هل تذكرون فتنة رواية «وليمة لأعشاب البحر»؟ نحن الآن على أعتاب فتنة مثلها بل أخطر وأشد، أسامة عفيفى رئيس تحرير سلسلة « ذاكرة الوطن» استخدم سلطات منصبه وأعاد نشر كتاب «المعلم يعقوب.. بين الحقيقة والأسطورة» للدكتور أحمد حسين الصاوى، بعد نشر الكتاب انطلقت من فوق أرصفة الإنترنت حملات شعواء طالت عفيفى والذين معه وهددت بالويل والثبور وعظائم الأمور، وقد اتهم الذين شنوا الحملة هيئة قصور الثقافة ناشرة الكتاب بكل نقيصة جادت بها أقلامهم، وعلى رأس النقائص كانت تقف مفزعة نقيصة «الطائفية» والإساءة إلى الكنيسة الوطنية!
وليس بوسع أى قارئ منصف للكتاب إلا الانزعاج من المحتقنين الذين يحجرون على حوادث التاريخ وينادون بمصادرة أى كتاب لم يكتب على هواهم، إن الذين طالبوا بمصادرة الكتاب هم الذين يسيئون لتاريخ الكنيسة الوطنية التى وقف رئيسها ضد أطماع المعلم يعقوب الذى انسلخ عن أمته والتحق بقوات الغزاة.
هنا نستدرك على الذين هاجموا ونعرض الكتاب لكى يختلف معه من أراد عن بينة، ويدافع عنه من أراد عن بينه بعيدا عن سياسة تجريم التاريخ التى أصبح البعض ينتهجها لتخويف كل باحث عن الحقيقة.
المصالح تتصالح
المشهد الأول: الأقباط يبرعون فى مسك الدفاتر وجباية الضرائب وكل ما له علاقة بتنظيم الحياة المادية لمصر فى كل عصورها منذ دخلها الإسلام.
المشهد الثانى: الأقباط يحتفظون بمكانتهم الوظيفية فى عهد المماليك والأتراك وعندما يأتى الغزو الفرنسى لا يتغير من الأمر شىء.
المشهد الثالث: نابليون بونابرت يعين المعلم جرجس الجوهرى مسئولا عاما عن تحصيل الضرائب العقارية، ويعهد إليه بتنظيم الموارد المالية للحكومة.
المشهد الرابع: المماليك (مسلمون) بقيادة مراد بك يشنون حربا شعواء على قوات الحملة الفرنسية.
المشهد الخامس: مراد بك يتحصن فى الصعيد ويواصل حربه للقوات الفرنسية.
المشهد السادس: مراد بك يوقع اتفاقية «سلام وتحالف» مع كليبر، وتقضى الاتفاقية بأن يحكم مراد بك الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية مقابل تمتعه بخَراج إقليم جرجا، وعليه أن يتكفل بتموين القوات الفرنسية المرابطة فى ميناء القصير وأن يساعدها فى حالة الاعتداء عليها.
المشهد السابع: أمراء مماليك (مسلمون) مثل عثمان البرديسى وعثمان عسكر وحسين الكاشف يتحالفون مع الفرنسيين.
المشهد الثامن: التحالف مع المماليك (المسلمون) يتيح لكليبر فرصة القضاء على ثورة القاهرة الثانية (قادتها وجمهورها من المسلمين).
المشهد الثامن: وهو للحق من مشاهد زماننا العابث، شارع مراد الذى بالجيزة تتم تسميته على اسم المملوك المتحالف مع الغزاة.
الختام: هل رأيت كيف تتصالح المصالح؟
هنا ملوى
فى حوالى العام 1745 ولد يعقوب حنا بمدينة ملوى، تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ثم لما أتقن المحاسبة عمل فى خدمة «سليمان بك أغا» ( مسلم) ليضبط دفاتر حساباته، وقد جنى يعقوب من وراء عمله ثروة ضخمة.
كان يعقوب قوى البنية محبا للفروسية وقد حارب فى صف المماليك ضد قوات القبطان حسن باشا التى كانت تحاول تثبيت حكم العثمانيين لمصر قبيل قدوم الغزو الفرنسى.
كان يعقوب مخالفا لعادات قومه فى الزى والنشاطات ويكفى أنه اتخذ امرأة بطريقة غير شرعية، وقد نصحه بطريرك الأقباط بتحسين سلوكه ولكنه رفض النصيحة.
عندما وقع الغزو الفرنسى كان يعقوب رجلا مكتمل الرجولة فى الثالثة والخمسين من عمره، ملأ جلده طموح قاتل، لم يعد يعقوب راضيا بدور الثرى أو جامع الضرائب أو المحاسب، إنه يبحث عن دور يضعه حيث يرى نفسه.
وجد يعقوب ضالته فى الفرنسيين فقدم نفسه إليهم ( هل يذكرك هذا بفلان وفلان فى العراق مثلا؟ ). يعقوب الصعيدى العارف بدروب بلاده رافق الجنرال «ديسيه» ليخضع الصعيد للحكم الفرنسى الجديد. وقع يعقوب ( كما سيأتى ) فى غرام ديسيه ولذا بذل كل جهده لإنجاح حملة قمع الصعيد !!.
قام يعقوب بتأمين طرق مواصلات الحملة ونظم الشئون الإدارية فى الأقاليم التى تم إخضاعها، وعمل على التوفيق بين قديم القوانين وجديدها، ثم شارك بفاعلية فى المعارك التى جرت بين المماليك والصعايدة من جانب، والفرنسيين من جانب آخر.
اشتبك يعقوب على رأس فصيلة من الفرسان الفرنسيين مع المماليك عند بلدة «العتامنة» بأسيوط، وأبلى بلاء حسنا فى تلك المعركة حتى إن القائد الفرنسى قدم إليه سيفا تذكاريا نقشت عليه جملة «معركة عين القوصية 24ديسمبر 1798».
فى عهد كليبر
غادر بونابرت مصر فجأة فى الأول من أغسطس 1799 وتولى كليبر قيادة الحملة، وعاد ديسيه من الصعيد برفقة يعقوب الذى قدم حتى الآن خدمات جليلة للفرنسيين ولكنه كان دائما «يلعب لصالحه الشخصى» يقول الجنرال بليار فى مذكراته عن يعقوب: «ومع أنه كان يعمل لحسابنا فهو لم ينس مصالحه الخاصة».
تحصن يعقوب فى قلعته التى شيدها فى «الرويعى» وضم إليه معظم عساكر الزعيم المملوكى حسن بك الجداوى، ومنحه كليبر رتبة كولونيل، فبدأ يعقوب فى تكوين فرقة قبطية مسلحة ستعرف لاحقا باسم الفيلق القبطى، وقام من ماله الخاص بتجهيز الفيلق بالتموين والسلاح. وكان الهدف من تكوين الفيلق هو مساعدة الفرنسيين.
نصب تذكارى للمحبوب
شارك يعقوب ورجاله فى تحصين القاهرة فى وجه العثمانيين عندما حاولوا الاقتراب منها للمرة الثانية فى عام 1801، وكان من أعوان يعقوب فى قهر المصريين رجل يدعى «مصطفى الطاراتى»، وقد كأفا مينو الذى تولى قيادة الحملة الفرنسية بعد كليبر المعلم يعقوب ومنحه رتبة جنرال.
غادر ديسيه مصر فى عهد كليبر لينضم لبونابرت فى حربه مع النمسويين، وقد قتل ديسيه فى معركة «مارنجو»، وحزن يعقوب على مقتل صديقه الشاب حزنا عظيما وكتب إلى الجنرال مينو يعرض عليه دفع ثلث تكاليف بناء النصب التذكارى المزمع إقامته تخليدا لذكرى «الرجل الذى وهبه قلبه» ــ حسب نص عبارة يعقوب.
هنا لا يقطع المؤلف بشىء حول طبيعة علاقة يعقوب بديسيه، وإن كان يشير إلى تعلق الشيخ إسماعيل الخشاب بشاب من ضباط الجيش الفرنسى!!
لم يتوقف الأمر عند تحمل ثلث تكاليف إقامة النصب بل تعداه إلى مدح الفقيد بقصيدة عصماء تتحدث عن شوق القلب إليه !!!
كلف يعقوب صديقه الأب رفائيل بكتابة مرثية شعرية فى ديسيه، تعبر عن مشاعره تجاه صديقه، والقصيدة على ركاكتها كانت تسجيلا لمشاعر وأحاسيس يعقوب نحو الضابط الشاب الذى عاش معه فى الصعيد وكان لا يفارقه!!
وبعد أن كتب الأب رفائيل مرثيته أرسلها يعقوب إلى باريس، ومن أبيات القصيدة التى قد تشير إلى طبيعة العلاقة بين يعقوب وديسيه :
لم يزل بفكرى مخلدا أبدا
حتى إلى خروج الروح من صدرى
جد علىّ بلحظ العين مترأفا
وانظر إلىّ بأسنى برقة النظر
ومحبتنا للفرنسيس فلابد عنها
لأنهم اعتقونا من الأضرار والشر.
كان صرحا من خيال
سرعان ما هوى صرح الخيال الذى شيده المعلم يعقوب، كانت القوات العثمانية التى تريد استرداد مصر من قبضة الفرنسيين تتقدم باتجاه القاهرة فى ذات الوقت الذى تقدمت فيه القوات الانجليزية باتجاه رشيد فوقع مينو بين طرفى كماشة فكان لابد من الانسحاب من مصر وإعلان فشل الحملة. ماذا يفعل يعقوب وكل الذين وضعوا أنفسهم فى خدمة الاحتلال؟
جمع يعقوب فيلقه وأراد السفر إلى فرنسا، ولكن نساء وأولاد الجنود تشبثوا بالبقاء فى مصر، من ناحيتهم أراد العثمانيون استمالة الشعب إليهم فأصدروا مرسوما يقضى بالعفو العام عن كل الذين تعاونوا مع الفرنسيين وقالوا نصا: كل واحد من أهالى مصر المحروسة من كل ملة كانت، الذى يريد يسافر مع الفرنساوية يكون مطلوق الإرادة وبعد سفره لا تصادر أملاكه، ولا أحد من أهالى مصر يكون قلقا من قبل نفسه ولا من قبل متاعه، جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنسى بمدة إقامة الجمهور بمصر.
هذا العفو لم يفلح فى حالة يعقوب ويوسف الحموى وعبد العال الأغا قائد قوات الأنكشارية الذى طلق زوجته وباع متاعه وسافر مع الفرنسيين ( ليس الأقباط هم الذين تعاونوا فقط ) أخيرا جاءت ساعة الحقيقة وصعد يعقوب إلى الفرقاطة الإنجليزية بالاس وهى السفينة نفسها التى أقلت الجنرال بليار وعددا من جنوده عائدين خائبين إلى فرنسا. وهنا يبدأ الفصل الأخير من مغامرات يعقوب.
مع لاسكاريس
ولد تيودور لاسكاريس فى عام 1774لأسرة من نبلاء إيطاليا وانخرط وشقيق له فى سلك فرسان القديس يوحنا بجزيرة مالطة، التى غزاها نابليون وهو فى طريقه لمصر وانتزعها من أيديهم، صحب تيودور لاسكاريس نابليون إلى مصر، وقد جاء فى مراسلات نابليون أن الأخوين لاسكاريس كانا مصابين بلون من الهوس وشذوذ الأهواء وخاصة تيودور الذى وصل الأمر به إلى حد الجنون لأنه كان صاحب عقل مغرق فى الخيال، وقد قال لاسكاريس لقائد الحملة مينو: إن القدر يهىئ لكل إنسان فى هذا العالم الطريق الذى يسلكه وكثيرا ما أرتفع بنفسى فوق عالم الواقع لكى أخطط لمشروعاتى، وأترك لخيالى أن يذلل كل ما قد يعترضها من عقبات.
على متن السفينة الإنجليزية كان القبطان يميز المعلم يعقوب بنوع خاص من المعاملة، وهو الأمر الذى جعل يعقوب يقول للقبطان: إننى عندما أعتمد فى تحقيق غايتى على الفرنسيين لم أكن أدرك قوة الإنجليز، أما الآن فقد خدعنا الفرنسيون، وأصبح الشعب المصرى يحتقرهم كما يحتقر الأتراك «تلقف لاسكاريس هذه المغازلة وتدخل عقله صاحب المشروعات العجيبة وقال للقبطان إن الجنرال يعقوب إنما يسافر على رأس وفد مصرى اختاره أعيان البلاد ليفاوض الحكومات الأوربية المعنية فى موضوع استقلال مصر». هذا الخيال الجامع يصبح للأسف هو الدليل الوحيد على المساعى التى بذلها يعقوب فى سبيل استقلال مصر عن الحكم التركى!
لاسكاريس كان يمارس هوايته فى إطلاق المشروعات غير القابلة للتحقيق، أما يعقوب فقد كان يكذب، إذ لم يكن ممثلا للمصريين ولم يكن على رأس وفد المطالبة بالاستقلال، يعقوب لم يكن سوى باحث عن مصلحة خاصة تمكنه من الزعامة الشخصية، وسامح الله الدكتور لويس عوض الذى تلقف هذه القصة وجعل من خلالها يعقوب بطلا من أبطال الاستقلال.
قبر من الخمر
عندما كانت السفينة بالاس لاتزال فى عرض البحر أصيب يعقوب بالحمى، ما لبث أن اشتد عليه المرض ومات فى عرض البحر فى 16 أغسطس 1801، وكانت آخر كلماته وهو يحتضر للجنرال بليار أن يدفن مع صديقه ديسيه فى قبر واحد.
ولم يلق قبطان السفينة بجثة يعقوب إلى البحر كالمعتاد فى مثل هذه الحالة، بل استمع إلى رجاء من معه فاحتفظ بالجثة فى دن من الخمر حتى وصلت السفينة إلى مارسيليا وهناك تم دفنها، ليسدل الستار على الفصل الأخير فى حياة يعقوب.
والآن بعد هذا العرض لأبرز ما جاء فى كتاب الدكتور أحمد حسين الصاوى، هل لنا أن نسأل: أين هى تلك الطائفية التى أغضبت البعض من إعادة نشر الكتاب؟
لقد ذكر الدكتور الصاوى كل ما يتعلق بالذين تعاونوا بل وتحالفوا مع الاحتلال ولم يفرق بين مسلم ومسيحى وشن حملة قوية ضد خيانة مراد بك الذى تمتع هو وقومه بخيرات مصر، ثم تحالفوا مع الغازى لأنهم دائما وأبدا كانوا ينظرون إلى مصالحهم الشخصية بعيدا عن مصلحة البلاد التى نعموا بخيراتها.
وليس بوسع أى قارئ منصف للكتاب إلا الانزعاج من المحتقنين الذين يحجرون على حوادث التاريخ وينادون بمصادرة أى كتاب لم يكتب على هواهم، إن الذين طالبوا بمصادرة الكتاب هم الذين يسيئون لتاريخ الكنيسة الوطنية التى وقف رئيسها ضد أطماع المعلم يعقوب الذى انسلخ عن أمته والتحق بقوات الغزاة.
هنا نستدرك على الذين هاجموا ونعرض الكتاب لكى يختلف معه من أراد عن بينة، ويدافع عنه من أراد عن بينه بعيدا عن سياسة تجريم التاريخ التى أصبح البعض ينتهجها لتخويف كل باحث عن الحقيقة.
المصالح تتصالح
المشهد الأول: الأقباط يبرعون فى مسك الدفاتر وجباية الضرائب وكل ما له علاقة بتنظيم الحياة المادية لمصر فى كل عصورها منذ دخلها الإسلام.
المشهد الثانى: الأقباط يحتفظون بمكانتهم الوظيفية فى عهد المماليك والأتراك وعندما يأتى الغزو الفرنسى لا يتغير من الأمر شىء.
المشهد الثالث: نابليون بونابرت يعين المعلم جرجس الجوهرى مسئولا عاما عن تحصيل الضرائب العقارية، ويعهد إليه بتنظيم الموارد المالية للحكومة.
المشهد الرابع: المماليك (مسلمون) بقيادة مراد بك يشنون حربا شعواء على قوات الحملة الفرنسية.
المشهد الخامس: مراد بك يتحصن فى الصعيد ويواصل حربه للقوات الفرنسية.
المشهد السادس: مراد بك يوقع اتفاقية «سلام وتحالف» مع كليبر، وتقضى الاتفاقية بأن يحكم مراد بك الصعيد باسم الجمهورية الفرنسية مقابل تمتعه بخَراج إقليم جرجا، وعليه أن يتكفل بتموين القوات الفرنسية المرابطة فى ميناء القصير وأن يساعدها فى حالة الاعتداء عليها.
المشهد السابع: أمراء مماليك (مسلمون) مثل عثمان البرديسى وعثمان عسكر وحسين الكاشف يتحالفون مع الفرنسيين.
المشهد الثامن: التحالف مع المماليك (المسلمون) يتيح لكليبر فرصة القضاء على ثورة القاهرة الثانية (قادتها وجمهورها من المسلمين).
المشهد الثامن: وهو للحق من مشاهد زماننا العابث، شارع مراد الذى بالجيزة تتم تسميته على اسم المملوك المتحالف مع الغزاة.
الختام: هل رأيت كيف تتصالح المصالح؟
هنا ملوى
فى حوالى العام 1745 ولد يعقوب حنا بمدينة ملوى، تعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ثم لما أتقن المحاسبة عمل فى خدمة «سليمان بك أغا» ( مسلم) ليضبط دفاتر حساباته، وقد جنى يعقوب من وراء عمله ثروة ضخمة.
كان يعقوب قوى البنية محبا للفروسية وقد حارب فى صف المماليك ضد قوات القبطان حسن باشا التى كانت تحاول تثبيت حكم العثمانيين لمصر قبيل قدوم الغزو الفرنسى.
كان يعقوب مخالفا لعادات قومه فى الزى والنشاطات ويكفى أنه اتخذ امرأة بطريقة غير شرعية، وقد نصحه بطريرك الأقباط بتحسين سلوكه ولكنه رفض النصيحة.
عندما وقع الغزو الفرنسى كان يعقوب رجلا مكتمل الرجولة فى الثالثة والخمسين من عمره، ملأ جلده طموح قاتل، لم يعد يعقوب راضيا بدور الثرى أو جامع الضرائب أو المحاسب، إنه يبحث عن دور يضعه حيث يرى نفسه.
وجد يعقوب ضالته فى الفرنسيين فقدم نفسه إليهم ( هل يذكرك هذا بفلان وفلان فى العراق مثلا؟ ). يعقوب الصعيدى العارف بدروب بلاده رافق الجنرال «ديسيه» ليخضع الصعيد للحكم الفرنسى الجديد. وقع يعقوب ( كما سيأتى ) فى غرام ديسيه ولذا بذل كل جهده لإنجاح حملة قمع الصعيد !!.
قام يعقوب بتأمين طرق مواصلات الحملة ونظم الشئون الإدارية فى الأقاليم التى تم إخضاعها، وعمل على التوفيق بين قديم القوانين وجديدها، ثم شارك بفاعلية فى المعارك التى جرت بين المماليك والصعايدة من جانب، والفرنسيين من جانب آخر.
اشتبك يعقوب على رأس فصيلة من الفرسان الفرنسيين مع المماليك عند بلدة «العتامنة» بأسيوط، وأبلى بلاء حسنا فى تلك المعركة حتى إن القائد الفرنسى قدم إليه سيفا تذكاريا نقشت عليه جملة «معركة عين القوصية 24ديسمبر 1798».
فى عهد كليبر
غادر بونابرت مصر فجأة فى الأول من أغسطس 1799 وتولى كليبر قيادة الحملة، وعاد ديسيه من الصعيد برفقة يعقوب الذى قدم حتى الآن خدمات جليلة للفرنسيين ولكنه كان دائما «يلعب لصالحه الشخصى» يقول الجنرال بليار فى مذكراته عن يعقوب: «ومع أنه كان يعمل لحسابنا فهو لم ينس مصالحه الخاصة».
تحصن يعقوب فى قلعته التى شيدها فى «الرويعى» وضم إليه معظم عساكر الزعيم المملوكى حسن بك الجداوى، ومنحه كليبر رتبة كولونيل، فبدأ يعقوب فى تكوين فرقة قبطية مسلحة ستعرف لاحقا باسم الفيلق القبطى، وقام من ماله الخاص بتجهيز الفيلق بالتموين والسلاح. وكان الهدف من تكوين الفيلق هو مساعدة الفرنسيين.
نصب تذكارى للمحبوب
شارك يعقوب ورجاله فى تحصين القاهرة فى وجه العثمانيين عندما حاولوا الاقتراب منها للمرة الثانية فى عام 1801، وكان من أعوان يعقوب فى قهر المصريين رجل يدعى «مصطفى الطاراتى»، وقد كأفا مينو الذى تولى قيادة الحملة الفرنسية بعد كليبر المعلم يعقوب ومنحه رتبة جنرال.
غادر ديسيه مصر فى عهد كليبر لينضم لبونابرت فى حربه مع النمسويين، وقد قتل ديسيه فى معركة «مارنجو»، وحزن يعقوب على مقتل صديقه الشاب حزنا عظيما وكتب إلى الجنرال مينو يعرض عليه دفع ثلث تكاليف بناء النصب التذكارى المزمع إقامته تخليدا لذكرى «الرجل الذى وهبه قلبه» ــ حسب نص عبارة يعقوب.
هنا لا يقطع المؤلف بشىء حول طبيعة علاقة يعقوب بديسيه، وإن كان يشير إلى تعلق الشيخ إسماعيل الخشاب بشاب من ضباط الجيش الفرنسى!!
لم يتوقف الأمر عند تحمل ثلث تكاليف إقامة النصب بل تعداه إلى مدح الفقيد بقصيدة عصماء تتحدث عن شوق القلب إليه !!!
كلف يعقوب صديقه الأب رفائيل بكتابة مرثية شعرية فى ديسيه، تعبر عن مشاعره تجاه صديقه، والقصيدة على ركاكتها كانت تسجيلا لمشاعر وأحاسيس يعقوب نحو الضابط الشاب الذى عاش معه فى الصعيد وكان لا يفارقه!!
وبعد أن كتب الأب رفائيل مرثيته أرسلها يعقوب إلى باريس، ومن أبيات القصيدة التى قد تشير إلى طبيعة العلاقة بين يعقوب وديسيه :
لم يزل بفكرى مخلدا أبدا
حتى إلى خروج الروح من صدرى
جد علىّ بلحظ العين مترأفا
وانظر إلىّ بأسنى برقة النظر
ومحبتنا للفرنسيس فلابد عنها
لأنهم اعتقونا من الأضرار والشر.
كان صرحا من خيال
سرعان ما هوى صرح الخيال الذى شيده المعلم يعقوب، كانت القوات العثمانية التى تريد استرداد مصر من قبضة الفرنسيين تتقدم باتجاه القاهرة فى ذات الوقت الذى تقدمت فيه القوات الانجليزية باتجاه رشيد فوقع مينو بين طرفى كماشة فكان لابد من الانسحاب من مصر وإعلان فشل الحملة. ماذا يفعل يعقوب وكل الذين وضعوا أنفسهم فى خدمة الاحتلال؟
جمع يعقوب فيلقه وأراد السفر إلى فرنسا، ولكن نساء وأولاد الجنود تشبثوا بالبقاء فى مصر، من ناحيتهم أراد العثمانيون استمالة الشعب إليهم فأصدروا مرسوما يقضى بالعفو العام عن كل الذين تعاونوا مع الفرنسيين وقالوا نصا: كل واحد من أهالى مصر المحروسة من كل ملة كانت، الذى يريد يسافر مع الفرنساوية يكون مطلوق الإرادة وبعد سفره لا تصادر أملاكه، ولا أحد من أهالى مصر يكون قلقا من قبل نفسه ولا من قبل متاعه، جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنسى بمدة إقامة الجمهور بمصر.
هذا العفو لم يفلح فى حالة يعقوب ويوسف الحموى وعبد العال الأغا قائد قوات الأنكشارية الذى طلق زوجته وباع متاعه وسافر مع الفرنسيين ( ليس الأقباط هم الذين تعاونوا فقط ) أخيرا جاءت ساعة الحقيقة وصعد يعقوب إلى الفرقاطة الإنجليزية بالاس وهى السفينة نفسها التى أقلت الجنرال بليار وعددا من جنوده عائدين خائبين إلى فرنسا. وهنا يبدأ الفصل الأخير من مغامرات يعقوب.
مع لاسكاريس
ولد تيودور لاسكاريس فى عام 1774لأسرة من نبلاء إيطاليا وانخرط وشقيق له فى سلك فرسان القديس يوحنا بجزيرة مالطة، التى غزاها نابليون وهو فى طريقه لمصر وانتزعها من أيديهم، صحب تيودور لاسكاريس نابليون إلى مصر، وقد جاء فى مراسلات نابليون أن الأخوين لاسكاريس كانا مصابين بلون من الهوس وشذوذ الأهواء وخاصة تيودور الذى وصل الأمر به إلى حد الجنون لأنه كان صاحب عقل مغرق فى الخيال، وقد قال لاسكاريس لقائد الحملة مينو: إن القدر يهىئ لكل إنسان فى هذا العالم الطريق الذى يسلكه وكثيرا ما أرتفع بنفسى فوق عالم الواقع لكى أخطط لمشروعاتى، وأترك لخيالى أن يذلل كل ما قد يعترضها من عقبات.
على متن السفينة الإنجليزية كان القبطان يميز المعلم يعقوب بنوع خاص من المعاملة، وهو الأمر الذى جعل يعقوب يقول للقبطان: إننى عندما أعتمد فى تحقيق غايتى على الفرنسيين لم أكن أدرك قوة الإنجليز، أما الآن فقد خدعنا الفرنسيون، وأصبح الشعب المصرى يحتقرهم كما يحتقر الأتراك «تلقف لاسكاريس هذه المغازلة وتدخل عقله صاحب المشروعات العجيبة وقال للقبطان إن الجنرال يعقوب إنما يسافر على رأس وفد مصرى اختاره أعيان البلاد ليفاوض الحكومات الأوربية المعنية فى موضوع استقلال مصر». هذا الخيال الجامع يصبح للأسف هو الدليل الوحيد على المساعى التى بذلها يعقوب فى سبيل استقلال مصر عن الحكم التركى!
لاسكاريس كان يمارس هوايته فى إطلاق المشروعات غير القابلة للتحقيق، أما يعقوب فقد كان يكذب، إذ لم يكن ممثلا للمصريين ولم يكن على رأس وفد المطالبة بالاستقلال، يعقوب لم يكن سوى باحث عن مصلحة خاصة تمكنه من الزعامة الشخصية، وسامح الله الدكتور لويس عوض الذى تلقف هذه القصة وجعل من خلالها يعقوب بطلا من أبطال الاستقلال.
قبر من الخمر
عندما كانت السفينة بالاس لاتزال فى عرض البحر أصيب يعقوب بالحمى، ما لبث أن اشتد عليه المرض ومات فى عرض البحر فى 16 أغسطس 1801، وكانت آخر كلماته وهو يحتضر للجنرال بليار أن يدفن مع صديقه ديسيه فى قبر واحد.
ولم يلق قبطان السفينة بجثة يعقوب إلى البحر كالمعتاد فى مثل هذه الحالة، بل استمع إلى رجاء من معه فاحتفظ بالجثة فى دن من الخمر حتى وصلت السفينة إلى مارسيليا وهناك تم دفنها، ليسدل الستار على الفصل الأخير فى حياة يعقوب.
والآن بعد هذا العرض لأبرز ما جاء فى كتاب الدكتور أحمد حسين الصاوى، هل لنا أن نسأل: أين هى تلك الطائفية التى أغضبت البعض من إعادة نشر الكتاب؟
لقد ذكر الدكتور الصاوى كل ما يتعلق بالذين تعاونوا بل وتحالفوا مع الاحتلال ولم يفرق بين مسلم ومسيحى وشن حملة قوية ضد خيانة مراد بك الذى تمتع هو وقومه بخيرات مصر، ثم تحالفوا مع الغازى لأنهم دائما وأبدا كانوا ينظرون إلى مصالحهم الشخصية بعيدا عن مصلحة البلاد التى نعموا بخيراتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق