قالوا إن مبشرا أوروبيا قد ترك
مدينته الأوروبية الراقية فى بدايات القرن الماضى، وتوجه إلى قلب إفريقيا، حيث الغابات
البكر والأحراش المتوحشة، وحيث لا شىء يذكره بمدينته المتحضرة، ذهب الرجل إلى الأفارقة
بعزم من حديد وبهمة عالية وبمحبة دافقة للمسيحية قد ملكت عليه كل قلبه ومشاعره، الرجل
يريد الدعوة لدين المسيح بين قوم لم يسمعوا أصلا بكلمة دين، أو لهم دينهم الخاص الذى
يتناقض كلية مع معتقدات المبشر الأوروبى، ورغم تلك القطيعة العقدية والفجوة الحضارية،
فقد أحسن الأفارقة استقباله لعل وعسى يكون معه ما يفيدهم فى دنياهم، أقاموا له مأدبة
استقبال إفريقية، أسكرته بتفردها وتميز مذاقها، ثم بعد أن هدأت حرارة الاستقبال طالبوه
بأن يجعل على عينيه عصابة، فوقع فى قلب المبشر أنهم لا شك قد سمنوه لكى يأكلوه، فرفض
أن يضع عصابة على عينيه، فقام كبير القوم ووضع العصابة على عينىّ الأوروبى غصبا، ومرت
دقائق نزف خلالها الأوروبى حياته جميعا، وهو ينتظر طحن عظامه تحت أضراس الأفارقة المتوحشين،
بعد قليل رفعوا العصابة عن عينيه ليجد أمامه ستارة سوداء، طالبوه بأن يزيحها، فأزاحها
بيد مرتعشة ليجد نفسه أمام مشهد حياته، لقد جلب له الأفارقة آلة بيانو، لكى يبددوا
وحشته.
عجز لسانه عن شكرهم، لكنه شكرهم
بقلبه، واستغفر ربه على سوء ظنه بهم، ثم جلس إلى البيانو، لكى يعزف لهم لحن شكره وتقديره،
وما إن لمس مفاتيح البيانو، حتى انبعث منه نغمة نشاز يكاد نشازها يصم الآذان، تأفف
الرجل من نشاز البيانو، وأرجعه إلى تلف المفاتيح والأوتار بحكم عدم الاهتمام الإفريقى
بآلة لها خصائصها المتميزة. ثم مرت أيام تلتها أسابيع، والرجل عاكف على التبشير والعزف،
حتى ارتاحت أذنه إلى نغمات البيانو ورضيت ذائقته بجودة العزف، ولم يعد يشتكى من التلف
الذى أصاب الآلة، ثم مرت شهور، وجاءت أسرته من مدينته الأوروبية لكى تزوره وتطمئن عليه،
وتمكث لديه عدة أيام. قام الرجل بتجهيز استقبال إفريقى لأسرته أسكرهم ثم باغتهم بوجود
بيانو فى قلب الغابة، طالبته الأسرة بأن يعزف لهم شيئا من محفوظاته الموسيقية، فلبى
الطلب سعيدا متفاخرا بالبيانو الحبيب الذى طالما بدد وحشته، وما إن جلس إليه وعزف مقدمة
لحن، حتى صاحت الأسرة متأففة: «ما كل هذا النشاز؟».
يقول رواة القصة إن الأسرة الأوروبية
ظلت لساعات تصف نغمات البيانو بالنشاز، لكن بمرور الأيام وبإصرار رب الأسرة على مواصلة
العزف ارتاحت آذانهم للعزف، وأصبحوا مثل رجلهم مفتونين بالبيانو الحبيب، الذى يبدد
وحشتهم وأضاء ظلمة الغابة.
الذى يرزقه الله نعمة التأمل سيجد
حالنا مطابقا لحال تلك الأسرة الأوروبية، فقد بدأنا كارهين الحرب أى حرب وخائفين من
إراقة الدماء، أى دماء، هل تذكر كيف كنا نرتعش غضبا من طواغيت مثل بن على ومبارك وعلى
صالح وبشار الأسد ومعمر القذافى وهم يريقون دماء شعوبهم؟
هل تذكر مظاهراتنا الغاضبة التى
كنا نحاصر بها سفارات هؤلاء الطغاة لكى يرسل لهم رسالة رفضنا لجنون حكمهم وتوحش سياساتهم؟
هل تذكر كم فرحنا وكيف حلقنا فى
سماوات الأمل عندما استطعنا بلحمنا العارى إزاحة بعضهم من فوق عرش الحكم؟
حتى بشار الأسد بواقع بلاده الملتبس
والمختلف لم نهادنه يوما، ولم نعلن يوما معارضتنا لثورة شعبه عندما كانت سلمية عافية
ممتلئة بالغضب النبيل واعية لغد أجمل وأفضل، لكن جرت فى النهر مياه كثيرة، فأصبح القتل
على المشاع، ولم يعد مقتول يدرى مَنْ قاتله ولمَ قتله، فلم تعد تعصف بنا مشاهد القتل
التى تحاصرنا أينما ولينا وجوهنا، بالجملة لم نعد نشعر بنشاز البيانو ولا ببلادة الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 8 يونيو 2014
لينك المقال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق