بلغ من تعظيم المسلمين لشهر رمضان المعظم أن بعضهم وضع في الشهر ما
ليس فيه، وهو يظن أنه بفعله هذا يزيد الشهر تكريمًا وتعظيمًا!
بعضنا يسكت على مضض عندما تأتي سيرة الانتصارات العسكرية المدوية التي
حققناها في أيام الشهر المعظم وذلك لظنه أن رمضان من الأشهر الحرم التي حرم الله
فيها القتال.
هو لا يعرف أن الأشهر الحرم هي أربعة فقط، ذو القعدة، ذو الحجة،
المحرم، رجب.
وقد روى الإمامان البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خطب الناس يوم النحر في حجة
الوداع، فكان مما قال: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا،
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو
الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، شَهْرُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى
وَشَعْبَانَ).
وقد أجمع علماء الأمة على أنه يجوز للمسلمين أن يقاتلوا عدوهم في
الأشهر الحرم إن بدأ العدو القتال.
وعلى ما سبق فليس من حق أحد أن يزايد على شهرنا المعظم فهو بالأساس
شهر عمل وأمل وعبادة وجهاد وقرآن، وقد عرف هذا الذين سبقونا فجاهدوا في رمضان
وحققوا أعظم الانتصارات.
وفي هذا المسلسل الذي ننشره تحية لشهرنا المعظم سنقرأ معًا صفحات من
سجلات الانتصارات الخالدة.
التأسيس والانطلاق
في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، عليه الرضوان، بدأ المسلمون
يحلمون بفتح بلاد الأندلس، وقد حاولوا كثيرًا تحقيق حلمهم لكن الظروف لم تكن
مناسبة، ولكنهم لم يهجروا حلمهم حتى جاء العام 92 هجرية وفيه كانت الدولة
الإسلامية تحت قيادة الوليد بن عبد الملك فتحقق الحلم وتم فتح الأندلس.
كان الخليفة قويَا وكذلك كانت الخلافة فكانت الأندلس مجرد إمارة من
إمارات الدولة المترامية الأطراف، وكان الخليفة الجالس في دمشق عاصمة الخلافة هو
الذي يقوم بتعيين حاكم الأندلس، ثم سقطت الدولة الأموية وكان العباسيون يتعقبون
امراء بني أمية ويقتلونهم، وقد نجح أمير أموي هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن
عبد الملك بن مروان (نعرفه باسم عبد الرحمن الداخل) في الفرار من مطاردة العباسيين
وذهب إلى الأندلس ليؤسس خلافة أموية جديدة، وقد لقب بالداخل لأنه أول من دخل
الأندلس من بني أميه حاكمًا.
وكان عبد الرحمن قائدًا عظيمًا شجاعًا حتى أن عدوه الخليفة العباسي
أبو جعفر المنصور لقبه بصقر قريش، فقد حلق الصقر عاليًا ناجيًا من المهالك وذهب
ليقيم دولة في أقصى الغرب المتاخم لدول أوروبا القوية!
حكم عبد الرحمن الأندلس بداية من العام 138 هجرية، ثم حكم بعده قادة
عظماء صعدوا بالبلاد إلى قمم المجد، ثم وقع ما يقع دائمًا، لقد تجاهل قادة ذلك
الزمان الحكمة الخالدة التي تقول: "إن في الاتحاد قوة"، فتفرق أمرهم
ودبت بينهم الصراعات التي أدت إلى سقوط الدولة الأموية في العام 422 هجرية، وهذا
يعني أنها حكمت قرابة الثلاثة قرون، وبنهاية الخلافة الأموية بدأت كارثة ملوك
الطوائف، فكل مدينة أصبح لها أمير، وكل أمير يطمع في ملك غيره من الأمراء، وهم
جميعًا يتحالفون مع الأمراء الإسبان ضد الأمراء المسلمين.
بعض المؤرخين يقطع بأن الدولة التي كانت واحدة متوحدة متحدة قد أصبحت
مقسمة إلى اثنتين وعشرين دويلة، من أبرزها غرناطة وأشبيلية، والمرية وبلنسية،
وطليطلة وسرقسطة، والبرازين والبداجوز، ودانية والبليار ومورو، وغير ذلك الكثير من
الدويلات المتناحرة التي تتحالف مع عدوها من أمراء الإسبان والأوربيين.
معارك الجزية
تلك الدويلات لم يكن يشغلها سوى جباية الضرائب من شعوبها والتمتع
بلذائذ الحياة والتحالف مع العدو والإغارة على بعضها البعض الآخر، وقد بلغ ضعفها
العسكري مبلغ الهوان والمذلة، حتى أن ثمانين فردًا من الإسبان هزموا أربعمئة من
المسلمين هزيمة منكرة، وفي معظم التحركات العسكرية كانت الهزيمة تلحق بالمسلمين
لأنهم فرطوا في اتحادهم ودبت بينهم الصراعات القائمة على تحقيق مصالح شخصية ضيقة.
كان كل حكام الدويلات يدفعون الجزيرة للإسبان، وكانت الجزية من الذهب
الخالص، والذي يتأخر في دفع الجزية يقوم الإسبان بالإغارة على دويلته ويخلعونه من
على عرشه ويستولون على بلاده.
كان من بين الذين يدفعون الجزية المعتمد بن عباد حاكم أشبيلية، وكان
المعتمد شاعرًا وشجاعًا ولكنه كعادة كل حكام الدويلات تراجع أمام الفونسو السادس
ملك قشتالة الإسبانية ودفع له الجزية لكي يأمن شره، ولكن ألفونسو كان عازمًا على
الاستيلاء على أشبيلية وإن طال الزمن.
بدأ ألفونسو التضييق على المعتمد والاستهانة به وقد روى المؤرخون
واقعة يقول ملخصها: بعث ألفونسو رسولًا إلى المعتمد طلب منه، أن يسمح لزوجة
ألفونسو الحامل أن تضع مولودها في أكبر مساجد المسلمين؛ لأنه تم التنبؤ لها أنها
إذا ولدت هناك سيَدِينُ المسلمون بالولاء لولدها، فغضب المعتمد، ولم يسمح بذلك.
موقف المعتمد أغضب ألفونسو، وقدم إليه مبررًا لغزو اشبيلية فأرسل
رسولًا ليأخذ الجزية من المعتمد الذي قدم الجزية، لكن الرسول رفض أخذها بزعم أنها
من الدنانير المخلوطة وليست من الذهب الصافي، فجرى نقاش حاد بين المعتمد والرسول
فقتله المعتمد، فقرر ألفونس أن يبدأ مسيرته للاستيلاء أشبيلية وقرطبة فطلب من
المعتمد تسليم اشبيلية وإخلاء حصونها وقراها، فقال المعتمد: «إن الموت أحب إلى من
تسليمها».
فتقدم ألفونسو بجنوده يدمر كل شيء يعترض طريقه، حتى وصل إلى جزيرة
طريف، في أقصى جنوب الأندلس، على مضيق جبل طارق، وأدخل قوائم فرسه في البحر قائلا:
"هذا آخر بلاد المسلمين قد وطئته"
يقول المؤرخون: حاصر ألفونسو أشبيلية وبعث إلى المعتمد بن عباد يخبره
أنه سيمكث هنا، ولا يوجد ما يضايقه سوى الذباب، ويأمره أن يبعث له بمروحة ليروح
بها الذباب، فلما وصلت هذه الرسالة إلى المعتمد قلبها، وكتب على ظهرها:
"والله؛ لئن لم ترجع لأروحنَّ لك بمروحة من المرابطين" فخاف ألفونسو،
وجمع جيشه وانصرف.
ظهور المرابطين
تعد دولة المرابطين من كبريات دول الإسلام وعن تاريخهم تقول الباحثة
الأستاذة ليلى العجايب: تشيرُ كلمةُ المرابطون إلى المقيمين في الحاميات الملازمة
لتخوم الأعداء، والمرابطون هم اتّحاد من قبائلِ لمتونة، وجدالة، وصنهاجة، وهم من
أمازيغ شمال إفريقيا، استطاعوا تكوين دولة إسلامية في شمالِ غربِ إفريقيا، وشبه
الجزيرة الأيبيرية في القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلاديين، وتحت قيادة
يوسف بن تاشفين اتخذوا من مرّاكشَ عاصمةً لهم في عام ألف واثنين وستين، وحكموا المنطقة
تحت راية الدولة العباسية، وأمتد ملكهم من تونس، والجزائر شرقاً، وحتى المحيط
الأطلنطي غرباً، ومن المغرب شمالاً حتى مالي، وغانا جنوباً.
من الواضح أن المرابطين دولة فتية قوة لكنها ذات طموح، وهنا وقع
المعتمد بين خيارين أحلاهما مر، الاستسلام لألفونسو أو طلب النجدة من يوسف بن
تاشفين حاكم المرابطين وملكهم.
طلب المعتمد سماع رأي بقية ملوك الطوائف في مسألة الاستعانة
بالمرابطين، فعارض بعض ملوك الطوائف بشدة الاستعانة بالمرابطين خشية أن يستولوا
على ملكهم، وكان حاكم مالقة عبد الله بن سكوت يرى أن المرابطين أشد خطرا من
الفرنجة!
يومها تفرق المسلمون بين على فريقين، فريق يقوده علماء قرطبة وزعماؤها
الذين يرون ضرورة الاستعانة بيوسف بن تاشفين، ومال المعتمد إلى هذا الرأي، ورأى
فيه نفاذ بصيرة وحكمة وسدادا، فبدأ فورا بتقوية جيشه، وترميم الحصون والقلاع.
الفريق الثاني يقوده جماعة من أشبيلية نفسها، فقد أشاروا على المعتمد
بمهادنة ألفونس والرضوخ لشروطه، وعدم الاستعانة بابن تاشفين وقالوا:" السيفان
لا يجتمعان في غمد واحد". وهذا قريب من كلامنا:" المركب أم ريسين تغرق!".
ثم جلس المعتمد مع وجهاء القوم وكان ابنه من بينهم فقال لهم:" يا
قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين وحالة شك ولا بد لي من إحداهما، أما حالة
الشك: فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش فيمكن أن يفي لي ويبقى على
وفائه، ويمكن ألا يفعل، فهذه حالة شك، وأما حالة اليقين: فإني إن استندت إلى ابن
تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة
الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه؟!".
فقال ابن المعتمد لأبيه: "يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من
يسلبنا ملكنا، ويبدّد شملنا".
فرد عليه المعتمد قائلًا: أي بني والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدت
الأندلس دار كفر فتقوم اللعنة عليّ في الإسلام مثلما قامت على غيري، والله إن رعي
الجمال عند ابن تاشفين لهو خير من رعي الخنازير عند ألفونسو".
بدء التحالف
الاستعانة بقوات من الخارج ليس أمرًا سهلًا لأنه يحتاج إلى تمهيد
وعقود تضمن الحقوق وتفرض الواجبات، وعن ذلك قال المؤرخون: أخذت تجمعات شعبية من
الشيوخ والعلماء تكتب إلى يوسف بن تاشفين تحثه على إنقاذ الأندلس ومسلميها، وأرسل
إليه المعتمد وفدا من قاضى قرطبة وقاضى غرناطة، ووزير المعتمد أبى بكر بن زيدون
ليحثوه على نصرة بنى دينه.
وأسند المعتمد إلى القضاة وعْظَ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد،
وأسند إلى أبى بكر بن زيدون، وزيره، إبرام العقود والاتفاقات مع يوسف بن تاشفين،
وحمّلهم المعتمد رسالة مكتوبة إلى يوسف بن تاشفين يرجونه فيها عبور المرابطين إلى
الأندلس لمجاهدة الفرنجة ونصرة الإسلام ودين محمد عليه الصلاة والسلام.
بعد مفاوضات شاقة وافق ابن تاشفين ورد على رسائل المعتمد برسالة وجدت
نصها في كتاب " أيام رمضان " طمئن فيها المعتمد وأخبره بنيته القدومَ
إلى الأندلس. وطلب منه أن يسلمه منطقة الجزيرة الخضراء لكي تكون مستقرا لجيوشه،
وختم خطابه بقوله: «فإن رأيت ذلك فأشهد على نفسك به، وابعث إلينا بعقودها ونحن في
إثر خطابك إن شاء الله".
من الواضح أن الجزيرة الخضراء كانت موقعًا في غاية الأهمية، وهذا يبرر
إصرار ابن تاشفين على كتابة عقد يضمن به إنشاء معسكر بالجزيرة
استجاب المعتمد فكتب له عقدَ هبةٍ بالجزيرة الخضراء، وأشهد عليه قضاته،
وأرسله إليه، وتجهز ابن تاشفين بنفسه لقيادة جيش المرابطين، وكتب أمانا عاما لأهل
الأندلس في بلادهم وكتب إلى المعتمد «أنا أول منْتَدَب لنصرة هذا الدين، لا يتولى
هذا الأمر أحد إلا أنا بنفسي".
بدء الملحمة
لدينا الآن قوتان، قوة مسلحة أندلسية بقيادة المعتمد وتضم ملوك
الطوائف الذين ناصروه وهم ملوك غرناطة ومالقة وبطليموس، وقوات المرابطين بقيادة
يوسف بن تاشفين الذي كان قد بلغ التاسعة والسبعين من عمره ولكنه كان رجلًا حديدي
العزيمة، إذا قرر أمرًا مضى إلى تنفيذه غير ملتفت لسن ولا حالة صحية.
القوات المسلمة انطلقت من الجزيرة الخضراء وقد بلغ عددها كما قدر معظم
المؤرخين ثمانية وأربعين ألف مجاهد، وبعض المؤرخين يقول: إن عدد القوات كان اثنان
وعشرون ألفًا فقط.
على الجانب الآخر كان ألفونسو يعرف قدرات ابن تاشفين وقد سمع به
وبغزواته الباهرة، فلجأ إلى طلب المدد الأوربي فجاءته قوات غفيرة من فرنسا
وإيطاليا ومن بقية الإمارات الأوربية المجاورة لإسبانيا.
قدّر المؤرخون عدد قوات ألفونسو بمئة ألف مقاتل.
مر بك أن العدد ليس هو الحاسم، فقد هزم ثمانون إسبانيًا أربعمئة مسلم،
وذلك لأن القصة هي قصة استعداد وتجهيز وتضحية، والذي يمتلك ناصية تلك الأمور سيكون
الفوز من نصيبه.
ظهر واضحًا أن ألفونسو قد خاف من وجود ابن تاشفين وقواته، فعمد إلى
حيلة إن لم يربح بها الحرب فسيقلل بها الخسائر.
أرسل ألفونسو إلى قواد المسلمين رسالة جاء فيها: إن غدًا يوم الجمعة
وهو عندكم كالعيد، ويليه السبت وهو عيد اليهود وفى بلادنا منهم عدد كبير، ويليه
الأحد وهو عيدنا، وليس يحسن القتال في أيام هذه الأعياد، فليكن الموعد يوم الاثنين.
تلك الخدعة لم تنطل على المسلمين لأنه عرفوا أنه يريد أن يميلوا إلى
هذه الفكرة، فيباغتهم ألفونسو ويهزمهم هزيمة مفاجئة.
في يوم الجمعة وكان من أيام العشر الأولى من رمضان المعظم من العام
479 بدأت المعركة التي كانت أقرب إلى الملحمة، وذلك لأن المسلمين أدركوا أنهم إن
خسروا تلك الموقعة فلا بقاء لهم في الأندلس كله، وعلى الجانب الآخر كان ألفونسو
يريد انتصارًا يثبت به ملكه ويضم إليه خيرة ممالك المسلمين ويخضع الجميع لأمره
وحكمه.
كانت نتيجة المواجهات الأولى غير حاسمة، فمرة يتقدم المسلمون ومرة
يتقدم الإسبان، ثم حانت لحظة الحقيقة فتقدم المعتمد بنفسه كما تقدم ابن تاشفين
وأظهرا من الشجاعة ما يفوق الوصف، حتى أن ثلاثة أحصنة قد هلكت تحت المعتمد،
واقتربت ساعة النصر عندما أصيب ألفونسو إصابات بالغة اضطرته للانسحاب، ففرت قواته
باتجاه معسكرهم ولكن جماعة من المسلمين كانت قد سبقتهم إلى المعسكر وقامت بإحراقه
وتدميره تدميرًا تامً ففر الجنود وهرب معهم ألفونسو باتجاه طليطلة، ولم يبق معه من
كل جيشه سوى مئة محارب تبقوا من خمسمئة ، لقى أربعمئة منهم مصرعهم متأثرين بجروحهم.
بعد انتهاء المعركة بانتصار حاسم للمسلمين تنازل ابن تاشفين عن نصيبه
من الغنائم وجعلها كلها للأندلسيين الذي تعاملوا مع يوم الزلاقة كما تعامل
المسلمون الأوائل مع فتح القادسية.
لقد مكنهم نصر يوم الزلاقة من البقاء في الأندلس لأربعة قرون إضافية
حتى سقطت غرناطة في العام 897، فسلام على الذين تجهزوا واستعدوا وضحوا ليكتب لهم
النصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة "صوت الأمة" 18 أبريل 2021