تعرف حضرتك أن الخصخصة هى اسم
التدليل المصرى لبيع أصول القطاع العام، الذى هو نتاج عرق ونضال ومقاومة المصريين وتحويشة
أعمارهم، كما تعرف حضرتك أن الذين هم على أرضية اليسار المترامية الأطراف كانوا وبكل
قوة وحسم ضد منهج وسياسة البيع، وليس قوى اليسار وحدها، بل بعض الليبراليين وكثير من
هؤلاء الذين ليس لهم أيديولوجيا محددة واضحة المعالم، تكاتفوا جميعا ضد البيع، طبعا
هذا التكاتف لم يوقف بيع نملة، ناهيك ببيع مصنع أو تدمير مؤسسة. كان نظام مبارك قد
اعتمد سياسة عارضوا كما تشاؤون وسأتولى أنا البيع كما أشاء، وكانت هناك تهمة سابقة
التجهيز التى توجه إلى المدافعين عن تحويشة عمر المصريين هى «دراويش عبد الناصر أو
مجاذيب الاشتراكية»، والله يعلم لم يكن فى الأمر دروشة أو جذب، بل الأمر كله كان دفاعا
عن مصرية مصر وهويتها وكفاح شعبها الذى رأيناه جميعا يهدر بثمن بخس لا يكاد يقترب من
ثمن الأرض المقام عليها المصنع أو المؤسسة.
النزيف المتعمد للأصول والتخريب
الممنهج لها هو ما جعل نبرة معارضة البيع عالية بل وصاخبة، لكن جرت فى النهر مياه كثيرة
ومتدفقة جعلتنا نضع أيدينا على رأس البلاء، وما رأس البلاء سوى الكذب على الذات وعدم
مواجهة الحقائق مهما تكن فداحتها ومهما تبلغ مرارتها. الحقائق تؤكد أننا شعب مفرط فى
خصوبته، وذلك الإفراط دفع اللواء أبو بكر الجندى، رئيس جهاز التعبئة والإحصاء، لأن
يصرح لجريدتنا هذه بأن معدلات الزيادة السكانية فى مصر تساوى الخراب. وثانى حقيقة تؤكد
أننا بلد محدود الموارد أساسا، إضافة إلى ما شهده عهد مبارك من نهب منظم من عصابات
المتحالفين مع النظام المقبور. الحقيقة الثالثة هى آن وقت الجد وتجرع السم من أجل الشفاء.
لقد ثبت لكل ذى عينين أن إدارة الدولة لأصولها فاشلة بالثلث، لأن معظم المديرين يتعاملون
مع المال العام بوصفه غنيمة باردة بلا صاحب، وليس هذا فحسب، بل لأن الدولة دائما ما
تفكر من داخل الصندق القديم الشهير الذى تفسخت أضلاعه ولم يعد يجدى معه ترقيع أو ترميم.
إن مرافق مهمة جدا وفى غاية الاستراتيجية مثل الكهرباء والمياه والنقل والطرق يجب معاودة
النظر إليها من خلال منظار مواجهة الذات والكف عن رشوة الشعب وتلكم سياسة مصرية قديمة
أدت إلى ما نحن فيه من خراب. بهدوء تعالوا نتأمل حال مرفق خطير مثل مترو الأنفاق، قطارات
مرحلته الأولى «خط المرج - حلوان» ليس هناك فى المواصلات ما هو أشد بؤسا منها، لكن
قطارات ومحطات مرحلتيه الثانية والثالثة تجعلك تشعر بأنك فى الريف الفرنسى، هذا المرفق
يمنى كل عام بخسائر فادحة حتى إن إسماعيل النجدى، رئيس هيئة الأنفاق، قال لجريدتنا
«التحرير»: «إن الخسائر المتوقعة لعام 2016 ستصل إلى مليار جنيه».
طبعا لا بد وأن يخسر
المترو ما دامت الحكومة ترشو الشعب، والشعب يقبل الرشوة التى ستعود عليه بالخراب الأكيد،
بأى منطق تستمر تذكرة المترو بجنيه واحد لمدة تصل إلى عشر سنوات؟ هذا مقبول فى دول
فاحشة الثراء، أما الذين هم فى مثل حالاتنا فليس لهم سوى مد أرجلهم على مقياس غطائهم.
إن تكلفة استخدام وسيلة عجيبة من وسائل المواصلات مثل التوك توك هى أغلى عشرات المرات
من المترو بجلالة قدره، سياسة الطبطبة والاقتراض للإنفاق على الشعب أوصلتنا إلى ما
نحن فيه. الخصخصة أو البيع ليست حراما ما دامت تتم بشفافية ولصالح النهوض بشعب تكاد
الأزمات المتتالية أن تجعله شعبا من المقعدين، المواجهة وتقليص الفارق المرعب بين الإيراد
والمصاريف هو الحل، وإلا فمرحبا بمواصلة البكاء على الأطلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 24 أغسطس 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق