مات الأب وترك أرملته وبناته الثلاث يواجهن جبلًا من الصمت يجثم على قلوبهن. عرف البيت الصامت عودة الكلام مع دخول قارئ قرآن كفيف لكى يرتل ما تيسر من الآيات طلبًا للرحمة والبركة. يتطور الأمر ويتزوج الشيخ الكفيف من الأم، تصبح حياة البنات جحيمًا وهن يشاهدن ويسمعن ويشعرن بما يحدث بين أمهن وزوجها الشيخ. البنات اللاتى لم يتوقف أمامهن قطار الزواج يطالبن بحقهن فى الحياة، وما كانت وسيلتهن للحصول على حقهن سوى خاتم أمهن، كل واحدة وبهدوء قاتل تضع الخاتم فى أصبعها فتصبح زوجة للكفيف.
ما سبق كان تخليصًا مخلًّا لرائعة يوسف إدريس «بيت من لحم»، التى يقبض فيها بفنه القادر على لحظات الصمت ونار التواطؤ، هذا التواطؤ الذى يورط فيه حتى قارئ القصة، لا أبالغ عندما أقول إنك ستحبس أنفاسك خوفًا من أن تخدش جدار الصمت الزجاجى الهش.
البنات وأمهن صامتات، يتبادلن الأدوار دون كلمة واحدة، دون لفتة واحدة، لا إشارة ولو عابرة لما يجرى. إن أدنى كلمة ستفتح بوابات الجحيم. إن أدنى مواجهة ستهدم عالمهن كله. الحقيقة أقسى من أن يواجهن بها أنفسهن. من ناحيته فإن القارئ الكفيف يلتمس لنفسه العذر ولا يسمح لنفسه بالتحقق من الشك الذى أصبح يلفه، إنه يلقى بالمسؤولية على المبصرين فقط، لأنه ليس على الأعمى حرج.
هذه الحالة القاتلة، نعيش مثلها الآن، حالة الصمت العاجز عن مواجهة الحقائق المؤلمة، كأن الصمت سيجعل من الحرام حلالًا، أو سيقدم مخرجًا كريمًا لما نحن فيه.
إن أردت دليلًا على جهنمية هذا الصمت فراجع مواقفنا جميعًا من التقرير الذى قدمه المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات.
تقرير المستشار جنينة تكدست على جنباته مليارات الجنيهات التى ابتلعتها دوامة الفساد والمخالفات الإدارية، كأننا دولة تغرف من بحر، ولسنا دولة تعيش بالأساس على المعونات واقتصاد الريع.
قال جنينة: «إن مرسى حصل على أكثر من 600 ألف جنيه فى عام حكمه، وشهدت الرئاسة فى عهده مخالفات صارخة فى التعيينات». وأضاف أن جملة المخالفات التى شهدتها أرض منطقة الحزام الأخضر بمدينة السادس من أكتوبر قد بلغت 26 مليار جنيه، أما مخالفات مدينة الشيخ زايد فقد بلغت 4 مليارات جنيه. وعن الدعم قال جنينة: «إن دعم المنتجات البترولية وصل إلى 114 مليار جنيه، فى حين أن المبلغ المعتمد رسميا هو 95.535 مليار جنيه»، وهذا يعنى أن 18.899 مليار جنيه، لا يعرف أحد عنها شيئًا!!
تحت هذه العناوين الرئيسية كشف تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات عن عدوان على المال العام يحدث بشكل يومى، فما الذى فعلته الحكومة تجاه هذا التقرير الخطير؟
لم تفعل شيئًا، أو للدقة تركت المستشار جنينة يقول ما شاء ثم تركته يعود سالمًا إلى منزله، ثم تركته يواصل عمله، كأن شيئًا لم يحدث. أما المجتمع فقد تلبسته حالة الصمت، كأن الأمر برمته لا يعنيه، وكأن هذه المليارات المهدرة ليست ثروته هو، بل إن فريقًا من المجتمع لا يستهان به شن هجومًا معاكسًا ضد المستشار جنينة وضد تقريره، فقد اتهموه بأنه إخوانى الهوى ويريد تصفية حسابات لصالح جماعته، ودللوا على ذلك بأنه عقد مؤتمرًا صحفيًّا بقصد التشهير بخصومه.
وحتى لو سلمنا بصحة هذه الاتهامات التى لا يقوم عليها دليل مادى ملموس، فهل معنى ذلك أن يتم تجاهل التقرير ولا يسعى المجتمع لكى يمارس ضغوطًا تؤدى إلى التحقيق فى محتواه، لكى نعرف يقينًا الجانى من الضحية؟
إن كراهية عصابة حسن البنا المعروفة باسم جماعة الإخوان لا تبرر هذا الصمت الذى يصل إلى حد التواطؤ، صمت يشارك فيه الجميع، الأحزاب والقوى السياسية والإعلام بمختلف وسائله، جهات التحقيق، حتى هؤلاء الذين تضرروا بشكل مباشر من المخالفات والإهدار كلهم اعتصم بالصمت، كأن المال المهدَر سيعود من تلقاء نفسه، وكأن البلد يملك ثروات طائلة ولا يزعجه أن يتم فى عام واحد إهدار عشرات المليارات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 27 فبراير 2014
لينك المقال بموقع التحرير:
http://tahrirnews.com/columns/view.aspx?cdate=26022014&id=c47165e7-69bf-4202-a533-6cd31658ee29
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق