صعدت إليه امرأة بطعام إلا تطلع إلى ساقيها، وخالس النظر على تكوير ثديها وتدوير ردفها وبياض نحرها واحمرار ثغرها ودموية خدها، وما سجد بعد ذلك إلا وتراءت له المرأة في القِبلة، وما رقد لينام إلا احتلم بها وضاجعها حتى قضى منها الوطر وشفى الغليل".
فجأة وبسرعة البرق، مدت أمل يدها وانتزعت مني الرواية، ووقفت وهي تسلط عينيها على عينيّ وقالت:
ـ هذا المقطع هو رعبي، هذا المقطع يفضحني أنا، أنا المسيخة الدجالة، هناك رجل أرعن وديع لم يورط نفسه معي، يقطع عليّ ذكري وتسبيحي، أركع فيجثو على ركبتيه ويتلقف نهديّ بين يديه، أسجد فيأتيني من خلفي، أهب واقفة فيطرحني أرضًا ويعلوني.
كان وجهها كتخيلي لوجه أمنا الغولة، كان صوتها يتعذب وهي تتكلم، كانت أنفاسها تتقطع، وكان الزبد يتطاير من فمها ويسقط قريبًا من وجهي، سكتت فجأة، ثم قذفت مرآة خلف ظهري بالرواية.
عندما استفقت كانت قد غادرت الغرفة، حاولت اللحاق بها، ولكن كأن الأرض قد انشقت وابتلعتها.
لن أدع الزمان يزيّف مشاعري أو يجملها، ولذا يهمني التأكيد على أن حبي لأمل ليس كهذا الحب الشائع بين الرجال والنساء، إنه شيء مختلف كأنه ضحكتها العصية على التصنيف.
عندما كنت أنا أحقق نجاحًا ـ لا ينكره سوى حاقد ـ في هندسة البناء، كانت أمل تتزوج.
بدأت أمل زيجاتها بعد أول لقاء لنا بسنة، عندما كان لها من العمر خمس وعشرون سنة، وكفت عن الزواج عندما أصبح عمرها خمسًا وأربعين سنة.
في تلك العشرين سنة تزوجت أمل ثلاث مرات، وحصدت ثلاثة طلاقات، وولدت خمسة من الأبناء، ثلاثة أولاد وبنتين.
لم يكن أحد يعرف أسباب هذا الفشل المتكرر، حتى أنا لم أجرؤ يومًا على الدخول في تلك المنطقة الشائكة، كنت أظهر لها التعاطف الواجب ثم نعبر وقائع الزواج والطلاق ونوجه دفة حديثنا في اتجاه مغاير.
ظل هذا تعاملنا مع منطقة الزواج والطلاق حتى جاء لقاء قالت لي فيه:
ـ أنت مهندس ناجح، ومغازل منزوع الأنياب، لكنك أرعن، ورعونتك تلك أكسبتك حكمة عميقة، فأنت رجل حكيم.
توقعت أن تعقب على جملتها بواحدة من ضحكاتها، إلا أنها لم تضحك، بل لم تبتسم، وواصلت كلامها قائلة:
ـ آية حكمتك أنك لم تتورط معي على أي شكل كان التورط، أما قلب حكمتك فقد ظهر لي عندما منعت نفسك من الخوض في شأن زواجي وطلاقي، أنت تعلم، بل تؤمن، أن كل مطلقين هما كاذبان بالضرورة، ومن يوم لقائنا الأول، يوم اجتماع البطيخ، وأنا أعلم أنك تنفر من الأكاذيب، وعلى ما سبق لم توجه لي سؤالًا قط عن حياتي الخاصة، مكتفيًا بسماع ما أقوله مظهرًا الحزن والأسى وبعض التعاطف.
انظر يا صديقي يا حمودة، أنا لست كاذبة، أنا فقط مختلفة، ولذا فإن الوقائع التي أدت إلى فشلي في حياتي الخاصة لن يتفهمها أحد، هل أكشف لك عن سر؟
أشرت برأسي بعلامة الموافقة فراحت تقول:
ـ بعد طلاقي الثالث بدأت أرى أولادي رؤية جديدة، إنني أحيانًا أنظر إليهم كأني لا أعرفهم، وأبذل مجهودًا جبارًا لكي لا أسألهم: من أنتم ؟
لقد بدأت أتأمل أولادي باحثة عن جامع يجمع بينهم، أو يجمعهم بي، فلم أظفر بشيء، البنت الكبرى هي من الأول، والذكور الثلاثة هم من الثاني، والبنت الصغرى هي من الثالث، ما هذه المتاهة يا صديقي؟
أقول لنفسي: لا يجمعهم سوى شهوة فرجي وألم رحمي، إنهم نتاج حليب فحولة ثلاثة رجال، هل تعرف أن بعض النساء يذقن مَنيّ أزواجهن؟
ليتني فعلتها، كنت على الأقل سأعرف شيئًا عن أصل خلقة أولادي الذين أمنع نفسي من أن أصيح في وجوههم: من أنتم؟
***
بعد ذلك اللقاء بأسراره الثقيلة تباعدت مقابلاتنا حتى كان العام يمر بكامله ولا نلتقي خلاله مرة واحدة، فكنا إذا التقينا قالت:
ـ هيا نكذب مثل الأصدقاء القدامى ويعاتب أحدنا صاحبه ويتهمه بالتقصير.
تقول جملتها وتطلق ضحكتها التي تضيق لها عيناها، فيتفجر منهما دلال فاتن، ثم نتحدث كأننا نستأنف حديثًا كنا قد قطعناه قبل دقيقة لا قبل عام بأكمله.
في لقاءاتنا الأخيرة لاحظت أن تغيرًا عظيمًا قد طرأ عليها، تغيرًا شملها من رأسها حتى قدميها، ضحكاتها قلّتْ حتى كادت تنعدم، وقد يمضي اللقاء ولا تضحك ضحكة واحدة، ضرب شيب سخيف شعرها فأصبح لونه رماديًا باهتًا مقبضًا، الضيق من ملابسها اتسع، والقصير طال، بالجملة أصبحت لها هيئة أرملة تقف ذليلة في صف الأرامل منتظرة دورها في قبض معاش ضئيل يكفي بالكاد لأن يبقيها على قيد الحياة.
ومع هذا التغير الشامل جد عليها ثلاثة أمور، الأول هو التدخين، لم تكن في زمانها الأول مدخنة، الآن أصبحت مدخنة شرهة لكل أنواع السجائر، ومع التدخين تلفت حبالها الصوتية فكنت أنكر صوتها عندما يصلني بعدما ذهب عنه رنينه القديم.
الأمر الثاني، هو اقتناؤها لعدد مهول من المسابح، مسابح من كل لون وحجم، كانت تطمئن على وجودها في حقيبة يدها بين كل لحظة وأخرى، ولأني كنت أعرف نفورها من الرجال والنساء الذين يصطحبون معهم مسابحهم أينما ذهبوا فقد تجرأت وسألتها عن هذا التعلق الجديد على شخصيتها.
فلمعت عيناها بالحزن الذي حدثتني عنه قديمًا وما كنت أصدقه ثم قالت:
ـ لقد ضاع عمري وأنا لا أعرف شيئًا عن الاستغفار والتسبيح والتكبير والتهليل، هل ستصدقني لو قلت لك إن أغلب قراءاتي الآن عن فوائد الاستغفار؟ مسابحي تقربني من تحطيم الرقم القياسي، فقد قرأت أن أحدهم كان يستغفر الله في اليوم اثني عشر ألف مرة، قريبًا سأزف إليك خبر تحطيمي لذلك الرقم.
الأمر الثالث هو الرائحة، لم تكن في زمانها الأول من اللواتي يحببن أن يعلن عطرهن عن حضورهن.
كانت تقول لي:
ـ أكتفي برائحة جلدي، وعلى المتضرر اللجوء إلى سد أنفه.
تقولها وتضحك ضحكتها الفاتنة.
تقولها وأعتصم بصمتي لكي لا أرد عليها قائلًا:
ـ وأنا تنعشني رائحة جلدك المغسول بالماء الساخن والصابون، لك رائحة البهجة والسكينة والرضا.
الآن أصبحت لها رائحة خشنة نفاذّة، لن أستطيع وصفها إلا إذا استطعت العثور على وصف مناسب لرائحة القلق.
***
عندما نلتقي أجد نفسي مع امرأة يضربها ألم غامض، وتشي ملامحها بأسئلة جارحة لا تقوى على التخلص منها.
تقابلنا فقعدت مبعثرة، مخاصمة قعودها الذي كان أنيقًا محكمًا في زمانها الأول، ثم بدأت في التدخين، تشعل السيجارة من سابقتها، وتسعل سعالًا خشنًا يكاد يجرح حلقي أنا.
ضقت بتدخينها المتواصل وبالتزامها الصمت فقلت لها مشاكسًا:
ـ هل جئتِ لكي تحتفلي معي باليوم العالمي للصمت وتدخين السجائر الرديئة؟
غمغمت قائلة:
ـ جئتُ لكي أبوح لك بسر، سر له رمحان مغروسان في صدري.
خفت أن ينالني من سرها أذى فسكت ولم أدفعها للكلام، بل لم أرحب بأن تتكلم، ولأنها في غاية الذكاء فقد وصلتها رسالة سكوتي، فسعلت حتى دمعت عيناها ثم قالت:
ـ كن مطمئنًا، أنا لن أتجاوز حدودي التي رسمتها أنت لي، ما علينا، سري يا حمودة، سر مركّب من حالتين، الأولى هي أنني أصبحت أشعر بنشوة ما عندما تقع مصيبة ما، لا أقصد مصيبة شخصية أو حتى عامة، أعني المصائب التي يقولون إنها كونية أو طبيعية.
قاطعتها سائلًا:
ـ أرجو المزيد من الإيضاح لأنني لا أفهم ما تشيرين إليه.
أشعلت سيجارة جديدة وقالت:
ـ يعني عندما تمطر السماء، أجدني أتمنى ألا يمر المطر كما مر سابقه، أتمناه مطرًا كأنه طوفان نوح، أتمناه مطرًا نفر منه إلى أعالي الجبال فيحبسنا هناك في ثلج القمم الشاهقة وعزلتها وقسوتها، وأرانا وقد بدأنا حياة جديدة ليس بها من أحزاننا القديمة شيء.
هناك في قمم الثلج والقسوة والعزلة، سيعود الرجل رجلًا، وتعود المرأة امرأة، ويعود الطفل طفلًا، وتسري في عروقنا المتيبسة نفخة الله، فنولد ثانية أبرياء رحماء.
إنني أكون منتشية بذلك الأمل كلما تدفق المطر، ثم أصاب بالضمور حتى أكاد أتلاشى عندما تكف السماء ويمر المطر كغيره، مخلفًا بركًا من الماء الآسن والمزيد من أوحال الشوارع المتعفنة.
وقس على ذلك حالي كلما سمعت بحريق، أو علو موج البحر، أو حتى حادث قطار.
سمعتها وواصلت اعتصامي بصمتي لأن أي تعليق لي كان سيخرجها من حالة البوح، وأنا أريدها أن تتخلص من كوابيسها الخاصة بالبدء من جديد.
نظرت لي مبتسمة وقالت:
ـ أراك سكت، أراك خائفًا من صديقة قديمة غنت لاسم تدليلك في أول لقاء جمعها بك، ما علينا، الحالة الثانية لسري المركّب، هي أنني أتخيل موتك وموت أولادي وموت كل أحد أو شيء تعلقت به، حالة شاملة من حالات الفناء الخاص، فناء يخصني أنا فقط، يضغط خيالي على قلبي حتى يصبح كالحقيقة، فأبكي وحدتي ووحشتي وموتكم، وأظل أبكي حتى يستولي صداع قاتل على رأسي، فأدفن نفسي في الغطاء وأسقط في نوم عميق.
***
جاءت تزورني في مكتبي الخاص، لقد نجحت حتى أصبحت أمتلك مكتبًا له صيت الشركات الكبرى، كثيرًا ما دعوتها لزيارتي في مكتبي ولكنها كانت ترفض بحجج شتى، يومها جاءت من غير دعوة، جاءت من تلقاء نفسها، جاءت كما كانت تأتي في زماننا الأول.
جاءت لامعة مهندمة تفوح منها رائحتها القديمة، رائحة جلدها والماء الساخن والصابون المعطر، فرحت بعودتها لهيئتها القديمة، فسارعت بالوقوف بنزق فتحت معه ذراعي باتساعهما لكي أحتضنها لأول مرة في تاريخ علاقتنا.
استكانت في حضني وهي تغمغم:
ـ ربع قرن، وحضن واحد، ما علينا.
أفلتها برقة من بين ذراعي وقلت بفرح صادق:
ـ حمدًا لله على سلامتك، كأنك كنتِ مريضة.
ضحكت ضحكتها الغالية وقالت:
ـ وكففت عن التدخين، وحطمت الرقم القياسي في الاستغفار، يوم أمس استغفرت ثلاثة عشر ألفًا وسبعمائة وثلاثًا وثلاثين مرة، أشعر بأنني ممتلئة حتى حافتي بعظمة ما.
قلت وكأنني عثرت على كنز:
ـ هذه مناسبة عظيمة لا يليق بها سوى حفل عظيم، هيا نهندس حفلًا يليق بهذه المناسبة.
أشارت بيدها بعلامة السكوت ثم قالت:
ـ قبل التفكير في هندسة احتفالك، كيف ترى مصطفى محمود؟
أدهشني سؤالها، خاصة وأنا لا أعرف مَنْ مصطفى محمود الذي تسألني عنه، فأجبتها قائلًا:
ـ عن أي مصطفى تسألين؟
ظهر الضيق على وجها وقالت:
ـ مصطفى محمود الكاتب، صاحب المسجد الشهير وبرنامج العلم والإيمان.
ابتسمت قبل أن أجيبها:
ـ لم أعرف لك اهتمامًا به من قبل!
وكأنني بجملتي العابرة قد تعمدت وضع الملح على جرحها النازف فقد صاحت في غضب حاد:
ـ لا أكره منك شيئًا قدر كرهي لإجابتك عن السؤال بسؤال، كف عن هذه الطريقة السخيفة ولو هذه الساعة فقط، أرجوك، أعصابي لم تعد تحتمل مثل هذا العبث.
انكمشت في نفسي معتذرًا عن عبثي الذي لم أقصده ثم قلت:
ـ مصطفى محمود عندي هو نوع من أنيس منصور، هذا إن كنتِ تعرفين أنيس منصور.
ردت بنفاد صبر:
ـ أعرفه وقد قرأت له شيئًا من كتاباته، ولكن لا أعرف ماذا تقصد بجملة "نوع من أنيس منصور"!
أجبتها:
ـ أعني كأن أنيس منصور جنس قائم بذاته، وتحته تندرج أنواع من الكُتّاب، نوع منهم اسمه مصطفى محمود، ويجمع بين الجنس وأنواعه، جوامع كثيرة، منها الشهرة الواسعة، النفوذ الضخم، المبيعات المليونية، غزارة الإنتاج، التأثير الكبير، ثم في المحصلة النهائية لن تحصدي من ذلك الجنس سوى الخواء التام والكامل.
زفرت زفرة الساخط وسألتني:
ـ هل قرأت رواية مصطفى محمود "المسيخ الدجال"؟
أجبتها:
ـ طالعتها منذ زمن بعيد، ولم أعد أتذكر منها سوى ركاكتها وسعيها الفاشل في تقليد رسالة الغفران والكوميديا الإلهية.
تقلص وجهها بعلامة خيبة الأمل ثم قالت:
ـ أعطني سيجارة.
رددت بضيق:
ـ قبل قليل قلتِ إنك أقلعتِ عن التدخين.
ردت بحدة:
ـ قررت العودة إليه.
قدمت إليها السيجارة وبحثتْ هي بعينيها عن ولاعة فوق المكتب فوجدتها وأشعلت سيجارتها ونفثت دخانها في وجهي، ثم قالت بنبرة صوتها القديم:
ـ مصطفى محمود الذي لا يعجبك كتب رواية حياتي، كتبها لي أنا على وجه التحديد.
سكت ولم أعلق، فانتهزت فرصة سكوتي وتناولت حقيبة يدها وأخرجت مسابحها الكثيرة ومعها كتاب متهرئ الغلاف وقدمته لي قائلًا:
أقرأ بداية من الصفحة التاسعة.
تناولت الكتاب متأففًا، كان رواية المسيخ الدجال، رأيت في أولى صفحاتها سطورًا مكتوبة بقلم رصاص تقول: "للذكرى .. مستشفى حميات إمبابة / حجرة 8 الدور الثاني / الممرضة جميلة واسمها رانيا".
طفت ابتسامة على وجهي فصاحت أمل:
ـ قلت لك اقرأ، يعني اقرأ لي بصوت أسمعه، بداية من الصفحة التاسعة، تفضل اقرأ!
وضعت على عيني نظارة القراءة وبدأت أقرأ: "مضت على الرجل عشرون سنة وهو يتعبد الله في صومعة عند رأس الجبل، حتى اشتهر في القرية بأنه الرجل المبارك، وكان أهل القرية البسطاء يصعدون له بالطعام ويقبلون يده، ويأخذون منه العهد ويحملون له المرضى ليشفيهم والأطفال ليدعو لهم.
ولكن الله كان يعلم أن هذا الرجل فاسق برغم صلاته وصومه وعبادته، وأنه يحب الدنيا حب العبادة برغم عزوفه الظاهر عنها، فما صعدت إليه امرأة بطعام إلا تطلع إلى ساقيها، وخالس النظر على تكوير ثديها وتدوير ردفها وبياض نحرها واحمرار ثغرها ودموية خدها، وما سجد بعد ذلك إلا وتراءت له المرأة في القِبلة، وما رقد لينام إلا احتلم بها وضاجعها حتى قضى منها الوطر وشفى الغليل".
فجأة وبسرعة البرق، مدت أمل يدها وانتزعت مني الرواية، ووقفت وهي تسلط عينيها على عينيّ وقالت:
ـ هذا المقطع هو رعبي، هذا المقطع يفضحني أنا، أنا المسيخة الدجالة، هناك رجل أرعن وديع لم يورط نفسه معي، يقطع عليّ ذكري وتسبيحي، أركع فيجثو على ركبتيه ويتلقف نهديّ بين يديه، أسجد فيأتيني من خلفي، أهب واقفة فيطرحني أرضًا ويعلوني.
كان وجهها كتخيلي لوجه أمنا الغولة، كان صوتها يتعذب وهي تتكلم، كانت أنفاسها تتقطع، وكان الزبد يتطاير من فمها ويسقط قريبًا من وجهي، سكتت فجأة، ثم قذفت مرآة خلف ظهري بالرواية.
عندما استفقت كانت قد غادرت الغرفة، حاولت اللحاق بها، ولكن كأن الأرض قد انشقت وابتلعتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق