كان الرجل عجوزا جدا، كأنه ولد قبل تدوين التاريخ، كنت أمر به وأنا فى طريقى للجريدة التى كنت أعمل بها فى ذلك البلد العربى الذى ذاق لعشرات السنوات مرارة الاحتلال الفرنسى، الرجل العجوز لم يبدل يوما من جلسته، أراه دائما بجوار حائط مبنى مهجور، يضع بجواره راديو صغيرا ويضع رأسه بين كفيه بينما شفتاه تمتصان دخان سيجارة، الرجل العجوز يحرك مؤشر الراديو متنقلا بين الإذاعات الناطقة بالفرنسية، يستمع بإنصات غريب عجيب وكأنه يتمنى لو عانق صوت المذيع أو المغنية، أحيانا كان يهز رأسه بعلامات الموافقة وأحيانا كان الأسى يكسو وجهه وهو يلصق أذنه بالراديو وأحيانا كان يطلق ضحكات عصبية مبتورة.
كيف كان هذا الرجل المتوحد مع الإذاعات الفرنسية ينفق على نفسه وهو الذى لا يبرح مجلسه أبدا؟
بجوار الراديو الصغير كان الرجل قد وضع علبة كرتونية صغيرة، يسقط فيها المارة ما يتفضلون به على العجوز من مال أو سجائر!
إذا لاحظ العجوز تجاهل المارة له. خفض صوت الراديو وبسط كفيه وراح يدعو بصوت متحشرج عضه الجوع وافترسه الألم: «اللهم ارحم عبادك واسق بهيمتك» ثم يردف مخاطبا المارة: «الله سيطعمنى ويسقينى كما يطعم الوحوش فى الصحراء».
رقة القلب العربية تدفع المارة إلى إسقاط نقودهم وسجائرهم فى علبة الرجل الكرتونية الذى ما إن يشعر بـ«تحسن أحواله المادية» حتى يعود لرفع صوت الراديو ويروح يهز رأسه فى طرب وهو يتابع ما تبثه الإذاعات.
حالة الرجل حيرتنى، فهيئته لا تدل على ثقافة واسعة تسمح لصاحبها بإتقان الفرنسية لدرجة التوحد مع النشرات والأغانى وباقى المواد الإذاعية، ثم هو ليس عدوانيا وإن كان يبتز المارة شأن كل الشحاذين، كما لا تظهر عليه علامات الجنون المتعارف عليها، إنه فقط يدخن ويستمع إلى الإذاعات الفرنسية.
سألت عنه أحد أصدقائى من أبناء البلد فقال لى: «هذا رجل مسكين إنه مريض».
قلت لصديقى: وهل مكوثه بجوار حائط المبنى المهجور سيدفع بالشفاء إلى عروقه، لابد من أن يذهب إلى المستشفى.
ابتسم صديقى وهو يقول: مرضه لا شفاء منه، فقلبه مصاب بالحنين لزمن الاحتلال.
لا أدرى لماذا قفزت إلى ذهنى هذه القصة البعيدة وأنا أتابع مهرجانات مبايعة الرئيس الأمريكى أميرا للمؤمنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق