ظهر الأربعاء الرابع من مايو الحالي ، كنت في ميدان
لبنان متجهًا إلى وسط العاصمة، حيث مقر نقابة الصحفيين، للمشاركة في اجتماع
الجمعية العمومية. كانت حركة المرور قد أصابها شلل رباعي، وبدأ سائقو الميكروباص
وبعض أصحاب السيارات الخاصة في سب الصحافة والصحفيين الذين أجبرت مظاهراتهم قوات
الشرطة على إغلاق منطقة وسط العاصمة، مما أدي إلى تكدس السيارات على باقي
المسارات.
بعد أكثر من ساعة ونصف وصلتُ
إلى مدخل شارع عبد الخالق ثروت من ناحية شارع رمسيس.
بدا الأمر كما هو معتاد،
حواجز أمنية وضباط ومجندون معظمهم مصاب بأنيميا
حادة، ثم جماعات من البلطجية المستأجرين، والذين يدللهم
المصريون الساخرون بلقب المواطنين الشرفاء.
.
البلطجية في حماية الضباط،
وتلك هي الكارثة، كارثة بذاءة نظام وفحش
إدارة، كارثة إطلاق الرصاص على رأس المنطق، والتصويب على قلب المعني، معنى القانون
ومعني الواجب الوظيفي عندما ينهار ويسفل وينحدر إلى هاوية اللجوء للبلطجية.
ساحرة الأمازون
في الحقيقة لا أعرف كيف يكون
شكل ساحرة الأمازون. قرأت في بعض القصص أنه مخيف جدًا، وهذا ما عاينته وأنا أحاول المرور من الحاجز الأمني. قبضة
بيضاء قوية جدًا ومشعرة للغاية قبضَتْ بعنف على ذراعي وصرخت صاحبتها: "انت
جاي هنا ليه؟"
سؤال السيدة الأمازونية مضحك
حتى الهلاك، ولكنه محور رئيسي من محاور كارثة
انهيار المعني.
أجبتها وأنا أقبض على ذراعها
بعنف مماثل: "انتي إيه اللى جابك هنا؟"
صاحت بطريقة مرعبة: "شيل
إيدك ماتلمسنيش".
هنا ضحكتُ، فتدخل البك الضابط
قائلًا: "هل ستتشاجران في حضوري؟"
فأضحكني سؤاله الاستنكاري
وقلت له: "اصدر لها أمرًا بأن تترك
ذراعي".
فقال: "اترك أنت ذراعها
أولًا واظهر بطاقتك الصحفية".
أخذتني عبثية الموقف كله
فأقسمت على عدم إظهار بطاقتي الصحفية. وكي لا يتطور الأمر تركني أعبر الحاجز بينما
استطاع إيقاف زملاء آخرين بزعم عدم امتلاكهم بطاقات صحفية.
واقعة الكشري
في زمن ما قبل الفضائيات واﻹنترنت،
كان المراهقون يتكبدون عناء الذهاب إلى دور العرض التي تعرض الأفلام المشاركة في
مهرجان القاهرة السينمائي، وكان لديهم سؤال واحد أزلي أبدي يلقونه على كل مغادر
لقاعة العرض: "هو الفيلم دا قصة ولّا مناظر؟"
كانوا بسؤالهم يريدون
الاطمئنان على وجود مشاهد "مناظر" ساخنة في الفيلم، فإن كانت الإجابة
بأن الفيلم "قصة" انصرفوا عنه لأنهم يريدون الأفخاذ العارية لا حبكة الدراما.
ويوم أمس كانت به ثلاث قصص
وعدد لا يحصى من المناظر. خذ عندك منظر التقاتل على علب الكشري التي كان يوزعها
متعهد على البلطجية الذين يلتهمونها وهم يرقصون على موسيقي الأغاني الوطنية
ويلوحون بأعلام الوطن وصورة الرئيس ويسبون الصحفيين. كل ذلك يفعلونه في نسق واحد
عجيب أشد العجب .
مثل هذا البؤس ثقيل على أي
قلب يتمتع صاحبه بالحد الأدنى من الرحمة،
ولكن ماذا بيد أي إنسان رحيم ليقدمه لهؤلاء الرافضين لأي حراك قد يدفع بحياتهم إلى الأمام؟
هؤلاء قوم رضوا بالبرشام
المخدر ورضي عنهم البرشام.
الغد علينا
حاول محامون الخروج من
نقابتهم الملاصقة لنقابة الصحفيين لإعلان تضامنهم معنا، ولكن البلطجية ورجال
الشرطة حالوا بينهم وبين هدفهم، فتراّصوا
أمام سور نقابتهم وراحوا يهتفون بكل قلوبهم مؤيدين للصحفيين ومتضامنين معهم.
تلك قصة لم تأخذ حظها من
الاهتمام الإعلامي. في غبار المعارك تضيع تفاصيل غاية في الأهمية، وقد ضاع تضامن
المحامين مع الصحفيين، وذلك لأن تضامنهم كان جذريًا وواعيًا ومدركًا لحقيقة الموقف
الذي لا يخرج عن أن دهس الصحفيين نذير سوء للمحامين، وأنه إن كان اليوم على الصحفيين
فالغد على المحامين.
أم القصص
أمام النقابة وعلى سلمها
الخارجي اجتمع آلاف الصحفيين، وكان هتافهم الرئيسي: "عيش، حرية/ الجزر دي
مصرية".
قل هي الجزر ولا شيء آخر.
موقف الصحفيين الرافض للتخلي عن جزيرتي تيران وصنافير واحتضان النقابة لمتظاهري
جمعة الأرض هو السبب الرئيسي، بل يكاد يكون الوحيد لتنكيل النظام الحكام
بالصحفيين.
لقد أدرك الصحفيون مبكرًا
جدًا أنهم أمام نظام حكم يريد ـ لأول مرة في التاريخ المصري ـ التخلي عن أرض
مصرية، هكذا بدون منطق ولا دليل ولا وثيقة. رفض الصحفيون هذا الاتجاه فكان ما كان،
وسيكون ما هو أشد وأشقى.
الجميلات هن الثائرات
قرب العصر دعا مجلس النقابة
عموم الصحفيين للدخول إلى القاعات الرئيسية للاستماع إلى قرارات اجتماع الجمعية
العمومية.
كان الأمر مفرحًا ذلك الفرح
الذي يعيد لك يقينك بصفاء الوجدان المصري. الكثرة الغالبة كانت للصحفيات، فأين ذهب
التحرش؟ بل أين ذهبت الغلظة والجلافة، وأين ذهبت المعاكسة والاستظراف؟
كل تلك الأمراض التي يحاول
بعضهم ترسيخها لدي المصريين لم يكن لها من
وجود. عكسها كان هو المسيطر والحاكم للموقف كله .
لم تتعرض صحفية لمضايقة ولو
بإشارة، رغم الزحام والجو الخانق والطقس الحار.
كان كل صحفي حريصًا على حماية
زميلته والترفق بها محاولًا أن يجد لها مقعدًا لكي تجلس عليه.
ولأن الثائرات هن الجميلات،
ولأن الجميلات هن الثائرات فقد وضعت الصحفيات المصريات لمساتهن على بدء الاجتماع.
فجأة وقفت أكثر من مائة صحفية
وبدأن في إنشاد النشيد الوطني.
دموع غزيرة خنقت أصوات معظم
الرجال تأثرًا بلمسة الجميلات.
هنا مصر بفنها ورقيها، هنا
مصر التي لم تكف قطّ عن المقاومة، هنا مصر التي تسعي لأن تنتزع حقها في البناء
والنهوض.
وقفة المحامين المؤيدة
والداعمة للصحفيين كانت قصة، ومعرفة الصحفيين بسبب تنكيل النظام الحاكم كان القصة
الثانية، نشيد الجميلات كان القصة الختامية، ليوم سيكون له ما بعده.
يوم الأمس كان القطرة الأولى
في غيث قادم، بل في طوفان سيكتسح هؤلاء الذين يظنون أن بمقدورهم حبس المارد في
قمقم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بموقع مدي مصر / الخميس 5
مايو 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق