السبت، 2 مايو 2020

الطلقة الأخيرة

  


يبدو المهندس مصطفى كأنه كتلة من المشاكل والمآزق والأزمات، يخرج من واحدة فيجد أختها تطرق بابه، العجيب في أمره أنه عاش عمره مؤمناً بأن كل مشكلة لها حل، وأن المشكلة التي تجعل صاحبها يقف متأرجحاً بين الموت والحياة صارخ: "أكون أو لا أكون". لم ولن تخلق. 

 *** 

 مصطفى فوزي، مهندس التراخيص في الحي الشهير جدًا بفساده، هبطت على قلبه، بل سحقت كيانه مشكلة. لقد تجاوز ما أهو أشد منها، لكنه الآن يقف مكتوف اليدين وقد تزعزع  إيمانه القديم الذي كان يرعاه ويحنو عليه كأن ذلك الإيمان طفل وهو الأم التي لا تحتمل أن يمس الهواء شعر وحيدها. مصطفي في الخمسين من عمره، يعني ما مضى أكثر مما بقى، متزوج من امرأة تكرهه وتتفنن في تقديم أدلة كرهها له، يعول نفسه والمرأة التي  تكرهه وولدين وبنتاً.
 يحب أن يكون نظيفاً لامعاً مهندماً، وهو لا يبخل على نفسه بالعطور الأصلية، كما ـ وهذه إحدي مشاكله ـ يدمن تدخين السجائر الأجنبية، مصاب بأنواع عديدة من الإدمان، فهو يدمن الشرود، ويدمن الاهتمام بحديقة منزله والرسوم الهندسية والقراءة وسماع الموسيقى، كل هذا، إضافة إلى إدمانه المزمن لتقديم حلول منطقية جًدا لأي مشكلة يطرحها صاحبها عليه! 


***
 ما هى مشكلة مصطفى الكبرى؟ 
  
مشكلته الكبرى، هى تحليه بصورة خارجية تجعله يبدو رجلاً بدون مشاكل، ليس لأنه حلال العقد ولكن لأنه لم يتحدث قط عن واحدة من مشاكله، وتكتمه هذا يعود لسبب يتوافق مع شخصيته.
 إنه يعرف كل ما يمكن أن تطرحه عليه بوصفه حلاً لمشكلته، هو لا يشكك في نيتك، بل يعلم أنك جاد ومخلص وعاقل، ولكنه لن يعمل بحرف من كلامك، ليس كبرا أو غطرسة، ولكن لأن حلولك المنطقية العاقلة لا تتوافق مع شخصية مصطفى! 
ولكي لا يخسرك فهو لن يهمس لك أبًدا: أنا في مشكلة.

 *** 

كان المنطق يحتم أن يبدأ مصطفى رحلته العملية وهو في غاية الاكتئاب والتشكك في كل شيء، فقبل التحاقه بالعمل بشهور، كان قد خسر قلبه.
 خمس سنوات قضاها مصطفى ليس في دراسة الهندسة ولكن في حب نوال، من إعدادي هندسة إلى سنة التخرج والجميع يعلم أن نوال لمصطفى ومصطفى لنوال، كانت أمه وقتها على قيد الحياة وكانت ترسل لعروس الغالي المنتظرة ليس السلامات فقط، ولكن مرة ترسل شالاً من الحرير، ومرة ترسل بلوزة من القطن المصري، وفي مرة أرسلت كيس ممتلئاً بليمون لم ير مصطفى خضرة كخضرته ولم يشم رائحة كرائحته.
 كان الأب عاقلاً ولذا كان متحرراً، كبر ابنه فاتخذه أخاً، في ساعات صفو مزاجه كان الأب يشاكس ولده ويسأله "كيف هى عيون الجو يا درش ؟".
 الجو كلمة غزل قديمة تنتمي لزمن الأستاذ فوزي أستاذ العربي في مدرسة ثانوية مغمورة، والجو هى نوال فلا جو، بل لا أرض سواها، ويوم بثت " الإذاعة مسلسلًا بعنوان "فين عيونك يا نوال؟" أصبح المسلسل وعنوانه رسائل مشفرة بين الولد وأبيه، تضحكهما مرة وتجذبهما مرات للحديث الجاد عن مسئولية الحب وعن نعمه وعن بركاته التي لا يحدها حد.
 إذن كانت قصة مصطفى ونوال شرعية تماماً وعلنية جداً، نعم مصطفى لم يكن يعرف عن نوال سوى أن اسمها نوال عامر علي سعيد، وأنها من مدينة قويسنا، فكثيرا ما انتظر لحظة هبوطها من القطار الصباحي الذي يحمل العمال وطلاب الجامعة.
 كيف هم أهل نوال؟
 هى قالت له: هم ناس طيبون.
 غير طيبة أهلها واسمها الرباعي واسم مدينتها لم يشغل مصطفى نفسه مرة بسؤالها، كما لم تكن هى تتحدث عن نفسها إلا بكلًم عام لا يقدم ولا يؤخر.
  لم يلم مصطفى نفسه مرة لأنه لم يسأل ولم يعرف ولم يكشف عن الجذور، لقد كانت قمره وكانت تغمره بضيائها، فما معنى البحث والتقصي؟

 *** 

يوم إعلان نتيجة البكالوريوس كانا معا في فناء كلية الهندسة بجامعة عين شمس، كانت أقصر منه فكانت تصعد بعينيها إلى حيث وجهه، وكانت تلك النظرة تذيبه وكان صعود عينيها يفتنه بل يفتته ويحيله إلى ذرات من ضوء شفاف نادر.
 يومها سألته بكل دلال عرفته البشرية: ها قد تخرجنا فماذا بعد؟.
 أجابها مصطفى بيقين الأنبياء والمرسلين: غداً الأحد ستكون القاهرة رحيمة، ستصحين مبكراً كعادتك، وسأنتظرك على رصيف القطار، ثم سنذهب إلى بيتنا، سيكون أمي وأبي في انتظارك لمنحك هدايا النجاح، ثم نأكل أحلى ملوخية خضراء من يد أحلى أم في الكون، ثم نهبط معاً إلى حيث شجرة المانجو التي أطلقت عليها اسمك، وتحت ظلها ورائحتها نتفق  على ميعاد أزورك فيه بصحبة أبي وأمي لطلب يدك الكريمة، لا تحسبي حساب شيء فأبي متكفل بكل تكاليف الخطوبة، هل رأيت كم هى سهلة أمورنا؟ عليك الافتخار بحبيبك الذي يهندس كل خطوة يخطوها. 
 في الصباح القاهري الرحيم، وقف مصطفى على الرصيف وجاء القطار لكن نوال لم تهبط منه. 
  
 عشرون يوما مضت ولم يظهر قمره، سأل عنها طوب الأرض وكلاب السكك، ذهب إلى قويسنا، وسأل كل المارة عن نوال عامر علي سعيد التي كانت طالبة في كلية الهندسة بجامعة عين شمس، البنت التي لها غمازتان، البنت التي لها شعر أسود غزير ناعم لامع، أقصد نوال التي تصعد بعينيها إلى أن تستقر نظراتها على صفحة وجهي، نوال التي .... 
 بعضهم سبوه، آخرون ظنوه مجنوناً، الرحماء قالوا له: أنت تبحث عن إبرة في كومة قش.
 مضت عشرون يوماً على غياب القمر، لم يكن مصطفى يأكل أو يشرب أو ينام أو يصحو أو يمشي أو يجلس أو يتكلم أو يصمت، الحق إنه كان  يسقط، كان يسقط في طبق الطعام أو في كوب الماء، قوة قاهرة كانت تسقطه في الضروريات، لكي يظل على قيد الحياة.
 في اليوم الواحد والعشرين على غياب القمر، دخل عليه أبوه غرفته، رآه ساقطاً في حالة الصحو، أخذه من يده وهبط إلى حيث مجلسهما تحت ظل ورائحة شجرة نوال.
  قال الأب: اسمع يا درش ما لن تسمعه من غيري، أنت ابني الوحيد، ولكن أخلاقك رفعتك إلى مقام الأخوة، أنت أخي يا ولد. 
  بداية أنت أخطأت وقد شاركتك أنا الخطأ عندما اكتفيت بمداعبات وحوارات لا تخص غيرنا، اسمع يا حبيبي: هى نوال عامر علي سعيد، ثم ماذا؟ 
  أنت لا تعرف رقم هاتفها، صدقتها عندما قالت لك: ليس لدينا هاتف.
 أنت لا تعرف عنوانها، ولا تعرف عمل أبيها ولا لقب عائلتها،  يا أخي أنا  الآن متشكك في صحة اسمها ما لم تكن قد رأيته بعينيك في ورق رسمي، لقد غاب عن المهندس عقله الهندسي الذي يحسب المسافات ويقيس الأبعاد.
  كل مشكلة يا ولدي ولها حل، لكن من المروءة ألا يبحث الرجل عن حل لبعض مشاكله، لأن الحل سيكون ملوثاً بأدران المذلة، نستطيع الوصول إلى ضابط في قسم شرطة  قويسنا، وسنقدم له مبررات بحثنا عنها، وسيقتنع عطفاً أو قانوناً، وسيستطيع الضابط بإمكانياته الوصول إليها، وجلبها إلى حيث تجلس، ثم ماذا؟ 
  هل ترضى بحب تحت هراوة البوليس؟
  الحب يا أخي الحبيب هو في كينونته نوع  من الرزق، وأنت لم ترزق حبها، ثم الحب من أوله لآخره ليس له معنى سوى العطاء، فماذا قدمت لك؟ أراهنك بما بقى من عمري أنك قدمت لها كل شيء من قلبك إلى هداياك، بينما هي لم تقدم شيئ يصح الكلام عنه.
 هى طعنة يا ولدي تهد جبلاً ولكن من قال لك: إنك لست أقوى من الجبل.

 *** 



  في اليوم الثاني والعشرين على غيابها كانت لا تزال قمراً بداخل مصطفى، في بقعة ما من قلبه، كانت تشع بهجتها.
  ولكن في ظهيرة ذلك اليوم دخلت عليه أمه غرفته، كان ساقطاً في نومه، أيقظته بلطفها المعهود، جلست على حافة سريره، قالت بصوت مختنق: ليس لي ولأبيك بعد الله سواك، فعاهدني على أن تعود الابن الذي أعرفه قبل قليل تسلمت من البوسطجي خطاباً لك، على غلافه اسمها، خذ الخطاب، اقرأه على مهل، ثم خذ القرار الذي به تحفظ لقلبك شرفه.
 لا قبل تلك الظهيرة، ولا بعدها جرب مصطفى ألماً كالذي سحق قلبه وهو يقرأ كلمات خطابها: "... مصطفى، أكتب لك من أمستردام، حيث كل شيء أجمل من مثيله في مصر  ، هنا الحياة، كما يجب أن تكون، ما علينا، منذ عرفتك وأنا ألفت نظرك إلى عيوبك ولكنك لم تكن تنتبه لكلامي، أنت أناني يا مصطفى، وبخيل، وأنت لا تعرف شيئاً عن الحب، وثقتك بنفسك تساوي صفراً كبيراً، ثم أنت فقير، ثم أنت متكبر قاس غليظ فظ متغطرس، تظن أن حياتك حياة وأن معيشتك معيشة، لقد سافرت لأعيش كما أحب أنا وليس كما يحب لي الآخرون، لن تقع عيناك علي ثانية، وحاول إصلاح عيوبك هذا لو كانت حياتك تهمك". 
  
***

   ما هذا؟ أهو بكل هذه البشاعة؟ متى لفتت نظره إلى عيوبه؟
   في كل مقابلة كانت تقول له وعيناها تصعد إلى وجهه: أنت فوق الإنسانية بشبرين، أنت المسطرة التي أقيس عليها أفعال الآخرين.
   لم تذكر له أبدأ عيباً من تلك العيوب التي ملأت بها رسالتها، كانت تعيب عليه إفراطه في السخاء، كانت تقول له: عيبك أنك تريد أن تصبح من يهب الآخرين أسماكه الملونة.
  أسئلة كأنها الخناجر كانت تمزق بهمجية كل جسده، ثم تتحول الخناجر إلى أحجار صلدة تطحن رأسه، ثم تتحول الأحجار إلى ثعابين تلتف حول عنقه وتغرس أنيابها في قلبه.
 يد قادرة قوية رفعته من فوق سريره، وقادته إلى حيث شجرتها.
 كانت يد أبيه، الرجل عاد من دوامه المدرسي فعرف بخبر الرسالة من زوجته، فلم يمهل نفسه حتى يبدل ملابسه، وقرر فتح كل جراح ولده بل وكيها لكي يخلصه من عذابه.
 بهدوء حاسم قال له أبوه: هات الرسالة يا ولدي.
 أخرج مصطفى الرسالة من جيبه، قدمها لأبيه، جرت عيون الأب على السطور ثم أعاد له الرسالة وثمة ابتسامة عجيبة تتراقص على شفتيه.
  قال الأب: لن أقسم لك بالله، سأقسم لك بعذابك، فأنت الآن لا تؤمن سوى بعذابك، أخشى أن يكون إيمانك قد رفع عنك هذه الأيام.
   لقد كنت متأكدًا أنها ستتصل بك بطريقة ما، وكنت متأكدًا من أنها ستقول عنك ما قالت.
   اسمع يا غالي: أظنك تعرف المثل الذي يتحدث عن العاهرة التي ترميك بعيوبها، استغفر الله ربي، صاحبتك واحدة منهن، حتى وإن كان جسدها لم يمسسه بشر، العهر هناك يا مصطفى في منطقة عميقة من القلب، قد لا يعرف بوجوده سوى مولانا عز وجل، وهى ليست معوجة كغيرها، لقد بلغت الدرك الأسفل من العوج، أفسدت عليك خمس سنوات، ثم تريد أن تدمر ما بقى لك من عمر، كيف يا مصطفى تكون فقيراً، وثقتك بنفسك صفراً، ثم تكون متكبراً قاسياً فظاً غليظاً متغطرساً؟
  الأمر واضح يا ولدي وأخي وضوح شمس الظهيرة، هى تريد تشويش رؤيتك لنفسك، تريد أن تلقي بك فريسة للإحساس بالذنب، ستنجح في تحقيق أهدافها عندما تستسلم أنت لها.
  أخيراً عادت لمصطفى إرادته فاكتشف أنه لا يزال قادراً على الكلام فقال:  لماذا فعلت ما فعلت، كان بمقدورها هجري عبر ألف طريقة غير الطريقة  التي اختارتها؟
 علت علامات الحزن وجه الأب وقال: كلمة لماذا هذه هى أول الخراب، لن تحصل على إجابة، فتظل لماذا هذه تكبر وتتمدد حتى تسد عليك الأفق،   فتنام عليها وتصحو عليها، تلك البنت هى  مصاصة دماء لا أكثر ولا أقل، مصت دمك خمس سنوات، وعندما تأكدت من نفاد ما لديك، بحثت عن آخر تمتص دمه، ثم ستبحث عن ثالث ورابع، وستظل هكذا تتخبط في دماء ضحاياها إلى أن يهلكها الله، فمثلها لا يعرف الشبع أبدًا، ثم يا أخي تسمعهم يقولون: اتق شر من أحسنت إليه.
  عندما تحسن إلى خسيس وضيع فكأنك تطعنه في قلبه، لأن إحسانك يذكره دائمًا بخسته ووضاعته، هو يرى إحسانك بوصفه ذنبًا عظيمًا ترتكبه في حقه فلا يغفره لك أبًدا.         ستسألني: لماذا؟
  يا أخي ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، إن أعقد شيء في خلق الله هو النفس البشرية، فقم وبارك لنفسك خروجها من حياتك، كانت ستقودك إلى الجنون، ثم يا أخي ألا تخجل من جلوسك كتلميذ بين يدي رجل عجوز يعمل بتدريس اللغة العربية في مدرسة مغمورة؟

  أنا لم أتعلم كما تعلمت، ولم أشاهد كما شاهدت، ولم أسمع كما سمعت، ولم أقرأ كما قرأت، فكيف تسمح لنفسك بأن أنصحك؟
   قم يا درش فاغتسل وتطهر واجعلها تنزلق مع ماء غسلك إلى البلاعة، هذا هو المكان الوحيد الذي يليق بها وتليق به. 

*** 
  
مرت سبع وعشرون سنة على تلك الجلسة، ماتت فيها أمه ولحق بها أبوه وتزوج فيها المرأة التي ستكرهه، ومع كرهها فقد ولدت له بنتًا  وولدين.
 عندما خارت قواه تحت وطأة فشله في إصلاح الأمور بينه وبين زوجته جاءه صوت أبيه: "اسمع يا درش هل قصر نوح ولوط في الإحسان إلى امرأتيهما؟ إنهما من المعصومين  يا ولد، لقد ابتلاهما الله بامرأتين نعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم".
  ذهب عنه صوت أبيه فكف عن محاولة الإصلاح وأراح رأسه على جدار الاستسلام.
 لم تفسد قصة نوال علاقاته بالناس، ولكنها صنعت للعلاقة  إطارًا جديدًا لا يمكنه تجاوزه، يقول له أحدهم: "صباح الخير" فيرد "صباح الخير"، بعد نوال لم يرد قط مبتهجًا: "صباح الخير صباح الهناء صباح السرور"، هي  كلمة وردها ، يقول له أحدهم: "خذ" فيرد: "هات".
 نبع التدفق والمبالغات اللطيفة جف بداخله، لم يعد يبادر بالإحسان ولا بالإساءة، أصبح محتميًا بكهف رد الفعل.


 *** 




  عندما حصل مصطفى على شهادة الهندسة قسم عمارة، كانت الحكومة تقوم بتعيين الخريجين، ومع ذلك لم يتقدم من أبناء دفعته للعمل الحكومي سوى قلة لا تكاد تذكر، كان هو من تلك القلة.
  الكثرة سافرت إلى الخليج فور تخرجها، وبعضهم ذهب إلى الشركات والمكاتب الهندسية الخاصة، حيث المال الوفير، والمستقبل اللامع. 
  لماذا قبل بالعمل الحكومي، كان يراهن على أن عمل الحكومة سيتيح له الأمان الوظيفي والهدوء والوقت الذي يجعله يواصل رحلة تعلمه لفنون العمارة.
 رهان عجيب يليق وشخصيته العجيبة، سرعان ما نسفته حقائق الواقع.
 دخل مصطفى إلى مكتبه في الحي الشهير بفساده متسلحًا بتاريخ أبيه الوظيفي، فمن خلال أبيه عرف مصطفى أن الفساد والعمل الرسمي توأم ملتصق لا حياة لأحدهما بدون الآخر.
  إدارة التراخيص كانت أفسد إدارات الحي، يحكم مصطفى اللوائح والقوانين في كل ورقة تعرض عليه، فيرفض أو يقبل بناءً على ما قاله المشرع الحكيم، ثم يفاجأ بأن ما قبله أصبح مرفوضًا، وما رفضه أصبح مقبولاً
  كان يهمس لرئيسه المباشر: كيف هذا سيدي الرئيس؟     فيرد رئيسه: لكل عمله، أنت قمت بعملك ورفضت، وغيرك قام بعمله ووافق، إذن ليس هناك مقصر.
 كان مصطفى في تلك الأيام البعيدة يقول لنفسه: نعم ليس هناك مقصر، هنا جريمة تخريب تحدث عن عمد وعن قصد وعن نية مبيتة، اللائحة واحدة، وكذا القانون فلماذا يحضران مع هذا ويغيبان عن ذاك؟
  الجريمة تبدو آثارها واضحة على هيئة ونفوذ وثروات زملاء العمل، المهندسة سناء أصبح لقبها هو الحاجة، تعتمر أكثر من مرة كل عام، وتحج مرة كل عامين وتقرض الناس بالربا الفاحش. 
   أما ماري جرجس فأصبح لا يشار إليها إلا بلقب الهانم.      كانت ماري جارته في حي الوايلي، ولدت هى في شقة من شققه وولد هو في بيت من بيوته.
 ذهبت ماري إلى المعادي، واقتنت سيارة مرسيدس، أما عن ملابسها وحليّها فحدث ولا حرج. 
  
كان مصطفى يبتسم عندما يسمع أحدهم يتحدث عن ماري بوصفها ماري البرديسي!
 أي برديسي! إنها ماري جرجس إسحاق رفيقة طفولته وشبابه وزميلة دفعته، فمن أين جاء البرديسي هذه؟
  ثم تتحول ابتسامة مصطفى إلى ضحكة مريرة عندما يتذكر أن البرديسي هو مختار إبراهيم البرديسي المقاول الشهير الذي تربطه بماري علاقة  جعلتها ترفض كل خاطب حتى أصبح عمرها نصف قرن!
   الباشا أصبح اللقب الرسمي لحاتم الذي يسبق  مصطفى بدفعة واحدة، كان هو يوم عيد لصغار الموظفين وكبارهم، يوم وجود حاتم باشا في المكتب على حد سواء، ففي حقيبته يوجد حل لكل المشاكل، عقد عمل داخلي أو خارجي، قرض حسن، فرصة سفر ولو للتنزه، تأشيرة عمرة أو حج، أين  يعمل حاتم نادر الوجود في المكتب؟
  لا أحد يعلم على وجه القطع واليقين، يقولون: يعمل مع الخلايجة في مصر أو خارجها، ويقولون: يعمل مع جهة غامضة قادرة على جعل التراب ذهبًا، ويقولون: هو لا يعمل، مكتفيًا بقيامه بإنهاء المعقد من الإجراءات لناس لا يجدون وقتًا ولاطاقةً للسعي خلف أوراق تتوه عن عمد في دهاليز إدارات الحكومة.
  كل تلك التطورات حدثت في أول خمس سنوات من تاريخ عمل مصطفى وتلك التطورات رصدها بدقة وحفرها على جدران ذاكرته لكى لا تضيع منه بفعل مرور الزمان.
 بعد سنوات الرصد تلك، كف عن رصد أي شيء، فلم يعد هناك جديد، لقد أصبحت تضاريس خريطة المكان بقممه وسفوحه وتعقد طرقاته وغموض أوديتهم أوضح من أن يعتني بها واحد مثله.
 كانت المعادلة بسيطة جًدا ولكنها في غاية الحسم، كن فاسًدا تربح متع الدنيا، كن شريفًا وعش حياة تبدو كالحياة.

  ***

..... وإلى الجزء الثاني 

هناك 4 تعليقات:

  1. حبيبى الغالى أيتاذ / حمدى ... أكثر من رائعة ... وفى إنتظار الجزء الثانى ....

    ردحذف
  2. ×نموذج رأيناه بل رأينا منه الكثير،وأشد من ذلك وأقبح..
    ×والدنيا عامرة بهم خرابًا في كل مجال وموقع ومنشط..
    ×سواء نموذج المهندسة الطموع لا الطموح،ونماذج زملاء العمل المقبوحين؟!!

    ردحذف
    الردود
    1. للأسف أصبحت هذه النماذج هى السائدة وماعداها من أصحاب المبادئ والضمائر الحرة هم الاستثناء
      تحياتى وامتنانى أستاذى الفاضل

      حذف