الاثنين، 14 أكتوبر 2024

المقاومة كائن لا يقبل الهزيمة


المقاومة تهزم فى حالتين الأولى أن تلقى هى سلاحها وتعلن استسلامها والحالة الثانية عندما تنقلب بيئتها الحاضنة عليها

 

بعد الضربات القاسية، التى تلقتها المقاومة فى الأسبوعين الماضيين، خاصة على الساحة اللبنانية، يضع جمهور المقاومة يديه على قلبه، خوفًا من هزيمة ساحقة ماحقة، لا تقوم للمقاومين بعدها قائمة.

سطورى القادمة، ليست من باب بث الاطمئنان فى قلب الجمهور العريض المنتشر بين أرجاء العالم، وليست تسويقًا لأوهام، هى فقط محاولة منى  لبسط وجهة نظرى فى الأمر العام للمقاومة بعيدًا عن أمور الميدان الدقيقة التى نجهلها بطبيعة الحال.

بداية أقول: المقاومة كائن حى غير قابل للهزيمة، وذلك لأن المقاومة فى  طينتها الأولى التى منها خلقت، هى فكرة، ولا نعرف، ولن نعرف فكرة هزمت، فالأفكار راسخة، لا تتعرض جذورها للاقتلاع، أيًا كانت قوة العدو.

ثم المقاومة متجذرة فى النفوس، حتى أصبح لها حال كحال الاحتياجات البيولوجية، فكأنها الأكل والشرب والتنفس، فلا نعرف بشرا، ولن نعرف، ترك بالكلية الأكل والشرب والتنفس إلا إذا كان يريد الموت والانتهاء.

 

المقاومة تهزم فى حالتين اثنتين لا ثالث لهما، الأولى، أن تلقى هى سلاحها، وتعلن استسلامها، وتخرج رافعة رايات الانكسار والتراجع عن فكرتها.

 

الحالة الثانية والأخيرة، تكون عندما تنقلب بيئتها الحاضنة عليها، وتقوم بلفظها والامتناع عن دعمها، ساعتها تنهزم المقاومة.

هل وقع غبار الحالتين أو إحداهما على المقاومة العربية فى فلسطين أو لبنان؟

هل استسلمت المقاومة العربية، ورفعت رايات الانكسار والتراجع؟

هل لفظتها بيئتها الحاضنة، ورأينا مئات الآلاف، يتدفقون إلى الشوارع هاتفين ضد المقاومة ومستنكرين دورها؟

لم يقع شىء من هذا إلا فى أمنيات العدو وخيالاته وأحلامه وأوهامه.

المقاومة لم تلق سلاحها، وبيئتها الحاضنة لا تزال مع عظم التضحيات، تقدم لها كل دعم ممكن.

كل ما لحق بالمقاومة من ضربات، هو تفاصيل عابرة فى  جسد عملاق، فكل مقاومة، تلحق بها الضربات القاسية، لقد قدمت المقاومة العربية فى  الجزائر ما يربو على المليون ونصف المليون مواطن، لكى تحصد الانتصار الواضح، الذى لا لبس فيه، ولكى تحصل فى النهاية على بلدها الحر المستقل، وفى حالتنا المصرية، لا يعرف أحد على وجه القطع واليقين عدد الشهداء والمصابين الذين ارتقوا إثر مقاومتنا لغزوة نابليون بونابرت، ثم مقاومتنا لاحتلال إنجليزى تمدد حتى وصل إلى عامه السبعين، ثم معاركنا مع عدو يتربص بنا، ويقف على حدودنا الشرقية متسلحا بالنووى، يقينا خسرنا الكثير من المدن والحجر والبشر، ولكننا فى النهاية ربحنا حريتنا وكرامتنا وإنسانيتا.

ما الإنسان بدون كرامة؟

الضربات القاسية تؤلم، ولكنها لا تميت، لقد صعد على خط النيران الجنرال الذهبى الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان جيشنا، فما الذى حدث؟

لقد احتضنته أمه مصر، وواصلت جهادها، وكالت للعدو ضربات فى غاية القوة، ولم ينكسر الجيش المصرى العظيم، بل واصل القتال فى أيام حرب الاستنزاف، ولم يرتح حتى اقتحم قناة السويس أعظم مانع مائى ودك أحصن نقاط خط بارليف، صنعنا هذا بعيد رحيل قائدنا العظيم عبدالمنعم رياض، وفى قلب أيام معركة العبور، فقدنا نخبة من أعظم ضباطنا، كان على رأسهم بطلنا الأسطورى الشهيد إبراهيم الرفاعى، الذى ذهب للقاء ربه شهيدا يوم التاسع عشر من أكتوبر من العام 1973، يعنى فى اليوم الثالث عشر من بدء المعركة، فماذا حدث؟

 

لقد واصل جيشنا وأمتنا القتال حتى كتب الله لنا النصر.

والأمر كما ترى ببساطة، فمتى تنتصر المقاومة؟

هناك يجب تحديد ما هو الانتصار؟

فإن كان الانتصار هو مجرد الصمود، فالمقاومة انتصرت، وستنتصر لأنها لم تستسلم، ولن تستسلم، ولم ولن تنقلب عليها بيئتها الحاضنة.

وإن كان الانتصار هو تفشيل أهداف العدو الاستراتيجية، التى أعلن عنها بوصفها الأهداف، التى يسعى لتحقيقها، فالمقاومة قد انتصرت، فحتى ساعة كتابتى لهذه السطور، لم يحقق العدو هدفا واحدا، أما إن كان الانتصار هو تحرير الأرض، التى يغتصبها العدو من ثمانين عامًا، فالمقاومة لن تنتصر إلا بشرط واحد، وهو وجود دعم حقيقى مؤثر على مجريات الميدان، وللأسف لم تحصل بعدُ مقاومتنا العربية على هذا الداعم، الذى يدفع إلى شرايينها بدماء جديدة، ويريح أعصابها المتوترة على مدار الساعة، لكى تعيد ترتيب أوراقها، ولكن من يدرى، فالأيام حبلى بكل جديد وغريب وعجيب.

ــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة / السبت 05 أكتوبر 2024

 

 

عن القشاوي الذي لا يحب المبالغة ولا البهلوانية

 


أعرف الكاتب الأستاذ مجدي القشاوي منذ عشرات السنين، أعرفه هادئًا ومبتسمًا، جادًا وملتزمًا طويل السكوت، قليل الكلام، كثير القراءة والتأمل، ولكن ما عرفته كاتبًا إلا بعد صدور مجموعته القصصية الأولى "شروط الوردة" عن دار العين للنشر قبل أيام قلائل.

كنت أقول لنفسي وأنا انتهي من قراءة قصة من قصص المجموعة: لماذا تأخر القشاوي في النشر؟

عرفت حادثة أراها مأساوية تدل على مكانة الكتابة في قلب وعقل القشاوي.

لقد أنجز منذ سنوات مجموعتين وقدمهما لكاتب شهير راحل، وأعجبتا الكاتب الذي قدمهما لدار نشر لها اسمها ووزنها، ثم تأخرت الدار في نشر المجموعتين، وبعد سؤال وبحث قالت الدار: "نعتذر لقد ضاعت المجموعتان".

هذا خبر يهد جبل، ولكن هنا تظهر قيمة الكتابة عند القشاوي، لقد نظر إلى الأمر بوصفه بشارة خير!

سيبدأ الرحلة من أولها محتشدًا مقدرًا لوعثاء الطريق ومشاق السفر، وقد كان له ما أراد وظهرت مجموعته التي تؤكد على موهبته التي أفرج عنها أخيرًا ليكون عند حسن ظن الذي يعرفون ثقافته العريضة التي لا تقف عند حدود الآداب بل تتجاوزها للفنون التشكيلية والموسيقى.

ضربة البداية التي نفذها القشاوي باقتدار أوحت بعالم المجموعة كلها، ضربة البداية جاءت تحت عنوان "ينسحبون من الحلم" قصة لا تحكي عن شيء اللهم إلا الأحلام، وتلك الأحلام هي دم طازج أحيانًا متخثر في أحيان أخرى، ولكنه دم يسري في عروق وشرايين المجموعة كلها ويهيمن عليها.

بطل القصة يعاني من وحدة مكتملة، يرى في منامه فتاة عشرينية فارعة كنخلة، تلبس قميصًا أبيض، وبجوارها نسوة يلبس جلابين ويغيطن رؤوسهن بأغطية سوداء، واحدة من النساء تحمل رضيعًا عاريًا، تمرره من فتحة قميص الفتاة ثم تلقفه من تحتها، تفعل ذلك عدة مرات، يتذكر بطل القصة أن أمه كانت قد شرحت له هذا الطقس الذي هو تميمة ضد الموت، بشرط ان تكون الفتاة بكرا وتلبس الأبيض!

ينصرف البطل إلى شئون حياته، ثم تتوق نفسه لرؤية البحر، صعد إلى سيارته، عازمًا الذهاب إلى البحر ليتخلص من الأرقام والأحلام التي تطارده، في طريقه قابله عجوز يعتمد على عكاز، طلب منه أن يحمله إلى البحر.

أنا القارئ أسأل: هل هناك عجوز يعتمد على عكاز أم هي حيلة فنية من القشاوي ليقول على لسان العجوز ما يريد هو أن يقله؟

يعزز احتمال وجود صوت الكاتب، إن لغة القشاوي في نقل كلام العجوز مختلفة كل الاختلاف عن لغته في بقية قصص المجموعة، العجوز له لغة خاصة تلامس بل تشتبك مع لغة الشعر، العجوز كأنه معلم يلقي وصاياه الأخيرة.

ثم ما هي العلاقة التي ربطت بين بطل القصة وعجوزها؟

لا علاقة، اللهم هذا اللقاء العابر، فكيف حدثه البطل عن حبيبته: "وكيف أنها ملتبسة تأتي كنهر وتروح كأرض متشققة، كأنها نبي رسالتها اصطحاب المؤمنين إلى أطراف المشاعر، الاطمئنان حتى الموت، والخوف حتى يقظة تبلغ بالعين اتساعها الأقصى".

هذا كلام ثمين جدًا لا يلقى على عجوز عابر سبيل يعتمد على عكاز!

يراوغنا بطل القصة عندما يقول: "لا أعرف إن كان هو من قال لي؟".

 

البطل ليس متأكدًا من مصدر الكلام القاسي الصعب الذي سينقله بعد قليل!

اسمع معي هذا الصوت ثم احكم أنت: "قلل قدر ما تستطيع من صدقاتك، من نساء يفيض صدرك لهن بالوجد، لا تتزوج، وإن فعلت فلا تنجب، احرص على ألا تعرف أسماء زملاء عملك، اشتر البقالة والفاكهة من باعة مختلفين، لا تحفظ وجوه عمال المخابز إياك والإعجاب بضحكة طفل الجيران، حاذر من الاندماج مع بطل أحببته في فيلم، قم في المنتصف، اصنع البطاطس، لا ترب كلبًا ولا قطة و..".

ما كل هذا الموت، ما كل هذه الوحشة والوحدة، بل ما كل هذا الجنون؟

العجوز إن كان في الأمر عجوز لا يوصي إلا بخراب وبتخريب كاملين تامين.

إن أطاع بطل القصة رجل الأرقام وصايا العجوز الذي يعتمد على عكاز فماذا سيربح؟

 

يقول العجوز: "سيقل عدد الموتى الذين ترى موتهم، سيقل عدد من ينسحبون من عينيك، ستهرب من أصماغ يتركها وراءهم الراحلون، وتنغرس فيها أقدامنا وأرواحنا، ولا نخرج منها أبدًا".

كل علامات التعجب لا تكفي لإظهار تعجبنا من وصايا كهذي.

هذه الأحلام والألعاب والحيل يعتمدها القشاوي أعمدة راسخة يقوم عليها بناء مجموعته التي تفسح المجال لأبطالها فلكلٍ وجهة هو موليها، فرابحة زوجة الصول عمر في قصة "الشجر المغني" لا تسمع من أشجار السرح عندما يداعبها الريح سوى عديد الجنائز!

بينما زوجها الصول عمر وابنها سالم يسمعان غناء الأشجار لا عويلها ولا عديدها.

القشاوي كأنه من قضاة العدل يقف على مسافة واحدة من أبطال مجموعته، ويترك لهم حرية التعبير عن دواخلهم، هو طبعًا لا يكرههم ولا يدينهم، ولكنه لا يتورط في محبتهم والانحياز لهم، هذا الحياد أو العدل، جعل القشاوي يتمكن من الدخول إلى حالة "التقمص" إنه يتقمص شخصيات أبطال وبطلات قصصه، فكأنه هم، وكأنهم هو.

تقمص القشاوي جعله يسافر مع بطله إلى "تشاد" لنصاب نحن والكاتب والبطل بالملاريا.

في قصة بعنوان "تجاه البحر" أفلتت جملة تلخص الأمر كله، قال بطل القصة يصف حاله: "لا أحب المبالغة ولا البهلوانية بأي درجة".

ولأن كل إنسان يعرف صاحبه، فأنا أعرف صاحبي، ذلكم هو مجدي القشاوي الذي لا يحب المبالغة ولا البهلوانية بأي درجة.

انتظر مع المنتظرين مجموعة القشاوي القادمة "فتاة تقف في إطار مستطيل" لتكون مع شقيقتها المنشورة خير تعويض عن المجموعتين الضائعتين.

ــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة / السبت 12 أكتوبر 2024

 


الثلاثاء، 30 يوليو 2024

عن الوباء الذي أشعل ثورة


 

ولد الأستاذ الدكتور محمد أبو الغار بشبين الكوم بمحافظة المنوفية في العام 1940.

والدكتور أبو الغار هو اسم مقدر على أكثر من ساحة، فهو أستاذ طب النساء والتوليد بجامعة القاهرة، وله في مجال تخصصه الطبي فتوحات، وعلى الساحة السياسية هو مؤسس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وعلى ساحة الكتابة صدر له أكثر من كتاب، وقد حظيت مؤلفاته بالقبول من جماهير القراء، وعلى رأس مؤلفاته سيرته الذاتية الرائقة التي نشرها تحت عنوان " على هامش الرحلة " إضافة إلى كتاب" يهود مصر من الازدهار إلى الشتات" و"أمريكا وثورة 1919 سراب وعد ويلسون".

وبين أيدينا الآن أحدث مؤلفات الدكتور أبو الغار" الوباء الذي قتل 180 ألف مصري " الصادر عن دار الشروق.

مئوية حزينة

في العام الماضي حلت الذكرى المئوية الأولى لثورتنا المصرية ثورة 1919، وقد رأى الدكتور أبو الغار أن يشارك في الاحتفال على طريقته الخاصة فأصدر كتابيه" أمريكا وثورة 1919" و " الوباء الذي قتل 180 ألف مصري"

وذلك الوباء نعرفه باسم الإنفلونزا الإسبانية، وفي سبيل إنجاز كتابه خاض أبو الغار رحلة شاقة ليكشف لنا عن حقائق تجاهلها التاريخ!

قبل الثورة بعام كان أصحاب البصائر يدركون أن المصريين في طريقهم للثورة ليس على الاحتلال البريطاني فحسب، بل على كل جوانب حياتهم خاصة الجانب الاجتماعي، فقد قدم المصريون الكثير وعند إحصاء أرباحهم وجدوا بين أيديهم صفرًا لا يسمن ولا يغني من جوع.

في ذلك العام بدأ الفيروس ينتشر بين ربوع العالم الذي كان تعداده وقتها لا يتجاوز ملياري نسمة.

ولكي نتأكد من خطورة الفيروس علينا أن نعرف أنه تسبب بطريقة مباشرة في قتل مئة مليون إنسان!

كانت أوربا قد فرضت حربها الأولى المعروفة باسم الحرب العالمية الأولى، على البشرية، وكان سعد باشا زغلول ورفاقه يحاولوا الحصول على استقلال مصر، وكان فلاحو مصر نسيًا منسيًا لا يهتم بهم أحد.

من تلك النقطة المركزية أنطلق الدكتور أبو الغار ليكتب كتابه الذي كان في أصله الأول مجرد دراسة صغيرة عن الإنفلونزا الإسبانية ولكن المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق عرض على أبي الغار تحويل الدراسة إلى كتاب يكشف خبايا ذلك الوباء، وقد تحمس الناشر الكبير إبراهيم المعلم لنشر الكتاب بعد أن يضع أبو الغار كلمة النهاية.

كانت مئوية ثورة 1919 قوسين من الحزن يضمان انفلونزا إسبانيا وكورونا مجهول النشأة والمصير، بين القوسين كتب أبو الغار، ولكن كيف بدأ البحث؟

ذهب ينشد المعرفة عند المؤرخ الكبير الأستاذ عبد الرحمن الرافعي فلم يجد لديه ولو كلمات عن وباء قتل 180 ألف مصري.

ترك الرافعي وذهب إلى صاحب الحوليات أحمد شفيق باشا فلم يجد لديه شيئًا.

قرأ كتابات المؤرخين المعاصرين فلم يجد لديهم شيئًا.

أخيرًا وجد سطرًا واحدًا لدى الشيخ الأستاذ عبد الوهاب النجار وضعه في مذكراته عن الثورة التي نشرها تحت عنوان" الأيام الحمراء "

جاء في سطر الشيخ النجار:" وقد ساءت الأحوال الصحية في البلاد، بانتشار حمى غريبة قاسية أشبه بالوباء الفتاك سميت بالحمى الإسبانية، وفتكت هذه الحمى بالعدد العديد من الناس".

ليس من العقل أن يٌقام كتاب على سطر، ولكنه سبحانه وتعالى يهدي الجادين إلى سبل الرشاد، فقد قرأ أبو الغار بحثًا لأستاذ بجامعة تكساس الأمريكية هو دكتور كريستوفر روز، الذي كتب عن تأثير الوباء على مصر وكيف تسبب في مقتل آلاف المصريين، وعن أثره السياسي والاقتصادي.

هكذا وضع أبو الغار يده على المادة الأولى لكتابه فواصل البحث وفي ذهنه نقطة لا أظن أن أحدًا قد سبقه إليها.

من البداية وأبو الغار يربط بين اندلاع الثورة وبين حصد الانفلونزا لأرواح آلاف المصريين، وقد وقع على كنز ثمين عندما عرف أن الفلاحين المصريين قد تم تجنديهم عنوة في فيالق العمال لمساعدة المحتل البريطاني في حربه، وتلك الفيالق ستكون صيدًا سهلًا للأنفلونزا الإسبانية.

ما أشبه الليلة بالبارحة

مصر ومعها العالم الآن تحت قبضة كورونا، ومصر والعالم قبل مئة عام كانوا تحت قبضة انفلونزا الإسبان، وفي الحالتين وقف الطب عاجزًا عن توفير علاج ناجع، ووقف الموت يرفرف بجناحيه الأسودين فوق الرؤوس.

واصل أبو الغار بحثه ليفضح تهافت منظومتنا التاريخية، فالتاريخ عندنا هو تاريخ الحكام والطبقة الحاكمة ثم لا شيء بعدها.

كل الوثائق الخاصة بنا نحن، وجدها أبو الغار ولكن في جامعة تكساس التي تمتلك وثائق الصحة العمومية للسنوات من 1914 حتى 1927 كاملة ومفصلة بدقة شديدة ومكتوبة باللغة الإنجليزية، لأن الاطباء والمسئولين في ذلك الوقت كانوا كلهم من الإنجليز.

يقول الدكتور أبو الغار: وجدت عندهم أيضًا نسخة من التقرير العام للدكتور ويلسون الذي قدمه إلى لورد ملنر وزير المستعمرات البريطاني الذي حضر إلى مصر وأقام عدة أشهر للتحقيق في أسباب ثورة 1919، ومعرفة الأخطاء التي وقع فيها نظام الحكم البريطاني، والنسخة الأصلية من التقرير محفوظة في دار الوثائق البريطانية ومعظم الباحثين رجعوا إلى أجزاء منها، وقد تفضل دكتور روز بإرسال كل هذه الوثائق من مئات الصفحات إلىّ.

الأمريكان والإنجليز يعرفون عنا ما لا نعرفه عن أنفسنا، أليس هذا من العجيب المريب؟

أشعر بأن أبا الغار كاد يجن من التجاهل الرسمي لكارثة قصمت ظهر البلاد، فراح يبحث في كل مكان عن معلومات عن الكارثة فكانت المفاجأة، لقد وجد تغطية شبه يومية في جريدتي الأهرام والمقطم لوقائع الوباء!

هذا يعني أن المعلومات الأساسية كانت موجودة ومنشورة فكيف لم يلتفت لذلك مؤرخ قديم أو معاصر؟

بعد أن أمتلك أبو الغار مادة كتابه بدأ باستعراض تاريخ الأوبئة في البلدان والأديان حتى وصل إلى الروايات العربية والغربية، ومن العجيب أن رواية غربية كتبتها الروائية الكندية مارجريت آتوود ونشرتها في العام 2009 تحت عنوان" عام الطوفان " كانت تدور حول انتشار وباء خبيث في الهواء!

هل كرونا الذي لم نعرفه إلا في النصف الأول من عامنا هذا يفعل شيئًا غير الانتشار في الهواء؟

براءة إسبانيا

الوثائق التي حصل عليها أبو الغار تؤكد أن إسبانيا لم تكن بلد منشأ الوباء، وثمة ترجيحات أن بلد المنشأ هى الولايات المتحدة الأمريكية التي أنطلق منها الوباء ليطوق العالم، وقد قدر بعض العلماء الخسائر البشرية بمئة مليون قتيل، وبعض العلماء يهبط بالرقم إلى خمسين مليون قتيل!

لماذا حملت الإنفلونزا اسم إسبانيا؟

يقول أبو الغار: كان زمن ظهور الانفلونزا هو زمن الحرب العالمية الأولى التي دارت رحاها بين بريطانيا وحلفائها والمانيا وحلفائها، فمنعت المخابرات البريطانية والألمانية وسائل الإعلام من نشر أي معلومات عن الأنفلونزا وضحاياها خوفًا من التأثير على الروح المعنوية للجنود ولما كانت إسبانيا على الحياد في أثناء الحرب فقد نشرت الصحف الإسبانية المعلومات عن الوباء في كل مكان بدقة ونقل عنها العالم ومن ثَمّ أطلق عليها الأنفلونزا الإسبانية.

كان الوباء مثل وباء كرونا يهاجم سكان القصور والأكواخ، وإن كانت حالات الموت بين سكان الأكواخ هى الأكثر بطبيعة الحال.

هاجمت الانفلونزا الإسبانية كل من الرئيس الأمريكي ويلسون ورئيس وزراء بريطانيا لويد جورج، وفرانكلين روزفلت الذي كان وقتها نائبًا لوزير البحرية الأمريكية، ومع هؤلاء هاجمت الزعيم الهندي غاندي وملكة الدنمارك وملك إسبانيا وإمبراطور إثيوبيا هيلا سلاسي.

أما في مصر فقتلت الانفلونزا الإسبانية الكاتبة الكبيرة ملك حنفي ناصف والأمير عبد القادر ابن الخديوي عباس حلمي الثاني، ولبيب عبد النور شقيق الزعيم الوفدي الشهير فخري عبد النور، ومن مصر إلى الجزيرة العربية حيث حصد الوباء روح تركي بن عبد العزيز آل سعود وكان وليًا لعهد والده مؤسس المملكة العربية السعودية.

اختصارًا لم ينج مكان من الكرة الأرضية من الوباء وثمة مشاهد نقلها الدكتور أبو الغار تهون بجوارها مشاهد وباء كورونا، فالمصابون في أمريكا تحديدًا كانوا يموتون في الطرقات وهكذا كان الحال في إفريقيا وقطاعات واسعة من أوروبا، ومما زاد الطين بلة عدم وجود علاج سوى المسكنات وحتى هذه لم تكن متوفرة إلا لعدد ضئيل جدًا من البشر، فالمصاب كان يعتمد على مقاومته الذاتية التي متى خارت ذهب إلى الموت.

ومن العجيب الذي سجله الدكتور أبو الغار أن التعليمات الطبية والإجراءات الاحترازية كانت كما هى الآن، فهناك تشديد على التباعد الاجتماعي الذي بفضله تقلصت الإصابات في ولاية نيويورك، وهناك خوف من مخالطة المصاب، الأمر الوحيد الذي طرأ على الإجراءات هو ضرورة استخدام الكمامة فلم تكن قد ظهرت بعد!

شرارة الثورة

جاءت الحرب الأوربية الأولى، المعروفة باسم الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لمصر ناقة فيها ولا جمل، ولكن مصر كانت واقعة في قبضة الاحتلال البريطاني الذي عمل على تكوين فيلق من الفلاحين المصريين للانخراط في الحرب بمساعدة العمال، ما علاقة فلاحيّ مضر بفنون القتال الحديثة؟

كان تكوين ذلك الفيلق بالتراضي أول أمره ولكن سرعان ما حلت السخرة محل التراضي ، ولا يعرف غير الله كم قتل من فلاحي بلادنا فداءً للمحتل الغاصب، هرب الفلاحون من قراهم فبارت الأرض وعزت اليد العاملة وراحت الأسعار ترتفع بجنون فالأسرة الريفية التي كانت تعيش بتكاليف تبلغ 109 قرشًا في الشهر أصبحت مطالبة بتوفير 192 قرشًا، وهذا فارق جنوني بأسعار قبل مئة عام، ثم قام المحتل بالاستيلاء على ثروة مصر الحيوانية وخصوصًا الجمال التي كانت عماد حركة نقل البضائع وأصبح الجمل الواحد بعشرين جنيهًا، هنا ، أعني في العام 1918 بدأ السخط يعم الفلاحين المصريين وبدأت شرارة ثورة 1919 خاصة وقد نزل وباء الانفلونزا الإسبانية أرض مصر.

في مايو من العام 1918 ظهر الوباء في الإسكندرية قادمًا من أوربا عبر حركة الملاحة، ثم ظهر في بورسعيد بالسبب ذاته، وفي أكتوبر من العام نفسه أي في خمسة أشهر فقط انتشر الوباء في كل مصر، حتى وصل إلى الصحراء الشرقية في ديسمبر من العام 1918

طبعًا لن يتحدث أحد عن الرعاية الصحية فقد كان هناك طبيب واحد لكل مئة ألف مصري!

وغياب الرعاية الطبية هو الذي جعل مصر تفقد واحد بالمئة من عدد سكانها في خلال ثلاثة أشهر فقط كانت هي الموجة الأولى للوباء والنسبة تعادل 180 ألف مصري!

وبعد الموجة الأولى جاءت الموجتان الثانية والثالثة فحصدتا المزيد من الأرواح فضاقت الصدور بكل هذا العذاب وتضافرت العوامل لتندلع الثورة التي عمت أرجاء مصر وقد قدم الشعب خلالها دماء عشرات الآلاف من رجاله وشبابه ونسائه في ملحمة جبارة أراد بها الخلاص من الاحتلال ومن الظلم الاجتماعي.

إن كتاب الدكتور محمد أبو الغار هو درس بليغ لعبيد الاحتلال الذين يتباكون على زمنه ويقولون إن مصر في أيامه كانت جنة الله على أرضه، فليت أحدهم يقرأ فيحكم فيعدل.

ــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات 24 أكتوبر 2020

 

 

 

 

 

 

 

الخميس، 18 يوليو 2024

عبد الله عنان ... مؤرخ الأمجاد والنكبات

 



يعد آل عنان من أشهر وأعرق العائلات المصرية، فنسبهم يصل إلى الفاروق عمر بن الخطاب، ولذا نجدهم حريصين على ختم نسبهم بلقب العمري.

وقد اشتهرت تلك العائلة بتحصيل العلم والانتماء إلى الطرق الصوفية، وقد كتب عن أعلام العائلة القطب الصوفي عبد الوهاب الشعراني.

لتلك العائلة ينتسب مؤرخنا الفذ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن عرفة العناني العمري، المولود في السابع من شهر يوليو من العام 1896، ومن حسن حظنا أن مؤرخنا قد كتب مذكراته تحت عنوان " ثلثا قرن من الزمان " ونشرها كتاب الهلال قبل ثلاثين عامًا، وكل ما سأكتبه سيكون نقلًا عن سيرة المؤرخ الذاتية.

الأم العظيمة

ولد عنان بقرية بشلا التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية.

كان أبوه حاصلًا على الشهادة الابتدائية، وكانت شهادة مرموقة في ذلك الزمان، وكان أشقاء الأب من المنتسبين للأزهر الشريف، كانت أم عنان أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولكن حرصها على أن يتعلم ولدها أرقى تعليم ممكن كان عجيبًا، فرغم ثراء آل عنان فإن والد مؤرخنا كان من فرع، حالته المادية بسيطة، وكانت الأم قد ورثت ثمانية عشر فدانًا ولكن الوصي عليها أكل حقوقها ولم يقدم لها سوى أربعة أفدنة، راحت الأم تبيعها قراطًا بعد قراط للإنفاق على تعليم ولدها.

بدأ عنان رحلته التعليمية وهو ابن ثلاث سنوات، فقد ألحقه أبوه بكتاب القرية فحفظ قصار سور القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة.

في الرابعة من عمره ، غادرت الأسرة قرية بشلا لتستقر في القاهرة ، لا يذكر مؤرخنا سببًا لتك المغادرة التي كانت مغامرة كبرى في تلك الأيام .

في القاهرة ستتنقل الأسرة بين الأحياء، وفي كل حي جديد كان عنان يواصل التردد على الكتاتيب لحفظ المزيد من سور القرآن.

في مذكراته لا يتحدث عنان كثيرًا عن أسرته، فهو لم يذكر اسم شقيقته التي أشار لوجودها بجملة عابرة.

حصل عنان على الشهادة  الابتدائية من مدرسة العقادين، ثم حصل على الشهادة  الثانوية من المدرسة الخديوية.

والد عنان الذي كان يجمع بين عملين ، فهو كاتب في دائرة من دوائر أحد الباشوات ، وهو يتاجر في الاراضي التي كانت صحراوية في ذلك الزمان مثل أرض حي عين شمس الشهير ، وكانت عائدات الأب المادية لا تتجاوز الثلاثة جنيهات شهريًا ، ولكنه كان مولعًا بالتعليم فأصر على أن يلتحق ولده الوحيد بمدرسة الحقوق السلطانية!

الأم العظيمة باعت أرضها كما أسلفنا للغرض ذاته، وعندما حصل عنان على ليسانس الحقوق كانت أمه قد باعت كل أرضها.

عزاء في جروبي

قارئ مذكرات عنان  سيلاحظ أن الرجل لا يعرف التبجح ولا يتعمد الكذب ولا التزوير ، ولا يعتمد على تجميل مشاعره ، إنه يقول ما يؤمن هو أنه صواب وصحيح ، فهو مثلًا لم يذكر قط أنه حفظ القرآن كاملًا ، قال حفظت بعض الأجزاء ، ثم هو يخاصم الاشتغال بالسياسة فمع كرهه الشديد للاحتلال ،لا يمارس السياسة ، وهو يقول إن الحادث السياسي الوحيد الذي هزه من الأعماق وملأ عينيه بالدموع كان رؤيته لجنازة مصطفى باشا كامل ، ثم يقدم اعترافات لا تتفق مع مسلكه العام ، يعترف لا متبجحًا ولا متفاخرًا ولا متخلصًا من الشعور بالذنب إنه شرب الفودكا الروسية مرة فوجدها شديدة الوطأة فلم يعد لمثلها أبدًا.

 ويقول: إنه كان من عشاق الرقص الإفرنجي وهو يبرع في أداء معظم الرقصات، وكان ينفق بسخاء على الرقص الذي يسميه رياضة الرقص.

ولغة الرجل عجيبة، فهو عضو المجمع اللغوي بالقاهرة، يعني لا تنقصه المعرفة باللغة ومع ذلك يستخدم ألفاظًا لا أظن غيره قد استخدمها، فهو يقول مثلًا: ذهبت لتأدية رسوم العمرة!

كل الناس يقول مناسك أو شعائر، أو يقولون العمرة وينتهي الأمر، إلا عنان فهو يقول رسوم العمرة!

والرجل دقيق دقة عجيبة فهو يذكر الأحداث بساعة ويوم وشهر وسنة وقوعها، وقد صرح بأنه لا يعتمد على ذاكرته التي تبدو حديدية ولكنه يعتمد على يوميات ظل يكتبها على مدار سنوات حياته، فأين ذهبت تلك اليوميات الفريدة؟

السياسة التي ينفر منها عنان ستطرق بابه بقصة عجيبة حدثت له في أيام دراسته بمدرسة الحقوق التي هى كلية الحقوق الآن .

في غرفة من غرف المدرسة وجد عنان كومة عظيمة من الخطابات، وكلها مزينة بشريط الحداد الأسود، كان من بين الخطابات خطاب باسم عنان، فتحه فوجد بداخله دعوة لحضور عزاء أحد المحامين، وأسفل اسم الراحل عنوان العزاء.

ذهب عنان إلى العنوان لأداء واجب العزاء فوجد أن العنوان هو مقر محل جروبي الشهير ، ورأى زملاء المدرسة في حالة هرج ومرج وضحك .

فعرف منهم أن اليوم كان يوم زيارة سيقوم بها السلطان حسين كامل للمدرسة، وهم لا يريدون أن يكونوا في استقباله كنوع من الاحتجاج على سياسته العرجاء، فقرروا ترك المدرسة خاوية على عروشها.

قامت المدرسة بفصل كل المتغيبين عن استقبال سلطان البلاد، وكانوا معظم الطلاب وكان عنان من بينهم، إلا أن السلطان أصدر عفوًا عنهم فعادوا إلى مواصلة الدراسة.

موسوعة لغات

لا يصرح عنان بسر شغفه بتعلم اللغات ، مع أن الأمر كان يستحق وقفة منه ، لقد تمكن بمهارة من ناصية ست لغات وهى العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية والأسبانية.

لماذا كل هذه اللغات وهو الذي عقد العزم على الاشتغال بالمحاماة، فقد كانت تكفيه العربية والإنجليزية أو الفرنسية؟

كل ميسر لما خلق له، وعنان كان مخلوقًا لدراسات تاريخية لم يسبقه إليها أحد، وتلك اللغات ستكون خير معين له عندما يبدأ التفرغ لدراساته.

  حصل عنان على ليسانس الحقوق في العام 1918 وكان بإمكانه العمل في الإدارة الحكومية أو النيابة العامة ، ولكنه قرر عدم الارتباط بأي عمل حكومي ليحتفظ لنفسه بحرية القرار .

بعد عام من بدء عمله بالمحاماة ستندلع ثورة 1919 وسيشارك فيها مشاركة بارزة، لأنه رغم قراره بالابتعاد عن السياسة فقد رأى أن الثورة طوق النجاة الوحيدة لكي تنجو الأمة المصرية والعربية من الغرق وتحقق هويتها.

بعد هدوء الأحوال ، عاد عنان لممارسة المحاماة في مكتب ببلدته ميت غمر ، وهو في مذكراته  يسرف في مديح بلدتين ، ميت غمر وزفتى ، ويقطع أنهما من أجمل بلاد مصر ويعدد القصور والفيلات والمحلات والحدائق التي كانت تزين البلدتين ، ولا يفوته تسجيل أسعار السلع والمساكن فيقول مثلًا أن ثمن عشرين قرص طعمية كان مليمين وأن أجرة الشقة الكبيرة المحترمة كان جنيهين فقط.

غواية الاشتراكية

عنان الذي يفر من السياسة فرار السليم من الأجرب عمل على إنشاء أول حزب اشتراكي تعرفه مصر والأمة العربية!

من ثمار ثورة مصر عام 1919 أن النخبة المصرية قد تأكدت أنه لا نهضة سوى بالتخلص من الاحتلال وسياسة القصر الملكي عبر ممارسات ديمقراطية تكون الأحزاب السياسية هى قائدتها.

تعرف عنان على أحد أفراد الأسرة العنانية وهو الدكتور على عنان الأستاذ بمدرسة دار العلوم ، ثم تعرف على الكاتب الشهير سلامة موسى وقرر الثلاثة إنشاء حزب اشتراكي يدعو للتخلص من الاحتلال وتحسين حياة الشعب ، وبالفعل كتب عنان البيان التأسيسي للحزب ونشره بالجرائد ، وذهب الثلاثة لمقابلة زعيم الأمة سعد باشا زغلول وتحدثوا عن حزبهم فباركه سعد باشا .

ظلت أمور الحزب تمضي في هدوء ، حتى جاء اثنان لينضما للحزب وهما حسني العرابي ومسيو روزنتال الجوهري ، وكان الاثنان من أصحاب المعرفة الأكيدة بالشيوعية ، لا بالاشتراكية البسيطة التي يعرفها عنان وسلامة موسى ، فوجهها الحزب بأنشطته تجاه الأحزاب الشيوعية خارج البلاد ، وهو الأمر الذي جعل الأمن يراقب الجميع ويضيق عليهم .

هنا قرر عنان الخروج عن الحزب وعدم العودة إلى أي نشاط حزبي مرة أخرى.

أربعون ألف نسخة

في الفصل الذي خصصه عنان للحديث عن عمله الصحفي، شعرت بالفخر والحسد معًا، لقد كانت الصحافة المصرية شيئًا عظيمًا جدًا، كانت قادرة على إسقاط حكومات منتخبة، وكان كتابها من أمثال طه حسين والعقاد والمازني ومحمد حسين هيكل وأحمد لطفي السيد ومحمود محمد شاكر وأحمد حسن الزيات وعبد الوهاب عزام وعنان، ذلك الشاب العارف باللغات والتاريخ.

عبر وساطة تعرف عنان على رئيس تحرير جريدة السياسة الدكتور الأستاذ محمد حسين هيكل، وتم الاتفاق بين الرجلين على أن يعمل عنان بالجريدة بشرط عدم تورطه في أمر حزبي، خاصة والجريدة كانت لسان حال حزب الأحرار الدستوريين.

وافق هيكل على شرط عنان وفتح أمامه الصفحات ليرصعها بثمار عقله النابه، كانت الجريدة في العام 1924 توزع أربعين ألف نسخة يوميًا!

رأى عنان أن احتفاظه بمكتب المحاماة سيحد من انطلاقته الصحفية فأغلق المكتب وتفرغ للصحافة التي سرعان ما سيصبح من نجومها البارزة.

في العام 1926 قام عنان بأولى رحلاته فزار فلسطين ولبنان وسوريا والنمسا وتركيا.

تلك الرحلة ستكون أهم رحلات عنان الذي لم يكف عن التجول بين قارات العالم، وذلك لسببين.

الأول: أدرك عنان أنه مخلوق للاشتغال بالتاريخ، لأن تأمله لأحوال البلاد التي زارها دفعه لطرح أسئلة شائكة على نفسه، ولا جواب لتلك الأسئلة بدون معرفة ماضي تلك البلاد.

السبب الثاني: رأى عنان ببصيرته بدايات تكوين العصابة الصهيونية في فلسطين وعندما عاد إلى القاهرة كتب كثيرًا محذرًا من أفخاخ ينصبها الصهاينة لكي يصطادوا فلسطين، لقد حذر قبل وقوع النكبة باثنتين وعشرين سنة كاملة!

هناء النمساوية

في العام 1930 قرر عنان الزواج ، ولكنه كان يريد زوجة متعلمة مثقفة متحررة محتشمة راقية صاحبة مزاج ارستقراطي تعينه على ما هو مقدم عليه وتحترم عمله .

تلك الشروط لم يجدها عنان في المصريات اللاتي عرفهن  ، فسافر إلى النمسا وهناك وجد عروس المستقبل ، إنها فتاة تُدعى يوهانا، سيمدح عنان يوهانا وأسرتها .

 تزوج عنان يوهانا وعاد بها إلى القاهرة ، وظلت عروسه على اسمها ودينها سبع سنوات ثم أسلمت وعربت اسمها ليصبح هناء ، وأجادت العربية ، وأصبحت ذات نشاط خيري وتعليمي عظيم وكانت مكرمة من حكومة بلادها وحكومة مصر ، وولدت لعنان ثلاثة أبناء ، ولدين وبنتًا ، وعاش عنان عمره كله متنعمًا بحبها وشاكرًا صدق عونها له .

العودة إلى الجذور

عنان مصري عربي مسلم ، هذه هى شخصيته بتكوينها الأساسي ، وفي مذكراته ما يدل على أن هذا كان اختياره ، فهو كان بإمكانه الإقامة في أي بلد غير مصر ، وكان بإمكانه الانتساب إلى أي عرق غير العرق العربي ، حتى الدين كان يمكنه الانتماء إلى غيره ، ولكن تمسكه بمصريته وعروبته وإسلامه كان عن دراسة وليس عن وراثة .

في سنوات ما بعد الزواج من محبة مثقفة قرر عنان العودة إلى جذوره البعيدة، ليصبح مؤرخ الأمجاد والنكبات.

في قرار قلب عنان كان يشعر أن شيئًا عظيمًا قد هُزم بداخل الشخصية العربية والإسلامية بعد طرد المسلمين من الأندلس، لقد بنى المسلمون حضارة عظيمة كانت منارة لأوربا ثم طردوا مهزومين أذلاء من الأندلس، فما الذي حدث؟

للإجابة عن هذا السؤال كتب عنان موسوعته " دولة الإسلام في الأندلس " الموسوعة من ثمانية أجزاء ويبلغ عدد صفحاتها فوق الأربعة آلاف صفحة ، وقد كتبها في خمس وعشرين سنة ، وقد ظلت الموسوعة فوق مقدرة القارئ العام إلى أن تكرم مشروع القراءة للجميع وطرحها بسعر رمزي .

لكي ينجز عنان موسوعته فقد زار أسبانيا وبلدان المغرب حيث جرت الوقائع والأحداث مرات عديدة فدقة الرجل لم تكن تسمح له بأن يكتب غير الذي يعاينه ويعايش حالته.

كل جزء من أجزاء الموسوعة هو رحلة شاقة بين الأمجاد والنكبات فالمسلم الذي يقرأ الموسوعة يكاد يطير فرحًا هو يرى بعينيه تكوين حضارة عظيمة في بلد أوربي كان إلى الأحراش أقرب منه لأي شيء آخر ، ثم يقذف عنان بقارئه إلى سابع أرض وهو يتجول معه بين الخرائب والحطام والدمار

وقد تفرغ عنان للكتابة التاريخية خاصة بعد قيام ثورة يوليو التي يناصبها العداء، ورغم موقفه من ثورة يوليو فإنه يذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر والوزير كمال الدين حسين قد بعثا إليه ببرقية تعزية عندما توفت السيدة والدته!

أثناء وبعد كتابة الموسوعة أنجز عنان كنوزه التي هى علامة فارقة في تاريخ الكتابة العربية ، نذكر طائفة منها.

1ـ مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

2ـ المآسي والصور الغوامض( صور تاريخية بأسلوب قصصي أدبي)

3ـ مأساة مايرلنج: دراسة تاريخية تحليلية مستقاة من الوثائق الامبراطورية النمساوية

4ـ تراجم إسلامية شرقية وأندلسية

5ـ قضايا التاريخ والمحاكمات الكبرى

6ـ ابن خلدون: حياته وتراثه الفكري

7ـ لسان الدين بن الخطيب: حياته وتراثه الفكري

8ـ تاريخ الجامع الأزهر

9ـ تاريخ المؤامرات السياسية

10ـ تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة

11ـ الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية

التكريم والرحيل

بلغت أعمال عنان ما بين إنشاء وترجمة وتحقيق أكثر من ثلاثين كتابًا وقد كرمته الدولة المصرية ومعظم الدول العربية ومنحته الجوائز والنياشين، وأغلب حالات تكريمه كانت في ظل النظام الناصري الذي يعاديه عنان!

حصل عنان على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى ووسام الكفاءة الفكرية من العاهل المغربي الحسن الثاني

وعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضوية نادي القلم الدولي.

ثم توفي عنان عن تسعين عامًا وكانت وفاته في العشرين من يناير من العام 1986ولعلَّ تاريخ وفاته يسجل مفارقة من مفارقات حياته ، فقد توفي في الشهر ذاته الذي سقطت فيه دولة الإسلام في الأندلس ، وكأن القدر أراد أن يربط بين عنان وبين الأندلس في الحياة والممات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات الاثنين 21 أكتوبر 2019