الأربعاء، 10 ديسمبر 2025

لا تقنطوا فهذا الليل سينتهي


 

أنظرُ أنا المسلم العربي المصري جنوبًا، لا أشاهد سوى السودان الحبيب الشقيق وهو يتمزق تحت وطأة حرب جنونية، الرابح فيها خاسر، أنظرُ غربًا فلا أجد سوى ليبيا الشقيقة الحبيبة وهى تدفع ثمن الأهواء والتشرذم والفرقة، أذهب ببصري شرقًا فلا أبصر سوى قواعد لا تحمي أحدًا، لا تحمي حتى الذين أنفقوا عليها الغالي النفيس، أذهب ببصري شمالًا فأجد الحبيب الشقيق لبنان العصفوري التكوين وهو ينزف دماء قلبه، ثم أجد أحد جناحي دولة الوحدة ، سوريا الحبيبة الشقيقة والعدو يقصفها مع كل وجبة، أكاد أجن ، ثم أصرخ أما لهذا الليل من آخر؟

أقلب أوراقي القديمة، ليس من باب إضاعة الوقت أو من باب دغدغة المشاعر أو من باب بث الطمأنينة في غرفات القلب الذي تمزقه سياط الحزن على أمتي التي كانت عظيمة مهابة.

أقلب أوراقي القديمة فأجد ورقة تقول: عندما حل العام 1258 كان المغول هم سادة الأرض، لقد أصبحوا أقوى قوة عسكرية عرفتها البشرية، كانوا يقضون على الأخضر واليابس، وأيامها كانت ممالك ودول المسلمين هي الأغنى والأكثر تقدمًا ومدنية وتحضرًا، هجم المغول على كل ما هو إسلامي ، فلم تصمد  أمامهم مملكة أو دولة ، لقد فتكوا  بالدولة  الخوارزمية ثم تمكنوا من كل بلدان الشام وعلى رأسها فلسطين ، ثم قرروا الحصول على الجائزة الكبرى ، إنهم الآن في طريقة إلى عاصمة الدنيا وقلعة الإسلام والعروبة، إنهم ذاهبون إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية التي شكلت عبر قرون إمبراطورية لم تكن الشمس تغيب عنها، أين مصر في تلك الملحمة؟ لقد كانت مصر واقعة أيامها في قبضة خلافات داخلية مهلكة، فكل أمير من أمراء المماليك كان يحارب أخاه!

تقدم هولاكو بجيشه المدمر باتجاه بغداد فحاصرها لأيام قلائل، قبل أن تنهار دفاعتها ويفر حرسها!

هل تعرف وطأة سقوط العاصمة؟

اللهم لا تجربنا، اللهم لا تكتب علينا يومًا كيوم سقوط بغداد.

تضيف أوراقي القديمة: لقد بدأت جيوش المغول في الوصول إلى مشارف العاصمة بغداد في اليوم التاسع والعشرين من شهر يناير من العام 1258 (احتفظ بالتاريخ فسنعود إليه) وفي صباح العاشر من فبراير من العام ذاته تم للمغول ما أرادوا، لقد أهلكوا العاصمة وقتلوا الخليفة ودمروا كل شيء، حتى الكتب التي هي كتب قاموا بتدميرها، لقد قضوا على كل معالم الحضارة التي حكمت العالم لقرون.

كل الجناح الآسيوي من العالم الإسلامي هو الآن في قبضة المغول، لقد حقق هولاكو فوق ما كان يحلم به، سيعود الآن إلى بلاده قائدًا منتصرًا فذًا، لقد قضى على إمبراطورية المسلمين والعرب.

لا، يا صاحبي، ما تزال درة التاج بعيدة عن يديه، وما درة التاج سوى مصر، لو أخذ مصر فيحصل مجانًا على كل إفريقيا ولن تقف في وجهه قوة، مصر هي رمانة الميزان، وهي الكتلة الصلبة الصلدة التي لو فتتها فسينتهي كل شيء مرة واحدة وإلى الأبد.

تعالوا نسترجع تاريخ سقوط بغداد، لقد سقطت في العام 1258، لقد ضرب الوجع قلب كل عربي ومسلم، ولكنها كانت ضربة الصحو والاستفاقة، فبعد صراع مرير توحدت مصر تحت قيادة القائد الفذ سيف الدين قطز الذي تمكن من توحيد صفوف المماليك وضم إليه أشدهم في القتال وعلى رأس هؤلاء القائد التاريخي الظاهر بيبرس.

لقد أمعن القادة المصريون النظر في خارطة المعارك، المغول لم يعدوا إلى بلادهم منتصرين غالبين، لقد تمركزوا على بعد حجر من مصر، قواتهم المتقدمة وقاعدتهم المركزية في قلب فلسطين، هم يريدون مصر لا شك في ذلك.

الصحوة جعلت قطز والذين معه، يستعدون على أكمل وجه ممكن لمعركة فاصلة، نحن الآن في العام 1260، لقد مر عامان فقط على نكبة اقتلاع الخلافة وقتل الخليفة وتدمير العاصمة بغداد، مر عامان فقط، وكان المغول يقدرون أن العرب والمسلمين لن تقوم لهم قائمة إلا بعد مئة سنة على أقل تقدير، ولكن " ليس سوى أن تريد" لقد أراد المصريون القضاء على تلك الهمجية الجنونية التي تدمر كل شيء وتبيد كل شيء ولا تحترم معنى أو قيمة.

ترى كيف كانت مشاعر الجيش وقياداته؟

إنه جيش شاهد بعينيه عاصمة خلافته وهي تدمر، وشاهد الخليفة وهو يقتل وشاهد كنوز الحضارة وهي تباد.

إنه جيش ذاهب إلى معركة صفرية، نكون أو لا نكون، للأسف لا تتحدث أوراقي القديمة عن الأحاسيس أو المشاعر، ولكني أجزم الآن أن الخوف لم يكن يعرف طريقًا لقلوب هؤلاء السادة.

تقدم جيشنا العظيم حتى وصل إلى سهل عين جالوت الواقع بين بيسان ونابلس، لقد ذهب الجيش إلى قاعدة المغول المركزية، وفي صباح يوم الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك من العام 658 هجرية الموافق للثالث من سبتمبر من العام الميلادي 1260، جرت ملحمة عين جالوت.

في عامين فقط وبعد قاصمة الظهر في بغداد، عاد الأسد ليصول ويجول، لقد عاد العملاق ليقضي على الهمجية، قاتل الجيشان أشد القتال، جيش العدو كانت يدرك أنها الفاصلة، وجيشنا العظيم كان يبحث عن إحدى الحسنيين، نصر أو شهادة، تواصل القتال المر إلى أن تقدم بطل من أبطال جيشنا هو القائد الأمير جمال الدين آقوش الشمسي، وبضربة واحدة أسقط رأس قائد جيوش العدو، لقد قتل كتبغا، وبقتله لاحت تباشير الصباح وانتهى الليل الطويل الثقيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة السبت 27 سبتمبر 2025 

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2025

بيت جن تعيد مجد رأس العش

 

فجر يوم الجمعة 28 نوفمبر 2025، قرر جيش الكيان مواصلة إذلال ريف دمشق، وتحديدًا قرية تدعى " بيت جن " وهي تقع على بعد خمسة وخمسين كيلو غرب العاصمة دمشق، كان في حساباته أنها ستكون جولة كسابقتها، يقتحم ويعتقل ويقتل وينسف بيوتًا أو ما بقي من مواقع ثم يغادر في أمان مطلق لا تُمس منه شعرة بسوء.

ليلة الأول من يونيو 1967 جيش الكيان ذاته يتقدم بقوة ميكانيكية كبيرة

مكونة من الدبابات سنتوريون وكانت الأشد فتكًا في زمانها إضافة إلى ناقلات جنود نصف مجنزرة، إضافة إلى عدد كبير من المحاربين، يريد احتلال مدينة بور فؤاد، بادئًا من منطقة رأس العش.

كانت قد مر أقل من شهر  على  واقعة قاصمة الظهر (خمسة يونيو 1967)

معنويات الكيان كانت تحلق عاليًا تحت شعار الجيش الذي لا يقهر، ولا تسل عن معنوياتنا نحن.

ماذا حدث في الليلتين التاريخيتين.

في الليلة الأحدث وهي الليلة السورية، تقدم جيش الكيان مستهدفًا اعتقال جماعة قال إنهم ينتمون لفصيل ضد الاحتلال!

جاء أمر الله من حيث لا يحتسب جيش الكيان، فجأة هب سكان القرية، سكان مدنيون وليسوا فصائل مسلحة ومدربة، إنها ساعة الفجر حيث معجزة ميلاد يوم جديد، وحيث بركة قرآن الفجر وسر التسابيح، حاصر الأهالي بما تيسر لهم من سلاح خفيف، قوات الاحتلال، وأمطروها بوابل من الرصاص، ارتبكت القوة، فهذه هي المرة الأولى ( لن تكون الأخيرة بإذن الله) التي يقعون فيها في فخ محكم، بعد الارتباك جاء التبعثر، بعد التبعثر جاء الفرار، لقد فقدوا مدرعة وأصيب منهم ثمانية، جراح ثلاثة منهم خطيرة جدًا، بعد الفرار استغاثوا بيدهم الباطشة، تضرعوا لطيرانهم، الذي راح يقصف كل جسد يتحرك، فقتل خمسة من أسرة واحدة، ثم قتل ثمانية، كانوا يعبرون الشارع، وهدموا ما  طالته قنابلهم من بيوت، وعندما هدأت الساحة، جلسوا لإعادة الحسابات ، أهالي يقاتلوننا، ثم ينتصرون علينا ويجبروننا على الفرار، نعم قصفناهم ودمرنا بيوتهم، ولكن ماذا سيكون حالنا لو امتلكوا منظومة دفاع جوي؟

أما في الليلة المباركة، أعني ليلة الأول من يوليو من العام 1967 فقد كانت بداية الملاحم وفاتحة الأمجاد ، عند رأس العش كانت تعسكر قوة صغيرة من الصاعقة المصرية، بحثت عن العدد فلم أجد حصرًا دقيقًا، ولكن وجدت أن معظم المصادر قدرت عدد القوة ما بين ثلاثين إلى ستين مجاهدًا، لم يكن بين أيدي أبطالنا سوى الأسلحة الخفيفة المضادة للدروع (آر بي جي وبنادق آلية). العدو واضح حد الوقاحة، هو يريد احتلال بور فؤاد وفصلها عن الجسد المصري، أبطالنا تبادلوا النظرات، ثم بايعوا قائدهم على الموت، سنقاتل حتى آخر طلقة وحتى آخر رصاصة.

أن تموت رجلًا مقبلًا غير مدبر، فهذا معنى لا يفقهه سوى الرجال، أبطالنا احتسبوا أنفسهم شهداء، وما النصر إلا صبر ساعة، وما الشهادة إلا رصاصة واحدة تخترق الجسد.

تقدم العدو مسلحًا بدباباته ومجنزراته، أعد أبطالنا الكمين وأحسنوا الإعداد، تركوا العدو يتقدم حتى أصبح في مرمى نيرانهم، صوب بطل الطلقة الأولى ففجر الدبابة الأولى، آه من هذه اللحظة، إنها فاتحة المجد، دبابة يصطادها جندي مصري هزم من خمسة وعشرين يومًا، ما الذي حدث، هل تبدل المصريون بين ليلة وضحاها؟

سيطر العدو على ارتباكه، وبدأ الاشتباك الجنوني، أجساد مصرية تقابل الدبابة المتوحشة، إنها وحش من حديد لا تعرف معنى الوطن ولا تعرف معنى الرجولة والشهامة والشهادة.

تواصل الاشتباك حتى صباح الثاني من يوليو، لم تنجدهم اليد الباطشة، لقد خافوا من كمين جوي يسقط طيرانهم، عرفوا أن المصريين لن يكفوا عن القتال، خسروا ثلاث دبابات كما قالت بعض المصادر، بينما قالت مصادر أخرى لقد خسروا ست دبابات، خسروا ضباطًا وجنودًا.

ما الذي حدث في الليلتين المباركتين؟

لم يحدث شيء، لقد حدث الذي يحدث دائمًا، " سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا".

عندما تقرر المقاومة وترضى بدفع ثمنها فلا تنتظر إلا النصر ولو طال الزمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر بجريدة صوت الأمة السبت

الموافق 6 ديسمبر 2025