جاء على مهن
الصحافة والكتابة والفن حين من الدهر لم تكن فيه سوى جالبة لسخرية المجتمع
وازدرائه، فلم يكن المجتمع يقبل شهادة الصحفي ولا الممثل، وكان أولاد الأكابر
عندما يؤلفون الروايات يضعون على أغلفتها أسماء مستعارة.
في ذلك المناخ المقبض ولد الشيخ الأستاذ عبد العزيز البشري في العام
1886، وكان المنطقي أن يكون الصبي عبد العزيز كوالده فضيلة الإمام الأكبر شيخ
الأزهر سليم البشري، فإن لم يكن كوالده فعلى الأقل يُضيّق الوالد على ولده لكي
يلتزم بالسير بجوار الحائط لكي يصعد إلى المكانة التي يجب أن يرقى إليها.
الشيخ التقدمي
الإمام الأكبر
سليم البشرى الذي ولد في العام 1832 وتوفي في العام 1916 وبرع في علم الحديث
الشريف، خالف كل التوقعات وترك لابنه حرية اختيار كيف ستمضي حياته.
هذه النقطة تعد
من النقاط المركزية جدًا في حياة عبد العزيز البشري الذي كان حريصًا على أن يكون
خير ممثل لفكر أب حر لا يخضع لتقاليد زمانه.
البشري الأب لم
يكن شيخًا كغيره لقد رفض مشيخة الأزهر لسنوات، وعندما قبلها تقدم باستقالته لأن
أمرًا من الأمور لم يرق له، ثم بعد سنوات جاءته المشيخة مرة ثانية فقبلها على
شروطه ومكث بها حتى رحل عن دنيانا، وكانت لرحيله أصداء مدوية نعرفها من رثاء شاعر
النيل حافظ إبراهيم له بقوله:
"أيدري
المسلمون بمن أصيبوا
وقد واروا «سليما» في التراب؟
هوى ركن «الحديث» فأيُّ قطبٍ
لطلاب الحقيقة
والصواب؟
فما في الناطقين
فم يوفي
عزاء الدين في هذا المصاب
قضى الشيخ المحدث وهو يملي
على طلابه فصل
الخطاب".
عندما ولد
البشري الابن دفع به أبوه إلى حديقة القرآن فحفظه حفظ إتقان فسلم لسانه وقلمه من
رطانة العجم، ثم دفعه إلى الأزهر فتخرج فيه سنة 1911 وما بين الكُتّاب والأزهر
تتلمذ البشري على يد الشيخ الأستاذ سيد المرصفي، الذي يكاد يكون مسئولًا مسئولية
تامة عن تثقيف وتعليم طائفة من فحول الأدب العربي، نذكر منهم طه حسين وأحمد حسن
الزيات والبشري ومحمود محمد شاكر.
بعد أن أتم
تعليمه الأزهري عمل عبد العزيز البشري بوزارة الأوقاف، ثم بوزارة المعارف (التربية
والتعليم حالياً)، ثم عمل في القضاء الشرعي، وأخيرًا ذهب إلى المكان الجدير به فقد
تولى منصب المراقب العام لمجمع اللغة العربية وظل به إلى أن مات في العام 1943.
رجل مثل البشري
الابن كان يلهو وهو طفل في زوايا مكتبة والده عالم الحديث الأشهر، ثم عندما تمكن
من القراءة راح ينهل من ذخائر المكتبة حتى ارتوى، ثم تتلمذ على يد المرصفي، ثم
جمعه بالعميد طه حسين حب الأدب، كيف كان سيكون مصيره؟
صحبة العميد
يقول طه حسين عن
أيامه مع البشري: "كان عبد العزيز البشري يزورني في الغرفة التي كنا نعيش
فيها في ربع بيت كبير يضم العديد من الغرف الصغيرة يسكن معظمها طلاب الأزهر من
ربوع خان الخليلي وكنا نلتقي فيها حين نتفرق عن دروس الفقه، لنقرأ بعض كتب الأصول
أو بعض كتب البلاغة، وكان عبد العزيز البشري يلهينا بدعابته وفكاهته عن جد البلاغة
والأصول، وإني لأراني مع عبد العزيز وعلي عبد الرازق في هذه الغرفة نفسها بعد أن
نصلي العصر نقرأ كتاب «الكامل» للمبرد، ونُحصّل بهذه القراءة اللغة والأدب، وكان
عبد العزيز يجلس معنا يمرح ويمزح ويتفكه بنوادره الطريفة ليُسرّي عن أنفسنا عناء
التعب والمشقة التي لاقيناها من القراءة في هذه الكتب العميقة المعنى، والبديعة
الأسلوب".
في تلك السنوات
وقع البشري في هوى الجاحظ أديب العربية الأكبر، ولم يكون الهوى، هوى المحبة، ولكنه
كان هوى التعلم والدرس والمذاكرة والسير على النهج نفسه.
ظل البشري
عاكفًا على دراسة الجاحظ حتى يكاد يكون قد حفظ مؤلفاته، فسرى أسلوب الجاحظ في
وجدان البشري سريان الدم في العروق، ليواصل البشرى حضوره وانتشاره في كل مكان يكون
للأدب فيه كلمة، وكان ذلك الانتشار مقصودًا لتحقيق هدفين مهمين، الأول: أن يخلع
البشري جلباب أبيه، فهو لن يكون شيخًا من مشايخ الأزهر – مع عظيم تقديره لدورهم ـ
والثاني: أن يعرف الجميع من هو عبد العزيز البشري قبل أن يدخل الميدان محترفًا.
وقد أحسن الباحث الأستاذ يسري عبد الغني عندما كتب عن حركة البشري في
مجتمع القاهرة: "كان رجلنا يحب التنقل ومعايشة الأصحاب من كل الطبقات
والفئات، فكنت تراه مصبحًا في هذا الحي من أحياء القاهرة القديمة في الأزهر، أو
قريباً منه، فإذا صليت الظهر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة قريباً من دار
الكتب أو في قهوة من مقاهي حي باب الخلق التي كان يجلس عليها أهل الفن والأدب، أو
في حي الأزبكية، فإذا صليت العشاء رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة، تلقاه عند آل
عبد الرازق في حي عابدين، وتلقاه عند غيرهم من ذوي المكانة والجاه، وقد تلقاه في
قهوة من مقاهي الناصرية القريبة من حي السيدة زينب مع جماعة من الأدباء يتصدرهم
حافظ إبراهيم".
في تلك الجولات المكوكية
بين أحياء القاهرة، رسم البشري ملامح شخصيته، إنه الأزهري حافظ القرآن، ابن شيخ
الأزهر، الفقيه في علوم العربية، المثقف الموسوعي، خفيف الظل، القادر على أن يجعلك
تضحك عندما تقرأ له أو تسمعه وهو يكتب أو يتحدث بالفصحى العالية الشريفة.
قبل أن ينزل
البشري ميدان الاحتراف سجل نوادر وطرائف تكشف عن عمق ثقافته وعن سرعة بديهته وعن
ذكائه الفطري اللطيف الذي لم يستخدمه قط في أذى الآخرين، لقد كان يستخدم ذكاءه في
رد المواقف والكلمات.
ولتوضيح منهجه
ذلك نورد هنا مثالين.
قالوا: إن
البشري وجماعة من الأدباء نزلوا ضيوفًا على واحد من الأعيان، وبعد الطعام خلع
البشري جبته الأزهرية وذهب لغسل يديه، فقام أصحابه برسم حمار على جبته، وعندما عاد
ورأى ما فعله أصحابه لم تفلت أعصابه بل نظر إليهم في برود ثم سألهم: «مَنْ منكم يا
أفاضل الذي مسح وجهه في جبتي؟».. فضحك الجميع وعرفوا أن النيْل من البشري يكاد
يكون مستحيلًا، وذلك لأنه رد الصاع صاعين وفي هدوء تام.
وقالوا: إن
البشري كان مجتمعًا في مجلس مع الفريق إبراهيم فتحي الذي كان وزيرًا للحربية،
فأراد إبراهيم باشا فتحي ممازحة البشري الذي كان أيامها من القضاة الشرعيين،
فسأله: «هل جاء في الحديث الشريف، قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار؟».. فرد البشري:
نعم، وجاء في القرآن الكريم «فريق في الجنة وفريق في السعير".
المرآة الكاشفة
قبل أن نتحدث عن
زمن احتراف البشري للكتابة، يجدر بنا التوقف عند نقطة مهمة وهي أن الشيخ – على
عظيم علمه وعمق ثقافته – لم يؤلف سوى كتابين اثنين فقط، ولن تجدهما الآن إلا بضربة
حظ لدى باعة الكتب القديمة.
لقد كتب
الكتابين بتكليف من وزارة المعارف «التربية والتعليم حاليًا»، الكتاب الأول هو
«المفصل» وموضوعه التربية الوطنية، ثم كتاب «المنتخب» وموضوعه تاريخ الأدب
المعاصر. ثم هناك ثلاثة كتب كانت في الأصل مقالات للشيخ ثم جمعها في كتب، وهي
«المختار» وفيه الأبحاث الأدبية، والتراجم لبعض أدباء عصره.
والكتاب الثاني
هو «قطوف»، ويقع في جزأين، ويتناول بعض الدراسات العربية الإسلامية.
أما الكتاب
الثالث الذي سنتوقف عنده فهو «في المرآة». وهنا لابد أن نشكر مشروع «القراءة
للجميع» الذي أعاد نشر هذا الكتاب النفيس، وهو تجميع لبعض مقالات الشيخ التي نشرها
في جريدة السياسة في العامين 1926 و1927.
كان للشيخ خطة
في تلك المقالات سندعه هو يتحدث عنها: «إن هذا النوع من البيان رويناه عن كتاب
الغرب، وما فتئنا نقلدهم فيه تقليداً، على أن كتاب العرب من أمثال الجاحظ قد سبقوا
إلى شيء من هذا التصوير البياني، إلا أنهم لم يعدوا فيه هنات المرء، والصولة عليها
بألوان التندر والتطريف، أما التوسل بمظاهر خلال المرء إلى مداخل نفسه، منازع
طبعه، وإجراء هذا على أسلوب علمي وثيق، فذلك ما لم نقع عليه في منادرتهم ووجوه
تظرفهم".
كان هذا عن
منهجه في الكتاب، منهج تحليل الشخصيات، أما عن أسلوبه فيقول عنه: «إن الرسام
الكاريكاتوري، يعمد إلى الصفة البارزة في خلال المرء، فيزيد في وصفها بما يتهيأ له
من فنون القول، ولا يتناول إلا أمراً يتصل بالشؤون العامة، على ألا يضيف إلى المرء
ما ليس فيه، ولا يتدسس إلى مكارهه، ومستور هناته، حتى لا ينصرف الكلام إلى السخرية
غير المحمودة به".
وبتلك الخطة
أظهر الشيخ في مرآته صور شوقي وحافظ وسعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود وطائفة
من أهل السياسة والأدب والشخصيات العامة.
سنقرأ الآن
افتتاحيته عن زيور باشا الذي كان وقت تناول البشري له رئيسًا للوزراء، حيث يقول
البشري في وصفه لزيور باشا: «أما شكله الخارجي وأوضاعه الهندسية ورسم قطاعاته
ومساقطه الأفقية فذلك كله يحتاج فى وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة.
والواقع أن زيور باشا رجل -إذا صح هذا التعبير- يمتاز عن سائر الناس فى كل شيء،
ولست أعنى بامتيازه فى شكله المهول طولا ولا عرضه ولا بعد مداه، فإن فى الناس من
هم أبدن منه وأبعد طولا وأوفر لحما، إلا أن لكل منهم هيكلا واحدا، أما صاحبنا فإذا
اطلعت عليه أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت ولا كيف
تعلق بعضها ببعض، وإنك لترى بينها الثابت وبينها المختلج، ومنها ما يدور حول نفسه،
ومنها ما يدور حول غيره، وفيها المتيبس المتحجر، وفيها المسترخي المترهل. وعلى كل
حال فقد خرجت هضبة عالية مالت من شعافها إلى الأمام شعبة طويلة أطل من فوقها على الوادي
رأس فيه عينان زائغتان، طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحيق".
إنه يُشرّح
الشخصية تشريحًا بادئًا بوصف ملامحها الجسمانية، منتهيًا بالكشف عن أعماقها، وعلى
ذلك النهج الجاحظي يمضي الكتاب العصي على التلخيص أو العرض، لأنه من الكتب التي
يجب أن تقرأ كلها من بدئها لمنتهاها لكي يستمتع مُطالعها بفنون من الكتابة لا يمكن
لمقلد أن يقلدها، لأنها فنون أصيلة مرتبطة بشخصية كاتبها الذي يعترف بأنه نسج على
منوال الجاحظ ولكنه سار لآخر الشوط مستعينًا بمعارفه العصرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بموقع أصوات14 أغسطس 2019