البحر
يفضل دائما الاختباء بين جدران مكتبته حيث الحيوات المحنطة بين أغلفة
الكتب، لم يعُد يطيق ذلك الجمال المنبعث من زرقة البحر وخضرة الحدائق ورحابة الصحراء،
كل جمال ينتمى إليها، وهى قد هجرته.
مقاطعة ماديسون
كان سعيدًا جدًّا، حبيبته إلى جواره، وسيشاهدان معًا فيلمهما المفضل
(جسور مقاطعة ماديسون)، وسيتمتعان بتعقيب على الفيلم من ناقدهما المحبوب. أظلمتْ قاعة
العرض وظهرت ميريل ستريب فى دور فرانشيسكا، لا لتضىء الشاشة بل لتضىء عتمة قلبيهما.
غمز لحبيبته عندما قالت فرانشيسكا: «إن اغتسالها بعد حبيبها فى نفس المغطس وتساقط قطرات
الماء على جسدها من نفس رشاش الحمام يبعث فى أوصالها بنبيذ الغواية». ردتْ حبيبته على
غمزته وعلى جملة فرانشيسكا بابتسامة فاتنة. عندما انتهى عرض الفيلم، كانت عيونهما محتقنة
وأنفاسهما مبهورة. سيطرا على انفعالهما بشق الأنفس لكى ينصتا إلى تعقيب الناقد الذى
قال: «الأمريكان الذين يبقرون بطون الحوامل، الأمريكان الذين يبول جنودهم على جثامين
الموتى، الأمريكان الذين يدفنون الأسرى وهم أحياء، الأمريكان الذين يلهون باغتصاب البكارى،
الأمريكان الذين إن لم يجدوا عدوًّا اخترعوه، كيف أنجبوا ميريل ستريب؟». طرح ناقدهم
سؤاله ثم خنقتْ الدموع صوته.
الربيع
رغم سنه المتقدمة فإنه يغادر بيته فى تمام السادسة صباحًا، يصل إلى محل
الأحذية الذى يمتلكه فى تمام السابعة، يكنس أمام المحل ويرش البلاط بالماء ثم يلمع
فاترينة العرض، ثم يتأمل بمحبة الأحذية التى لا يبيع منها إلا القليل، فى تمام الثامنة
يكون قد جلس خلف مكتبه النظيف يرشف بتلذذ قهوته الصباحية. فى التاسعة يأتى ثلاثة رجال
يماثلونه فى العمر، هم كل من بقى من مئات كان يحبهم ويحبونه. لا يتحدث الرجال الأربعة
عن أمراض الشيخوخة أو غلاء الأسعار أو شح الأدوية أو حالة المناخ، إنهم يحمدون الله
على الصباح الجديد ثم يشعلون سجائرهم ويرمون له نظرة يفهمها. يقوم إلى جهاز كاسيت عريق
ويضع بداخله الشريط الوحيد الذى لا يستمعون لسواه، يضغط مفتاح التشغيل فيأتى صوت فريد
الأطرش مغنيًا للربيع. عندما يتسلطن عود فريد فى المقدمة الموسيقة، يتطوع بأن يردد
عليهم جملتهم الخالدة: «لو كان للغناء أب فسيكون عبد الوهاب، ولو كان له أم فستكون
أم كلثوم، أما الابن فهو حتمًا سيكون فريد». يهزون رؤوسهم بعلامة مؤيدين لكلامه، ثم
يتفرغون بكلياتهم للعودة عبر صوت فريد إلى أزمنتهم الماضية، عندما يغنى فريد: «أيام
رضاه يا زمانى هاتها وخد عمرى»، لا يرى أحد منابت دمعه تترقرق فى عينيه. عندما سقط
فى غيبوبة بين أصحابه ذات صباح، جاء الطبيب الذى نظر إلى أصحابه قائلاً: «لا تتهمونى
بالجنون لو قلت إنه مات بفعل الشجن».
عبث
ليس من مألوف عاداته التدخل فى شؤون الناس، حتى إنه كان لا يتدخل فى شأنه
هو الشخصى، تاركًا الأيام تفعل به ما تشاء، ليلتها كان يسير غير ملتفت لشىء كعادته،
عندما سقط بصره على غير إرادة منه على البنت التى كاد بياض وجهها يضىء ظلمة الشارع،
كانت ترتجف من البرد والوحدة ومن مشقة الانتظار. كأنه غيره، اقترب من البنت البيضاء
وهمس بثقة طارئة عليه: «عودى إلى بيتك، هو لن يأتى». حملقت البنت البيضاء فى وجهه خائفة،
كأنه جنى ثم انخرطت فى بكاء عنيف. غضب من نفسه ومنها ومن كل هذا الكون، اعتذر لها عن
تعليقه السخيف، وترجاها أن تكف عن بكائها. تشنج جسدها فوجد نفسه يحتضنها مواسيًا، من
لحظتها نسيت البنت البيضاء حبيبها وأحبته هو بجنون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير بتاريخ 9 يوليو 2014
لينك الجريدة:
http://tahrirnews.com/chosen/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D8%B1/%D9%85%D8%A8%D8%B9%D8%AB%D8%B1%D8%A7%D8%AA/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق