يبدو المهندس مصطفى كأنه كتلة من المشاكل والمآزق والأزمات، يخرج من واحدة فيجد أختها تطرق بابه، العجيب في أمره أنه عاش عمره مؤمناً بأن كل مشكلة لها حل، وأن المشكلة التي تجعل صاحبها يقف متأرجحاً بين الموت والحياة صارخ: "أكون أو لا أكون". لم ولن تخلق.
***
مصطفى فوزي، مهندس التراخيص في الحي الشهير جدًا بفساده، هبطت على قلبه، بل سحقت كيانه مشكلة. لقد تجاوز ما أهو أشد منها، لكنه الآن يقف مكتوف اليدين وقد تزعزع إيمانه القديم الذي كان يرعاه ويحنو عليه كأن ذلك الإيمان طفل وهو الأم التي لا تحتمل أن يمس الهواء شعر وحيدها. مصطفي في الخمسين من عمره، يعني ما مضى أكثر مما بقى، متزوج من امرأة تكرهه وتتفنن في تقديم أدلة كرهها له، يعول نفسه والمرأة التي تكرهه وولدين وبنتاً.
يحب أن يكون نظيفاً لامعاً مهندماً، وهو لا يبخل على نفسه بالعطور الأصلية، كما ـ وهذه إحدي مشاكله ـ يدمن تدخين السجائر الأجنبية، مصاب بأنواع عديدة من الإدمان، فهو يدمن الشرود، ويدمن الاهتمام بحديقة منزله والرسوم الهندسية والقراءة وسماع الموسيقى، كل هذا، إضافة إلى إدمانه المزمن لتقديم حلول منطقية جًدا لأي مشكلة يطرحها صاحبها عليه!
***
ما هى مشكلة مصطفى الكبرى؟
مشكلته الكبرى، هى تحليه بصورة خارجية تجعله يبدو رجلاً بدون مشاكل، ليس لأنه حلال العقد ولكن لأنه لم يتحدث قط عن واحدة من مشاكله، وتكتمه هذا يعود لسبب يتوافق مع شخصيته.
إنه يعرف كل ما يمكن أن تطرحه عليه بوصفه حلاً لمشكلته، هو لا يشكك في نيتك، بل يعلم أنك جاد ومخلص وعاقل، ولكنه لن يعمل بحرف من كلامك، ليس كبرا أو غطرسة، ولكن لأن حلولك المنطقية العاقلة لا تتوافق مع شخصية مصطفى!
ولكي لا يخسرك فهو لن يهمس لك أبًدا: أنا في مشكلة.
***
كان المنطق يحتم أن يبدأ مصطفى رحلته العملية وهو في غاية الاكتئاب والتشكك في كل شيء، فقبل التحاقه بالعمل بشهور، كان قد خسر قلبه.
خمس سنوات قضاها مصطفى ليس في دراسة الهندسة ولكن في حب نوال، من إعدادي هندسة إلى سنة التخرج والجميع يعلم أن نوال لمصطفى ومصطفى لنوال، كانت أمه وقتها على قيد الحياة وكانت ترسل لعروس الغالي المنتظرة ليس السلامات فقط، ولكن مرة ترسل شالاً من الحرير، ومرة ترسل بلوزة من القطن المصري، وفي مرة أرسلت كيس ممتلئاً بليمون لم ير مصطفى خضرة كخضرته ولم يشم رائحة كرائحته.
كان الأب عاقلاً ولذا كان متحرراً، كبر ابنه فاتخذه أخاً، في ساعات صفو مزاجه كان الأب يشاكس ولده ويسأله "كيف هى عيون الجو يا درش ؟".
الجو كلمة غزل قديمة تنتمي لزمن الأستاذ فوزي أستاذ العربي في مدرسة ثانوية مغمورة، والجو هى نوال فلا جو، بل لا أرض سواها، ويوم بثت " الإذاعة مسلسلًا بعنوان "فين عيونك يا نوال؟" أصبح المسلسل وعنوانه رسائل مشفرة بين الولد وأبيه، تضحكهما مرة وتجذبهما مرات للحديث الجاد عن مسئولية الحب وعن نعمه وعن بركاته التي لا يحدها حد.
إذن كانت قصة مصطفى ونوال شرعية تماماً وعلنية جداً، نعم مصطفى لم يكن يعرف عن نوال سوى أن اسمها نوال عامر علي سعيد، وأنها من مدينة قويسنا، فكثيرا ما انتظر لحظة هبوطها من القطار الصباحي الذي يحمل العمال وطلاب الجامعة.
كيف هم أهل نوال؟
هى قالت له: هم ناس طيبون.
غير طيبة أهلها واسمها الرباعي واسم مدينتها لم يشغل مصطفى نفسه مرة بسؤالها، كما لم تكن هى تتحدث عن نفسها إلا بكلًم عام لا يقدم ولا يؤخر.
لم يلم مصطفى نفسه مرة لأنه لم يسأل ولم يعرف ولم يكشف عن الجذور، لقد كانت قمره وكانت تغمره بضيائها، فما معنى البحث والتقصي؟
***
يوم إعلان نتيجة البكالوريوس كانا معا في فناء كلية الهندسة بجامعة عين شمس، كانت أقصر منه فكانت تصعد بعينيها إلى حيث وجهه، وكانت تلك النظرة تذيبه وكان صعود عينيها يفتنه بل يفتته ويحيله إلى ذرات من ضوء شفاف نادر.
يومها سألته بكل دلال عرفته البشرية: ها قد تخرجنا فماذا بعد؟.
أجابها مصطفى بيقين الأنبياء والمرسلين: غداً الأحد ستكون القاهرة رحيمة، ستصحين مبكراً كعادتك، وسأنتظرك على رصيف القطار، ثم سنذهب إلى بيتنا، سيكون أمي وأبي في انتظارك لمنحك هدايا النجاح، ثم نأكل أحلى ملوخية خضراء من يد أحلى أم في الكون، ثم نهبط معاً إلى حيث شجرة المانجو التي أطلقت عليها اسمك، وتحت ظلها ورائحتها نتفق على ميعاد أزورك فيه بصحبة أبي وأمي لطلب يدك الكريمة، لا تحسبي حساب شيء فأبي متكفل بكل تكاليف الخطوبة، هل رأيت كم هى سهلة أمورنا؟ عليك الافتخار بحبيبك الذي يهندس كل خطوة يخطوها.
في الصباح القاهري الرحيم، وقف مصطفى على الرصيف وجاء القطار لكن نوال لم تهبط منه.
عشرون يوما مضت ولم يظهر قمره، سأل عنها طوب الأرض وكلاب السكك، ذهب إلى قويسنا، وسأل كل المارة عن نوال عامر علي سعيد التي كانت طالبة في كلية الهندسة بجامعة عين شمس، البنت التي لها غمازتان، البنت التي لها شعر أسود غزير ناعم لامع، أقصد نوال التي تصعد بعينيها إلى أن تستقر نظراتها على صفحة وجهي، نوال التي ....
بعضهم سبوه، آخرون ظنوه مجنوناً، الرحماء قالوا له: أنت تبحث عن إبرة في كومة قش.
مضت عشرون يوماً على غياب القمر، لم يكن مصطفى يأكل أو يشرب أو ينام أو يصحو أو يمشي أو يجلس أو يتكلم أو يصمت، الحق إنه كان يسقط، كان يسقط في طبق الطعام أو في كوب الماء، قوة قاهرة كانت تسقطه في الضروريات، لكي يظل على قيد الحياة.
في اليوم الواحد والعشرين على غياب القمر، دخل عليه أبوه غرفته، رآه ساقطاً في حالة الصحو، أخذه من يده وهبط إلى حيث مجلسهما تحت ظل ورائحة شجرة نوال.
قال الأب: اسمع يا درش ما لن تسمعه من غيري، أنت ابني الوحيد، ولكن أخلاقك رفعتك إلى مقام الأخوة، أنت أخي يا ولد.
بداية أنت أخطأت وقد شاركتك أنا الخطأ عندما اكتفيت بمداعبات وحوارات لا تخص غيرنا، اسمع يا حبيبي: هى نوال عامر علي سعيد، ثم ماذا؟
أنت لا تعرف رقم هاتفها، صدقتها عندما قالت لك: ليس لدينا هاتف.
أنت لا تعرف عنوانها، ولا تعرف عمل أبيها ولا لقب عائلتها، يا أخي أنا الآن متشكك في صحة اسمها ما لم تكن قد رأيته بعينيك في ورق رسمي، لقد غاب عن المهندس عقله الهندسي الذي يحسب المسافات ويقيس الأبعاد.
كل مشكلة يا ولدي ولها حل، لكن من المروءة ألا يبحث الرجل عن حل لبعض مشاكله، لأن الحل سيكون ملوثاً بأدران المذلة، نستطيع الوصول إلى ضابط في قسم شرطة قويسنا، وسنقدم له مبررات بحثنا عنها، وسيقتنع عطفاً أو قانوناً، وسيستطيع الضابط بإمكانياته الوصول إليها، وجلبها إلى حيث تجلس، ثم ماذا؟
هل ترضى بحب تحت هراوة البوليس؟
الحب يا أخي الحبيب هو في كينونته نوع من الرزق، وأنت لم ترزق حبها، ثم الحب من أوله لآخره ليس له معنى سوى العطاء، فماذا قدمت لك؟ أراهنك بما بقى من عمري أنك قدمت لها كل شيء من قلبك إلى هداياك، بينما هي لم تقدم شيئ يصح الكلام عنه.
هى طعنة يا ولدي تهد جبلاً ولكن من قال لك: إنك لست أقوى من الجبل.
***
في اليوم الثاني والعشرين على غيابها كانت لا تزال قمراً بداخل مصطفى، في بقعة ما من قلبه، كانت تشع بهجتها.
ولكن في ظهيرة ذلك اليوم دخلت عليه أمه غرفته، كان ساقطاً في نومه، أيقظته بلطفها المعهود، جلست على حافة سريره، قالت بصوت مختنق: ليس لي ولأبيك بعد الله سواك، فعاهدني على أن تعود الابن الذي أعرفه قبل قليل تسلمت من البوسطجي خطاباً لك، على غلافه اسمها، خذ الخطاب، اقرأه على مهل، ثم خذ القرار الذي به تحفظ لقلبك شرفه.
لا قبل تلك الظهيرة، ولا بعدها جرب مصطفى ألماً كالذي سحق قلبه وهو يقرأ كلمات خطابها: "... مصطفى، أكتب لك من أمستردام، حيث كل شيء أجمل من مثيله في مصر ، هنا الحياة، كما يجب أن تكون، ما علينا، منذ عرفتك وأنا ألفت نظرك إلى عيوبك ولكنك لم تكن تنتبه لكلامي، أنت أناني يا مصطفى، وبخيل، وأنت لا تعرف شيئاً عن الحب، وثقتك بنفسك تساوي صفراً كبيراً، ثم أنت فقير، ثم أنت متكبر قاس غليظ فظ متغطرس، تظن أن حياتك حياة وأن معيشتك معيشة، لقد سافرت لأعيش كما أحب أنا وليس كما يحب لي الآخرون، لن تقع عيناك علي ثانية، وحاول إصلاح عيوبك هذا لو كانت حياتك تهمك".
***
ما هذا؟ أهو بكل هذه البشاعة؟ متى لفتت نظره إلى عيوبه؟
في كل مقابلة كانت تقول له وعيناها تصعد إلى وجهه: أنت فوق الإنسانية بشبرين، أنت المسطرة التي أقيس عليها أفعال الآخرين.
لم تذكر له أبدأ عيباً من تلك العيوب التي ملأت بها رسالتها، كانت تعيب عليه إفراطه في السخاء، كانت تقول له: عيبك أنك تريد أن تصبح من يهب الآخرين أسماكه الملونة.
أسئلة كأنها الخناجر كانت تمزق بهمجية كل جسده، ثم تتحول الخناجر إلى أحجار صلدة تطحن رأسه، ثم تتحول الأحجار إلى ثعابين تلتف حول عنقه وتغرس أنيابها في قلبه.
يد قادرة قوية رفعته من فوق سريره، وقادته إلى حيث شجرتها.
كانت يد أبيه، الرجل عاد من دوامه المدرسي فعرف بخبر الرسالة من زوجته، فلم يمهل نفسه حتى يبدل ملابسه، وقرر فتح كل جراح ولده بل وكيها لكي يخلصه من عذابه.
بهدوء حاسم قال له أبوه: هات الرسالة يا ولدي.
أخرج مصطفى الرسالة من جيبه، قدمها لأبيه، جرت عيون الأب على السطور ثم أعاد له الرسالة وثمة ابتسامة عجيبة تتراقص على شفتيه.
قال الأب: لن أقسم لك بالله، سأقسم لك بعذابك، فأنت الآن لا تؤمن سوى بعذابك، أخشى أن يكون إيمانك قد رفع عنك هذه الأيام.
لقد كنت متأكدًا أنها ستتصل بك بطريقة ما، وكنت متأكدًا من أنها ستقول عنك ما قالت.
اسمع يا غالي: أظنك تعرف المثل الذي يتحدث عن العاهرة التي ترميك بعيوبها، استغفر الله ربي، صاحبتك واحدة منهن، حتى وإن كان جسدها لم يمسسه بشر، العهر هناك يا مصطفى في منطقة عميقة من القلب، قد لا يعرف بوجوده سوى مولانا عز وجل، وهى ليست معوجة كغيرها، لقد بلغت الدرك الأسفل من العوج، أفسدت عليك خمس سنوات، ثم تريد أن تدمر ما بقى لك من عمر، كيف يا مصطفى تكون فقيراً، وثقتك بنفسك صفراً، ثم تكون متكبراً قاسياً فظاً غليظاً متغطرساً؟
الأمر واضح يا ولدي وأخي وضوح شمس الظهيرة، هى تريد تشويش رؤيتك لنفسك، تريد أن تلقي بك فريسة للإحساس بالذنب، ستنجح في تحقيق أهدافها عندما تستسلم أنت لها.
أخيراً عادت لمصطفى إرادته فاكتشف أنه لا يزال قادراً على الكلام فقال: لماذا فعلت ما فعلت، كان بمقدورها هجري عبر ألف طريقة غير الطريقة التي اختارتها؟
علت علامات الحزن وجه الأب وقال: كلمة لماذا هذه هى أول الخراب، لن تحصل على إجابة، فتظل لماذا هذه تكبر وتتمدد حتى تسد عليك الأفق، فتنام عليها وتصحو عليها، تلك البنت هى مصاصة دماء لا أكثر ولا أقل، مصت دمك خمس سنوات، وعندما تأكدت من نفاد ما لديك، بحثت عن آخر تمتص دمه، ثم ستبحث عن ثالث ورابع، وستظل هكذا تتخبط في دماء ضحاياها إلى أن يهلكها الله، فمثلها لا يعرف الشبع أبدًا، ثم يا أخي تسمعهم يقولون: اتق شر من أحسنت إليه.
عندما تحسن إلى خسيس وضيع فكأنك تطعنه في قلبه، لأن إحسانك يذكره دائمًا بخسته ووضاعته، هو يرى إحسانك بوصفه ذنبًا عظيمًا ترتكبه في حقه فلا يغفره لك أبًدا.
ستسألني: لماذا؟ يا أخي ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، إن أعقد شيء في خلق الله هو النفس البشرية، فقم وبارك لنفسك خروجها من حياتك، كانت ستقودك إلى الجنون، ثم يا أخي ألا تخجل من جلوسك كتلميذ بين يدي رجل عجوز يعمل بتدريس اللغة العربية في مدرسة مغمورة؟
أنا لم أتعلم كما تعلمت، ولم أشاهد كما شاهدت، ولم أسمع كما سمعت، ولم أقرأ كما قرأت، فكيف تسمح لنفسك بأن أنصحك؟
قم يا درش فاغتسل وتطهر واجعلها تنزلق مع ماء غسلك إلى البلاعة، هذا هو المكان الوحيد الذي يليق بها وتليق به.
***
مرت سبع وعشرون سنة على تلك الجلسة، ماتت فيها أمه ولحق بها أبوه وتزوج فيها المرأة التي ستكرهه، ومع كرهها فقد ولدت له بنتًا وولدين.
عندما خارت قواه تحت وطأة فشله في إصلاح الأمور بينه وبين زوجته جاءه صوت أبيه: "اسمع يا درش هل قصر نوح ولوط في الإحسان إلى امرأتيهما؟ إنهما من المعصومين يا ولد، لقد ابتلاهما الله بامرأتين نعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم".
ذهب عنه صوت أبيه فكف عن محاولة الإصلاح وأراح رأسه على جدار الاستسلام.
لم تفسد قصة نوال علاقاته بالناس، ولكنها صنعت للعلاقة إطارًا جديدًا لا يمكنه تجاوزه، يقول له أحدهم: "صباح الخير" فيرد "صباح الخير"، بعد نوال لم يرد قط مبتهجًا: "صباح الخير صباح الهناء صباح السرور"، هي كلمة وردها ، يقول له أحدهم: "خذ" فيرد: "هات".
نبع التدفق والمبالغات اللطيفة جف بداخله، لم يعد يبادر بالإحسان ولا بالإساءة، أصبح محتميًا بكهف رد الفعل.
***
عندما حصل مصطفى على شهادة الهندسة قسم عمارة، كانت الحكومة تقوم بتعيين الخريجين، ومع ذلك لم يتقدم من أبناء دفعته للعمل الحكومي سوى قلة لا تكاد تذكر، كان هو من تلك القلة.
الكثرة سافرت إلى الخليج فور تخرجها، وبعضهم ذهب إلى الشركات والمكاتب الهندسية الخاصة، حيث المال الوفير، والمستقبل اللامع.
لماذا قبل بالعمل الحكومي، كان يراهن على أن عمل الحكومة سيتيح له الأمان الوظيفي والهدوء والوقت الذي يجعله يواصل رحلة تعلمه لفنون العمارة.
رهان عجيب يليق وشخصيته العجيبة، سرعان ما نسفته حقائق الواقع.
دخل مصطفى إلى مكتبه في الحي الشهير بفساده متسلحًا بتاريخ أبيه الوظيفي، فمن خلال أبيه عرف مصطفى أن الفساد والعمل الرسمي توأم ملتصق لا حياة لأحدهما بدون الآخر.
إدارة التراخيص كانت أفسد إدارات الحي، يحكم مصطفى اللوائح والقوانين في كل ورقة تعرض عليه، فيرفض أو يقبل بناءً على ما قاله المشرع الحكيم، ثم يفاجأ بأن ما قبله أصبح مرفوضًا، وما رفضه أصبح مقبولاً!
كان يهمس لرئيسه المباشر: كيف هذا سيدي الرئيس؟ فيرد رئيسه: لكل عمله، أنت قمت بعملك ورفضت، وغيرك قام بعمله ووافق، إذن ليس هناك مقصر.
كان مصطفى في تلك الأيام البعيدة يقول لنفسه: نعم ليس هناك مقصر، هنا جريمة تخريب تحدث عن عمد وعن قصد وعن نية مبيتة، اللائحة واحدة، وكذا القانون فلماذا يحضران مع هذا ويغيبان عن ذاك؟
الجريمة تبدو آثارها واضحة على هيئة ونفوذ وثروات زملاء العمل، المهندسة سناء أصبح لقبها هو الحاجة، تعتمر أكثر من مرة كل عام، وتحج مرة كل عامين وتقرض الناس بالربا الفاحش.
أما ماري جرجس فأصبح لا يشار إليها إلا بلقب الهانم. كانت ماري جارته في حي الوايلي، ولدت هى في شقة من شققه وولد هو في بيت من بيوته.
ذهبت ماري إلى المعادي، واقتنت سيارة مرسيدس، أما عن ملابسها وحليّها فحدث ولا حرج.
كان مصطفى يبتسم عندما يسمع أحدهم يتحدث عن ماري بوصفها ماري البرديسي!
أي برديسي! إنها ماري جرجس إسحاق رفيقة طفولته وشبابه وزميلة دفعته، فمن أين جاء البرديسي هذه؟
ثم تتحول ابتسامة مصطفى إلى ضحكة مريرة عندما يتذكر أن البرديسي هو مختار إبراهيم البرديسي المقاول الشهير الذي تربطه بماري علاقة جعلتها ترفض كل خاطب حتى أصبح عمرها نصف قرن!
الباشا أصبح اللقب الرسمي لحاتم الذي يسبق مصطفى بدفعة واحدة، كان هو يوم عيد لصغار الموظفين وكبارهم، يوم وجود حاتم باشا في المكتب على حد سواء، ففي حقيبته يوجد حل لكل المشاكل، عقد عمل داخلي أو خارجي، قرض حسن، فرصة سفر ولو للتنزه، تأشيرة عمرة أو حج، أين يعمل حاتم نادر الوجود في المكتب؟
لا أحد يعلم على وجه القطع واليقين، يقولون: يعمل مع الخلايجة في مصر أو خارجها، ويقولون: يعمل مع جهة غامضة قادرة على جعل التراب ذهبًا، ويقولون: هو لا يعمل، مكتفيًا بقيامه بإنهاء المعقد من الإجراءات لناس لا يجدون وقتًا ولاطاقةً للسعي خلف أوراق تتوه عن عمد في دهاليز إدارات الحكومة.
كل تلك التطورات حدثت في أول خمس سنوات من تاريخ عمل مصطفى وتلك التطورات رصدها بدقة وحفرها على جدران ذاكرته لكى لا تضيع منه بفعل مرور الزمان.
بعد سنوات الرصد تلك، كف عن رصد أي شيء، فلم يعد هناك جديد، لقد أصبحت تضاريس خريطة المكان بقممه وسفوحه وتعقد طرقاته وغموض أوديتهم أوضح من أن يعتني بها واحد مثله.
كانت المعادلة بسيطة جًدا ولكنها في غاية الحسم، كن فاسًدا تربح متع الدنيا، كن شريفًا وعش حياة تبدو كالحياة.
***
عاش مصطفى مع المرأة التي ستكرهه سنوات زواجهما الأولى في هدوء يغلفه الرضا، لم يكن مصطفى يطلب أكثر من هذا. ثم حملت زوجته وجاءت له بمنى، التي بمجيئها انهارت معظم السدود التي أقامها مصطفى بينه وبين الناس.
قال لنفسه وهو يرى تدفقه تجاه طفلته: ابنتي ليست من الناس، إنها المستقبل فإن كنت قد خسرت الماضي ومعه الحاضر فكيف أخسر المستقبل؟
بعد منى بعام واحد فقط وفي بطن واحد جاء شقيقاها بلال ويحيي، بلال سبق يحيي بخمس دقائق كاملة، جعلته الكبير المطاع! وبمجيئهما انهارت السدود.
لقد عاد مصطفى إلى زمنه مع نوال، حيث التعلق بأدق تفاصيل المحبوب، كان إن مرض أحدهم يكاد يجن، كان إذا جاء من عمله يبدأ بمداعبتهم قبل أي شيء.
لقد أخلى لهم أكبر وأطهر غرف قلبه لكي يقيموا بها إقامة دائمة غير مشروطة.
عاش مصطفى سنوات اعتصر فيها دماغه لكي يصل إلى تلك النقطة التي بدأ منها نشع كراهية زوجته له يضرب أساس البناء.
هو لم يكن من الذين يؤمنون بالتبدل الفجائي، هناك نقطة سم سقطت في الكأس ثم تراكمت النقاط حتى فاضت الكأس، كان يسأل نفسه: هل بدأ الأمر في تلك الليلة التي قالت فيها كذا فرددت أنا بكذا؟
أم بدأ في ذلك الضحى الذي فعلت فيه كذا ففعلت أنا كذا؟
أين نقطة البداية؟
بدون تحديدها بصرامة وحسم لن يصل إلى شيء.
ثم أخيرًا رحمه الله من وعثاء التفكير وهداه لتأمل وقراءة شخصية زوجته.
المرأة لم تكن طيبة في يوم من الأيام، لطف السنوات الأولى لم يكن لطفًا.
كانت سعيدة وهى ترى أحلامها تتحقق، فها قد تزوجت بشاب مرموق ثم ها هي في فترة وجيزة تصبح أمًا لبنت وولدين، سعادتها بتحقيق أحلامها جعلها تبدو لطيفة هادئة راضية، ثم كان افتعال اللطف ضروريًا، فكيف كانت ستسوق له نفسها بدونه؟
أما وقد تحققت الأحلام فقد حان وقت خلع الأقنعة، ظهر له أن المرأة تعاني من إحساس مقيم راسخ بالضآلة، حاول البحث عن سبب لذلك الإحساس فلم يظفر بشيء، هى ضئيلة وانتهى الأمر.
كانت تحاول دفع الضآلة عنها، فبدأت بالتنمر ثم لم تجده نافعًا، فراحت تكتئب، ثم لم تجد الكآبة ترفع لها ذكرًا، فقذفت بنفسها إلى قاع التوحش.
نامت ثم صحت فوجدته سخيفًا متعاليًا متغطرسًا ماديًا يعبد القرش ويسجد لمنفعته الخاصة، خياليًا، خائبًا، بليدًا، هو بالجملة الشيطان الرجيم، الذي ليس بأرضه ولو بقعة واحدة تصلح لزراعة أي شيء نافع، فكل أرضه نجسة عاقر.
***
أدرك مصطفى أن تخلصه منها لا يعني سوى حرمانه إلى الأبد من أولاده، فهى متوحشة ولن تقيم وزنًا لشيء أو لأحد، إنها من ذلك الصنف الذي يقطع أنفه ليغيظ جاره.
ثم أدرك أن حرمانه من أولاده يعني موته البطيء، وهو لا يريد الموت البطيء، إنه يتمنى أن يموت مرة واحدة، دفعة واحدة.
على ما سبق فقد اعتصم بأمور حياته السرية شديدة العلًنية!
فهو يقرأ وينهل من أصفى ينابيع المعرفة التي تحتويها كتب مكتبة أسسها هو وأبوه، ثم هو يواصل تعلمه فنون العمارة، كأن أئمة ذلك الفن سيمتحنونه بعد ساعة، لقد وقع في غواية حسن فتحي.
كان طالباً عندما كان حسن فتحي في سنواته الأخيرة، لم يسع للقائه، ظنًا منه أن الرجل لن يموت إلا بعد أن يعيش عمر نوح!
وعندما عرف بخبر رحيله ضربه ألم من ذلك الألم الذي كان يضربه في زمن نوال، اعتذر عن تقصيره في حق المهندس العبقري وراح يتتبع لمساته حتى عرف بين أبناء جيله بأنه أنجب تلاميذ مدرسة حسن فتحي الهندسية.
لقد نجا مصطفى من فخاخ كراهية زوجته له لأن كل ما كان يفعله كان يفعله بروح ذلك الصوفي الذي يراه الناس يصلي ولكن لا يعرف أحد حقيقة مشاعره وقت صلاته.
لم يسمح مصطفى لأحد بأن يفسد عليه مشاريعه التي أنفق عليها عمره، مشاريعه تلك تبدأ من عنايته الفائقة بأشجار حديقته اللطيفة وتنتهى برسوماته التي كانت زوجته تؤمن أنها تعاويذ تجلب شياطين الخراب والنكد!
***
من مأمنه يؤتي الحذر، ولم يكن لمصطفى مأمن سوى أولاده، لقد كشف لهم ظهره ليقينه بأنهم سيحمونه، وعرى لهم صدره ليقينه بأنه سيدافعون عن قلبه، ولكن كان لزوجته رأي آخر، فقد بذرت البذرة وتعهدتها بالعناية والرعاية لسنوات في هدوء وسرية، حتى أصبحت البذرة شجرة سامقة لا يمكن اقتلاعها إلا بتضحيات جسيمة.
كان من قراءات مصطفى أنه قرأ ذات ليلة أن النمل يتمتع بثلاث صفات.
أولا :الواقعية والتفكير الجيد في المستقبل؛ حيث إنه يجمع في الصيف غذاء الشتاء.
ثانيًا: عدم الانسحاب أو الاستسلام أبدا لأن النمل إن حاولنا حجزه في مكان محدد سيبحث عن وسيلة ليخرج من المأزق بتسلق الحاجز أو بالمرور من جوانبه.
ثالثًا: التفاني في العمل، مع الحرص على التمسك بالهدوء الكامل، لكي لا يشعر بوجوده أحد.
لقد كانت زوجته ضئيلة كنملة وقوية كنملة، لقد أخذت منه عياله، كانت تنسج خيوط شباكها خيطًا فخيطًا وعقدة فعقدة في هدوء وحرص، فلم يشعر أبًدا بأن هناك مؤامرة قد وقع في فخاخها.
لقد دبرت المرأة فأحسنت التدبير وكادت فأحسنت المكيدة، صنعت ذلك على مدار الأيام والليالي والأسابيع والشهور والسنين، وعندما جاءت ساعة الجد، تحطم كل شيء.
كان مصطفى جالسًا تحت شجرة نوال، عندما وجد أولاده يتجهون نحوه بمشية عسكرية كانوا يمشونها بقصد إضحاكه، وكان هو يضحك صادقًا من كل قلبه عندما يمشون تلك المشية.
تحلقوا حوله جالسين على مقاعد البامبو العتيقة التي يحرص الحرص كله على صيانتها فتبدو متماسكة متينة رغم مرور السنوات.
سألهم مبتسمًا: ماذا تريدون يا عصابة الخير؟
ردت منى: نريد الخير، لنا وللآخرين.
سألها:عن أي آخرين تتحدثين؟
رد بلال: حضرتك وماما.
جاءت المرأة وجلست خلف أولادها ولكن في مواجهة مصطفى بحيث يتمكن من رؤيتها بوضوح تام.
قالت أم عياله: أنا لا ناقة لي ولا جمل في هذا الموضوع، وما ستتفقون عليه مع أبيكم سأرضى به.
شعر مصطفى بنمل التوتر يزحف في عروقه فقال: هل ندخل إلى صلب الموضوع مباشرة؟
رد يحيي بهدوء قاتل: سنبيع البيت.
تدخلت يد القدرة الإلهية لكي لا يسقط مصطفى من فوق مقعده، لقد ضربه الألم الذي سحقه يوم تسلم خطاب نوال.
هو نفس الألم يهاجم بنفس سيوفه التي سقاها السم حتى ارتوت.
لقد استنكر صوته وهو يسأل أولاده: أي بيت؟
ردت منى وكأنها لا تقود جيوش الألم: هذا البيت الذي نسكنه.
أحس مصطفى بما لم يحس به على مدار عمره، لقد شعر وكأن أحدهم قرب جمرة متقدة من خديه، نعم الجمرة لم تحرق جلد خديه ولكنه شعر بسخونتها تلفحه، نظر باتجاه زوجته فرأى ابتسامة لعينة تتراقص على شفتيها.
كانت تلك الابتسامة هى الجمرة التي كادت تحرق جلد خديه، والتي جعلته يدرك حقيقة الموقف، لقد كانت ابتسامة النصر النهائي.
كانت ابتسامتها تقول له: كنت تظن نفسك شجرة وتظن أولادك عصافيرها، لا يا زوجي العزيز، لقد ربيتهم أنا على عيني حتى جعلتهم الوحوش الكاسرة، وها أنا أطلقهم عليك، فلترني كيف ستخلص لحمك من بين أنيابهم؟
ابتسم مصطفى في وجوه أولاده، ابتسامة الذي يعلم أنه قد هزم، ثم سأل بلالًا: لماذا أنت صامت؟
رد بلال كأنه لا يذبح أباه: سكت لأن الخطة كلها عندي.
هز مصطفى رأسه كأنه معجب بكلام ابنه: هل تتكرم بالكشف عن خطتك؟
قال بلال: بعد بحث ومفاوضات ومساومات ولقاءات، توصلت إلى اتفاق مع المقاول صادق السبع، حضرتك تعرفه طبعًا، سنعطيه كامل مساحة البيت، المباني والحديقة، سيوفر لنا هو شقة من خمس غرف وحمامين ومطبخ كبير، وسيدفع هو إيجارها، ثم سيقوم بهدم البيت، مع إزالة الحديقة طبعًا، ستكون بين يديه قطعة أرض مساحتها الصافية تساوي ثمانمائة متر، سيبني عمارة شاهقة من عشرة طوابق، كل طابق يضم أربع شقق، لك ولماما شقة مساحتها مائتي متر، وثلاث شقق واحدة لكل واحد منا، يعني كلنا سنجتمع في طابق واحد، وبعد أن أزهق روحي من المساومات، قبل أن يحصل لنفسه على أربعة طوابق تكون ملكه يفعل بشققها ما يشاء، الخمسة طوابق المتبقية تكون بيننا وبينه، نؤجر شقق تلك الطوابق ونتقاسم الإيجار، ولا أظن أن هناك عرضًا أحسن من هذا؟
وكأن صوته يأتي من جوف قبر سأل مصطفى بلالًا: ومتى يبدأ تنفيذ الخطة ومتى تنتهي؟
رد بلال بثقة: لو حضرتك وقعت معه العقد اليوم سيبدأ غًدا، وهو قال إن العمارة ستكون جاهزة للسكن بعد ثمانية أو تسعة أشهر من يوم توقيع العقد.
أغمض مصطفى عينيه للحظات حاول خلالها استحضار طيف أبيه، ولكن الطيف لم يأت فمسح على وجهه وقال بهدوء: الخطة عظيمة لا شك في عظمتها ولكن لماذا أبيع بيت أبي؟
هنا لم تتمالك المرأة التي تكرهه نفسها فقالت بصوتها الذكوري المتحشرج من أثر السخط الذي يسكن قلبها: عن أي ماذا تتحدث؟
صدق الذي قال: الأعمى هو الذي لا يرى من الغربال، ابنتك مخطوبة ولابد من تجهيزها، كيف ستجهزها؟.لا تقل لي: الفرج عند الله.
وولداك هذان كيف سيواجهان الحياة وليس بين أيديهما لا مال ولا سكن؟
خطة بلال باركه الله، ستضمن لكل واحد شقة يجري فيها الخيل، ثم سنربح الكثير من تأجير شقق الطوابق المتبقية، وهذا الكثير سيجعلنا نصعد إلى سطح الدنيا.
أشار إليها مصطفى بكامل كفه لكي تسكت فسكتت، فقال: كيف سترونني، عندما أقول لكم بملء فمي: لن أبيع بيت أبي؟
ران الصمت على الجميع للحظات، ثم اندفعت التي تكرهه قائلة: وما الجديد في أنانيتك وغطرستك وعشقك للفقر؟
رفضك هدم البيت لا يعني سوى أنك تكره أولادك وتقف في وجه مستقبلهم، رفضك لا يعني سوى أنك تفضل هذه الأشجار البائسة التي تملأ حياتنا بالنمل والحشرات على أولادك، هل تفهم أصلًا معنى كلمة أولاد؟
صدعتنا من كثرة ما قلت: أنا راهب في محراب أولادي، كل حياتك كلام في كلام، ولكن ساعة الجد تخلع قناع الراهب وتظهر وحوش الأنانية التي تجرى في عروقك.
عاد مصطفى بظهره للخلف ومد ساقيه ثم صفق برتابة وقال للتي تكرهه: الله ! ما أحسنك، أداء مسرحي مبهر يا هانم.
اعتدل وتأمل عيون أولاده ليعرف موقفهم من كلام أمهم، لقد جاءه اليقين، أولاده موافقون، يا الله ! أهو عند أولاده أناني كذاب عاشق للفقر يفضل الأشجار عليهم؟
لقد تحطم المعبد، كل الكلام بدون جدوى، كل الصراخ بدون جدوى، كل البكاء بدون جدوى، كل الصمت بدون جدوى، وحدها السخافة يجب أن تتربع على عرش هذا المشهد الجهنمي.
قال مصطفى موجهًا حديثه لأولاد: لو قلنا إن كل كلام أمكم عني صحيح تمامُا، فهل أشجار حديقة بيت أبي تملأ حياتكم بالنمل وبالحشرات الطائر منها والزاحف؟
سكت الأولاد فواصل مصطفى كلامه قائلًا: لن أصف أمكم بالكذب، لأنها لم تكذب، أنا في عينيها وقلبها كما قالت، وهى تراني كما وصفتني، وفي ختام هذه الجلسة اللطيفة سأقول لكم كلمة واحدة: هذا بيت أبي أنا، وليس بيت أبيكم أنتم، لن أبيع ولن تهدموا بيت أبي إلا إذا حجرتم علي، وأحذركم من أن تقودكم هذه المرأة لتلك الخطوة لأن ردي سيكون مدمرًا.
بقيت كلمة ثانية، أنا مؤمن بأن بداخلي طلقة وحيدة وأخيرة سأطلقها يوم على رأس كل هذا القبح الذي يحيط بي، لا أريد أن تكون رأس أحدكم مستقرًا لطلقتي.
***
بعد تلك الجلسة اعتمد مصطفى على ظاهره المخادع، إنه رجل طبيعي تمامًا، يعيش حياة طبيعية تمامًا، ليس هناك أي شيء يعكر المزاج أو ينغص الحياة أو ينكد المعيشة، أما في باطنه فقد كانت خناجر الجلسة قد استقرت في قلبه، حاول مرة نزع خنجر منها فكاد الدم أن يتدفق، فترك الخناجر على حالها قائلًا: عندما أموت سيراها حفار القبور وسينتزعها، سيربح كثيرًا عندما يبيعها لأنها من هزائم ذهبية نادرة.
بعد جلسة الخناجر، لم يحدث جديد مع المرأة التي تكرهه، لقد مات كل تواصل بينهما من زمن بعيد، الجديد كان مع أولاده، يضحك ساخرًا عندما يقفز إلى ذهنه تعبير: أولادنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض.
ها هم فلذات كبده يقاطعونه، مقاطعة تامة، يتهربون حتى من إلقاء السلام عليه، فإن تعذر على أحدهم التهرب، لم يبادر بإلقاء السلام، ينتظر حتى يلقي أبوه التحية فيغمغم برد غامض، ثم يهرول ليختفي في أول غرفة تصادفه.
مر شهر على جلسة الخناجر، حاسب فيه مصطفى نفسه أعسر حساب، وخلص إلى أنه قد أخطأ مرتين، مرة في اختيار الحبيبة والأخيرة في اختيار الزوجة.
ولكن كيف كان سيحسن الاختيار؟
كيف كان سيعرف ما في الغد؟
لقد مكثت نوال خمس سنوات تسبح بحبه، ثم غدرت في لحظة، ومكثت المرأة التي تكرهه ثلاث سنوات ترتدي قناع اللطف، ثم أصبحت وحشًا كاسرًا بين عشية وضحاها.
كان من تمام محاسبة مصطفى لنفسه أن سألها: لماذا أنا تحديًدا الذي يقع في هذه الفخاخ؟
رد على سؤاله قائلًا: اعلم يا مهندس تراخيص الحي الشهير بفساده، أنهم جميعًا لم يحطموا قلاعك، لقد تسربوا إليك من ثغور عيوبك، أنت يا سيد مصطفى مثل الفاكهة ولكنها فاكهة معطوبة، فمن الطبيعي أن يجتمع عليها الذباب، هناك عيوب ما في شخصيتك تجعلك هدفًا سهلًا لسهامهم، أنت لم تضع يديك بعد على عيوبك، وأغلب الظن أنك لن تضع يديك عليها، فقد اشتعل رأسك شيبًا، ومضت سنوات تصحيح المسار، فستظل على حالك وسيظلون على حالهم، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
***
كان يجلس عصرًا في حديقة بيت أبيه يرسم واحدًا من مشاريعه التي لن تنفذ، وينشد بصوت خافت شعرًا صعد من قاع ذاكرته حتى طفا على سطحها:
من جديد ها أنا ألقاك
في عصف الذهول المر
تجتاز الفجاج السود، مخبولًا شقيًا
وبعينيك سؤال أخرس الدمعة مازال عصيًا
ما الذي سدد في قلبك سكينًا؟
وفي عينيك حزنًا أبديًا
دخلت عليه منى فقطعت عليه إنشاده ورسمه، نظر إليها، لقد أصبح لها وجه كوجه المرأة التي تكرهه.
هل هذه منى التي عمدها بحبه على مدار سنوات عمرها؟
أنزل عينيه من على وجهها وسألها: أي شيء تريد السيدة الصغيرة؟
جلست في مواجهته وردت على سؤاله بسؤال: هل الباشا يسخر الآن مني؟
رد قائلًا: ليست سخرية، أنا أضع قليلًا من السخافة على ًطبق الحديث لكي أستطيع تناوله، ولكي لا أنفجر في وجه كل هذا الكون، السخيف.
قالت: هل أنت غاضب منا؟
قال: لا، أنا غاضب من نفسي، فعندما يلدغ أحدهم من الجحر ذاته مئة مرة يكون مغفلًا لا يحق له الغضب من الآخرين، عليه أن يوجه سهام غضبه إلى قلبه هو.
قالت: نحن لم نقاطعك، لقد تركناك لفترة، حتى تلتقط أنفاسك، فقد تعيد التفكير في الموقف، بابا أنت لم تقدم لنا تفسيرًا منطقيًا لرفضك.
تنهد مصطفى قبل أن يقول: تتحدثين عن المنطق، إذًا اسمعي، كل هذه الحياة يحكمها منطقان لا ثالث لهما، منطق الشهداء ومنطق الناس، في منطق الناس، الشهداء جماعة من المتهورين الحالمين الذين أضاعوا أعمارهم جريًا وراء سراب.
وفي منطق الشهداء، الناس ما هم إلا حفنة من الجبناء الذين لا يقدرون المعنى ولا يفهمون الرمز.
أنا أيتها السيدة الصغيرة من الشهداء، وأنت وشقيقاك وأمك من الناس، فلن نجتمع قط على كلمة.
أشارت إليه بكل يدها اليسرى وقالت: بابا لا تغضب لو قلت لك أنا لم أفهم شيئًا.
شرد مصطفى وراء يسرى ابنته، لقد حزنت المرأة التي تكرهه عندما علمت أن ابنتها عسراء، ولكنه أحب اختلاف ابنته، وتوقع لها مستقبلًا محتلفًا عن قريناتها، طبعًا لم يتوقع أن تكون عاقة، كان يسرف في تقبيل أصابع يسراها وباطن كفها وظاهره، كان يقبل اليد التي ترفعها الآن في وجهه.
جاءه صوتها: بابا، هل أنت معي؟
قال: كنت معك، وها قد عدت إليك، أنت لم تفهمي شيئًا وهذا أمر طبيعي، فالناس لن تفهم لغة الشهداء، اسمعيني جيًدا: قبل جلسة خطة شقيقك، كنت أعلم أنني خسرت كل شيء، إلا شيئين، أنت وشقيقيك ونفسي، ثم خسرتكم فلم يعد لي سوى نفسي وطلقتي الأخيرة.
هذا البيت هو نفسي، وأنا لن أسمح لأحد أن يرغمني على خسارة نفسي، دعوني أقابل ربي بربح ما.
هذه الحديقة بأشجارها وحشائشها هى أنا، هذا البيت هو أنا، طرقاته هى أنا غرفه هى أنا، حيطانه وسقفه، شرفاته ونوافذه، موضع مقعدي الهزاز، مكان تخزين البصل والثوم، غرفة غسيل الملابس، هذه الأشياء هى أنا، هل فهمت شيئًا الآن؟
أمد يدي وأمررها برقة على جذع شجرة التمر حنة فتهز أغصانها شاكرة أقول للنخلة: سأرسمك حتى أحبسك في ورقة بيضاء، فتشمخ بأنفها وترد قائلة: لن تستطيع فأنا بنت الصحاري البكر ولدت حرة وكذا سأموت.
أيتها السيدة الصغيرة، لقد مرت أمي من هنا، وأبي مر من هنا، أسمع همسهما، وأشم رائحتهما، وعندما تهدمون هذا البيت سيموتان، ولن أسمح لأحد بقتل أبي وأمي أمام عيني.
تريدون حرماني من حديقتي وشرفتي وسريري لكي تصبحوا أثرياء عندما تنقلون سريري وخزانة ملابسي من غرفتي إلى غرفة جديدة لن يكون السرير سريري ولا الخزانة خزانتي.
قاطعته: حتى لو تفهمت أسباب رفضك، فأين ذهبت حقوقنا عليك؟
رد بهدوء: ليس لأحدكم عندي أي حق، لقد تكفلت بكم قدر جهدي حتى بلغتم جميعًا سن الرشد، اعملوا وادخروا وأصبحوا أثرياء ولكن بعيدًا عن بيت أبي.
قالت: هل لن تساعدنا؟
ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال: لو ربحت مالًا فسأساعدكم، وستكون مساعدتي من باب التصدق على روح مشاعر كانت وماتت.
***
مرت الأيام ومصطفى يعيش منتشيًا بانتصار مبدأه: كل مشكلة ولها حل، وها هو قد حل مشكلة أولاده بهزيمة خطتهم التي رسمتها لهم المرأة التي تكرهه، نعم خسر أولاده ولكنه لم يخسر نفسه، سيموت عندما تأتي ساعته، ولكن لن يسمح لأحد بأن يقتله.
تلك النشوة التي تليق برجل غريب الأطوار حالت بينه وبين جلد ظهره على فرص الثراء التي أضاعها، كل ميسر لما خلق له، وهو ليس مخلوقًا لأن يمتطي أحد ظهره.
يتذكر عندما عمل شهرًا واحدًا في مكتب أستاذ من أساتذته.
دار نقاش بينه وبين أستاذه، قال فيه الأستاذ: يا أخي فلقت رأسي بحسن فتحي، حسن فتحي هذا هراء وعمارته أكذوبة صحفية.
يومها رد مصطفى بحسم: الرجل الهراء هو ذلك الرجل الذي كان يقول لتلاميذه: لقد أصبحنا مسخًا عندما تبنينا عمارة الحديد والزجاج، ثم عندما أشاروا بطرف أصغر أصابعهم إليه لبى إشارتهم وراح يجمع تلاميذه ليشاركوه جريمة بناء عمارات الزجاج والحديد.
لم يحدث أكثر من أن الأستاذ أشار إلى باب الخروج، ثم قال لظهر مصطفى: اذهب إلى المحاسب وخذ حقك، ثم لن أراك في الشارع الذي يقع فيه مكتبي مرة ثانية ً
من بعد تلك الواقعة لم يستعن به مكتب هندسي واحد كأنهم جميعًا اتفقوا على طرده من ملكوتهم.
قطع رنين هاتفه المحمول حبل ذكرياته التي لم يعد يرى أنها سوداء، تناول المحمول، نظر إلى شاشته فقرأ اسم ماري صاح بمرح: البرديسي هانم تتصل بعبد الله الفقير إليه مصطفى فوزي، ما الذي حدث في الدنيا؟
ردت من الطرف الآخر: أنت أسخف موهوب عرفته، لكن ما علينا، عندي لك عرض، وكم أنا حزينة لأنني لم أجد غيرك لينفذه.
ضحك وقال: سبحان المعز المذل، قولي عرضك، مع احتفاظي بحقي في التعجب من الحدأة التي ترمي الناس بالكتاكيت.
ضحكت وقالت: حدأة في عينك، لسانك أطول من قامتك، اسمعني: دول المتوسط من الاتحاد الأوروبي، إيطاليا وفرنسا، وهذه الدول التي تعرفها قررت إنشاء جائزة لعمارة المتوسط على أن يعبر كل متسابق عن عمارة بلده مع ملمح يشير للإقليم كله، لن يصعب عليك وضع خازوق روماني أو عمود إغريقي في جانب من جوانب مشروعك.
قاطعها سائلًا: وما علاقتك أنت بهذه القصة كلها؟
قالت بتأفف: دائمًا أنت هكذا تريد معرفة كل شيء وأين بدأ وكيف انتهى، يا سيدي أنا لي مكتبي، وبعلاقات المكتب عرفت القصة كلها، وعرفت أن أولى دورات انعقاد الجائزة ستكون في القاهرة، من باب تكريم اسم مصر أنت ستتسابق باسم مكتبي، وستفوز، لأنك ـ وهذا أعترف به كأني أتجرع السم ـ موهوب، ثم لأن مكتبي سيدعمك.
عادت إليه روح السخافة التي بدأ يعتمدها في حواراته فسألها: مكتبك أم مكتب البرديسي، ثم أنا لم أسمع باسم مكتبك هذا، ثم ما المقابل الذي ستطلبينه مقابل العمل تحت اسمك أو اسم مكتبك؟
ردت بنبرة غضب: أنت مهندس أم ضابط مباحث؟
مئة مرة قلت إن الحاج البرديسي لروحه السلام كان يعاملني كما يعامل الأب ابنته، ويرعى موهبتي لوجه الله، تصدق أم لا فهذه مشكلتك، حلها بعيًدا عني، لم تسمع باسم مكتبي لأنه ليس مكتبًا من مكاتب بئر السلم، مكتبي دولي يا زميلي العزيز، أعماله أهم من إعلاناته، نحن نعمل في أوروبا يا أخ، لدى جهات حساسة، عندما تفوز، وأنا قلت لك إنك ستفوز، فلمكتبي ثلث قيمة الجائز، نسيت أن أخبرك بأن صاحب المركز الأول سيحصل على ثلاثمائة ألف يورو، كم سعر اليورو اليوم؟
ضحك وقال : أنت الدولية التي تعرفين هذه الأشياء الغامضة.
ردت: سخيف كعادتك، اليورو اليوم يساوي سبعة عشر جنيهًا وثلاثين قرشًا، لا أظن أنه سيعلو أو يهبط عن هذه القيمة خلال ستة أشهر، يعني نحن نتحدث عن خمسة ملايين ومئة وتسعين ألف جنيه، لي منها ثلثها والباقي لك، الاتحاد الأوروبي سيتحمل الضرائب.
دفقة أمل لم يجربها منذ زمن نوال ضربته من أخمص قدميه حتى منابت شعره، دفعته لأن يسأل بصوت متشكك: وإن لم أفز بالمركز الأول هل سأخرج من المولد بلا حمص كالعادة؟
ردت ماري نافدة الصبر: هناك عشر جوائز للعشرة الأوائل، صاحب المركز العاشر سيحصل على خمسين ألفًا، وأنا قلت لك: أنت ستفوز بالمركز الأول، سأنتظرك غًدا في فندق الغزالة لمزيد من الشرح، كن مطمئنًا سأدعوك للغداء والجلسة كلها ستكون على حسابي، سلام.
***
عندما جلس مصطفى مع ماري في الفندق الشهير سألته: هل يعجبك تصميم الفندق؟
قال: فندق باسم عربي وبمواصفات أوروبية في قلب القاهرة الحارة المتربة المزدحمة، مشكلتي معكم جميعًا أنكم لا تريدون الاعتراف بأن العمارة هى قلب الأشياء، وعندما يكون القلب معطوبًا أو غريبًا عن الجسد فلا حديث عن سلامة البنيان.
قالت باستهانة: أفكارك هذه هى التي جعلتك ما أنت عليه الآن، يا زميلي أنت موهوب بل أعظمنا موهبة ولكنك دفنت نفسك.
جملتها أوجعت مصطفى فقرر رد الطعنة فسألها: بأي حق ستحصلين على ثلث الجائزة إن فزت بها؟
ردت ببساطة: بحق البيزنس يا درش، المسابقة مقصورة على المكاتب فقط، يعني أنك بمفردك لا تستطيع التقدم، ثم مكتبي سيوفر لك الخدمات التي تريدها في تصميمك الذي ستنافس به، اسمع يا مصطفى:الحياة كلها إما بيزنس أو أوهام.
قاطعها متعجبًا: والمعاني يا ماري؟
قالت بذات البساطة :المعاني هى أوهام المثقفين أصحابك، البيزنس هو حقيقة العالم الوحيدة إضافة إلى الموت، غير ذلك أوهام.
شرد مصطفى موبخًا نفسه: عن أي معان تتحدث مع واحدة باعت شبابها لرجل تقول إنه كان يرعاها كما يرعى الأب ابنته؟
صاحت ماري: نحن هنا، أين ذهبت؟
رد مصطفى: لماذا لا تقولين لي نكتة، فأنا أعتبر الضحك حقيقة من الحقائق.
ابتسمت ماري ابتسامة عريضة كشفت لمصطفى أنها قد أنفقت عشرات آلاف الجنيهات لتحصل على أسنان كأسنانها هذه.
قالت ماري: هى نكتة لن تضحك غيرك، هل تعرف من التي ستنافسك؟
قال: لا أعرف.
قالت: حياة عيسى.
ما أن نطقت ماري باسم حياة حتى أطلق مصطفى واحدة من ضحكاته التي تلًابت بوقار الفندق الشهير.
المضحك أن ماري شاركت بتلقائية مصطفى الضحك حتى أن دموعًا طفرت من عينيها، ثم عندما هدأت نوبة الضحك سألته بصوت متقطع: يقولون إنك تعرف النحو وهذا الكلام، فهل تكرمت وشرحت لي لماذا توقع حياة كتاباتها باسم امرأت شعبان، وليس امرأة كما نكتبها ونعرفها؟
ضرب مصطفى كفًا بكف ثم قال: هى تريد التميز بأي شيء، قد لا تعرفين أن اسمها الحقيقي هو حياة أحمد خليل العيسوي، هى رأت أن العيسوي لا يتوافق مع رنين اسم حياة، فجعلته عيسى وعندما تزوجت اختارت رجلًا اسمه شعبان، انظروا إلى تواضعي، أنا حياة عيسى تزوجت من شعبان.
الذين يتحدثون عن الفرق بين امرأة وامرأت قالوا: إن امرأت تطلق على امرأة مقصودة على وجه التحديد، في القرآن (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم)
قال مصطفى: هل فهمت شيئًا؟
ردت ماري ضاحكة: وأم النور ولا كلمة.
***
عاد مصطفى بقوة الأمل إ لى ما كان عليه قبل ثلاثين عامًا، لقد عاد إلى زمن حياة أمه وأبيه ونوال، حيث كل شيء ميسور وكل شيء ممكن، كان يعمل كالمجنون يكاد لا يشعر بما حوله، هو كان قد شفر المرأة التي تكرهه من سنوات، ولكن العجيب أن موقفه من أولاده كاد يذوب في حمى انكبابه على العمل.
سيعمل وسيفوز بالمركز الأول وسيحصد الملايين، سيعطي لكل واحد من أولاده مليون جنيه، لا لكي يسكتوا عنه ولا لتحسين صورته في أعينهم ولكن لأنه هكذا خلق، هو رجل التصدق على محبة تمتع بها يومًا.
ما بقى بعد هبته لأولاده يكفيه لأن يطلب إجازة بدون مرتب لعام، ينفقه في التجوال داخل الوطن ثم يسافر ولو لأسبوعين إلى إيطاليا وإسبانيا، هو لا يعرف سببًأ منطقيًا لتعلقه بهاتين البلدتين.
رغم حمى الأمل والعمل التي تسيطر على مصطفى إلا أنه لم يفلح في طرد حياة العيسوي سابقًا العيسى حاليًا من خياله.
كانت بنتًا من بنات دفعته، لم يعرف لها أحدًا رأسًا من قدمين، فهى مرة تنتمي لعائلة من محافظة الشرقية تربي خيول السباقات العالمية، ومرة هى كريمة الوكيل الأول السابق لوزارة الصناعة، ومرة ثالثة هى كريمة الرحالة جواب الأفاق أحمد خليل.
كثيرون انصرفوا عنها ولكن هناك ثلة حافظت على الاستماع إليها والتمتع بصحبتها.
حياة من وجهة نظر مصطفى لم تكن أكثر من جاموسة، جاموسة بيضاء كل ما فيها كبير مثل حال الجاموس، ولكن هناك تناسقا عجيبا صنعته يد القدرة الإلهية، فإن كان نهداها كبيرين فهذا هو حال فخذاها، وإن كان ذراعاها طويلًن، فهكذا ساقاها.
هذا التناسق جعلها تسرف في إظهار تفردها، فعندما ضربت موجة الحجاب معظم بنات الجامعة، راحت هى تلبس أصغر من مقاسها بثلاثة وأربعة أرقام، لقد كانت أول بنت في جامعة عين شمس تلبس البادي القصير الضيق، فكانت إذا انحنت أدنى انحناءة ظهر أكثر من نصف ظهرها، أما بناطيلها فكانت عجيبة جًدا، فهى ضيقة جًدا تكشف متى انحنت عن الشريط العلوي للباسها الداخلي، وكان من المعتاد أن يعدد زملاؤها ألوان ألبستها، حتى أن أحدهم أقسم مرة أنه خبير بها، فهى تلبس الأحمر في يوم الأحد والأزرق يوم الاثنين والبنفسجي يوم الثلاثاء.
يومها سألوا المقسم: لو كنت خبيرًا كما تزعم لقلت لنا ماذا تلبس يومي الإجازة الجمعة والسبت؟
فرد بجدية: الأسود طبعًا.
فسألوه: لماذا الأسود؟
فرد ضاحكًا: أنتم مجموعة من البهائم، الأسود هو لون الحداد على غياب المتفرجين.
كانت حياة هى أشهر بليدة، فهى لم ترسب قط، بل كانت تحافظ على تقدير جيد في كل أعوام دراستها، وهى التي لم يظهر عليها أقل اهتمام أو معرفة بعلوم الهندسة.
أحد المعيدين ضاق بها في محاضرة من المحاضرات فقال يوبخها: لو طلب منك رسم مثلث، فستسألين: أين أضع قاعدته، وأين أضع رأسه؟
العجيب أن ذلك المعيد على وجه التحديد أصبح شديد الاهتمام بها من بعد يوم المثلث، وهو يوم كان له صداه بين رفاق الدفعة.
في تفسير حصول حياة على تقدير جيد، بل في تفسير التحاقها بكلية الهندسة، بل في تفسير حصولها على الثانوية العامة، تنوعت الآراء، بعضهم قال: سطوة عائلتها سواء كانت عائلة تربية الخيول أو عائلة وكيل أول وزارة الصناعة.
آخرون قالوا: جسدها خرافي وهى تمنحه هدية معطرة للأساتذة والمعيدين.
أصحابها قالوا: هى خارقة الذكاء، يكفيها شهر واحد لكي تلم بكل المناهج والذين يشنعون عليها هم حزب أعداء النجاح.
يتذكر مصطفى أنه أثناء بحثه المجنون عن نوال التقى بحياة وسألها عن قمره، فضيقت عينيها كأنها تحاول تذكر مصطفى ثم قالت وهى تعود للوراء خطوتين: آه مصطفى، سأقول لك الحقيقة: هيئتك ليست رومانسية، شكلك ليس عاطفيًا، وستجد غيرها ترضى بك.
قامت بإلقاء عبوتها الناسفة على كيانه ثم أعطته ظهرها، هم لحظتها بأن يجذبها من شعرها المصبوغ بعناية فائقة حتى يبدو كأنه أشقر خلقة، ثم يطرحها أرضًا، ولكنه كعادته في تلك الأيام سقط في نوبة من نوبات شلله.
بعد عام التخرج غابت حياة سبع سنوات متصلة، أين كانت؟
يقولون: في كندا، لا بل في المكسيك، لا بل في تايلاند، لا بل في التبت، لا بل في كولومبيا، لا بل في البرتغال.
وما هذه الدال التي أصبحت تسبق اسمها؟
إنها دال الدكتوراة، لقد حصلت على الدكتوراة في فلسفة العمارة القوطية.
ضحك مصطفى يومها ضحكته الشهيرة، حياة لا تعرف العمارة أصلًا، أما عن القوط والقوطية فهما عندها من عائلة القوطة، التي هى الطماطم.
كان مصطفى مؤمنًا بأن حاتم باشا هو فقط الذي لديه الخبر اليقين.
قال له حاتم: حياة قادمة، فكن منها على حذر، هى كائن عالمي، ولا تصادق أقل من حكمدار العاصمة، فإن كانت علاقتك بها طيبة وطلبت منها خدمة فلن تتأخر بل ستسرف في العطاء، وإن كان بينكما تلك الخلافات التي تكون بين أبناء الجيل الواحد، فمن الأحسن والأسلم لك أن تجعلها تنسى وجودك في الحياة، فهى أفعى عضتها والقبر.
فإن سمعتهم يقولون: حياة حصلت على الدكتوراة في فلسفة العمارة القوطية فزايد عليهم وقل بل حصلت عليها في تعانق الباليه مع المصارعة الحرة.
قاطع مصطفى حاتمًا وسأله: ماذا تعني بقولك إنها قادمة؟
ضحك حاتم وقال: هذا ما ستخبرك به السنوات القادمة.
وقد أخبرت السنين مصطفى بكل شيء، أصبح لحياة مقال ثابت في جريدة شهيرة، قرأ مصطفى عدة مقالات فأقسم: حياة لا تستطيع كتابة جملة واحدة من كل تلك المقالات.
عندما جاء زمن الفضائيات أصبحت ضيفة دائمة على البرامج الجماهيرية بوصفها المثقفة حاملة الدكتوراة وراعية المواهب الشابة من خلال جمعيتها الخيرية التي تحمل اسم (أتولف).
أتولف هذا ملك من ملوك القوط، والسيدة حياة قوطية من نعومة أظفارها، فمن الطبيعي أن تطلق اسم جلالته على جمعيتها، طبعًا هذا الاسم يضمن لها لفت الأنظار الذي تعشقه، كما يضمن لها تمويلًا سخيًا من الأوروبيين، الذين يحنون لتلك الحقبة من تاريخهم.
لقد نجحت حياة في أن تملأ الدنيا وتشغل الناس، لقد غزت وهى المسلمة الكنيسة وراحت تلقي محاضرات عن اللاشيء، وتربح أموالًا طائلة، ولكي تعزز مكانتها عند بعض المسيحيين الذين غرهم سطحها البراق، فقد راحت تهاجم بضراوة شعيرة الأضحية عند المسلمين بدعوى العطف على الخراف التي يريق المسلمون دمها!
كاد بعض متعصبي المسلمين أن يفتكوا بها فغازلتهم بشن حملة ضد طقس التناول في الكنائس، فخسرت المسيحيين الذين يعتبرون التناول من أسرار كنيستهم المقدسة.
يومها شمت بها المسلمون فهى على بعد شبر من خسارة الفريقين خسارة أكيدة، ولكنها ببراعة جمعت ما تفرق عندما صنعت لنفسها صفحة على الفيس بوك باسم (حياة امرأت شعبان).
الذين يعرفونها ويعرفون شعبانها، يعلمون أن الرجل ليس أكثر من خادم ذليل يتمنى الحصول على شرف حمل حقيبتها.
هى لم تلتفت للذين يعرفون الحقيقة، كانت تخاطب الجمهور الافتراضي الواسع وتقدم نفسها بوصفها امرأت شعبان الذي هو كلمة السر في نجاحها، شعبان الذي يمثل أصفى وأرق ما في الرجال من رقي وصفاء وسمو، لقد جعلت من الخادم الذليل الذي ربما لم تمكنه من نفسها مرة واحدة رجلًا أسطوريًا فهو الأوفى والأخلص والأشجع والأكرم، وما هى إلا المرآة التي تعكس جميل خصاله.
عشق الرجال تلك المرأة المادحة لزوجها الخاضعة لأمره ولنهيه.
كلامها هذا ضاقت به بعض النساء فهاجمنها بوصفها المرأة التي تعشق حياة الجواري والإماء، هجوم النساء عليها صب في مصلحتها لأنه جعل الرجال يزدادون تعلقًا بها، حتى أصبحت لدى كثيرين أيقونة مقدسة للأنوثة.
وصفحة الفيس بوك أضيفت لها قناة خاصة على اليوتيوب يشاهدها الملايين، بعضهم يشاهدها لكي يتمتع بجسدها الخرافي الذي لم ينل منه الزمن، وكثيرون يشاهدونها لكي ينعموا باللاشيء الذي تقوله!
***
أخيرًا جاءت لحظة العرس، أكبر قاعات فندق الغزالة ضمت مئات من المتسابقين ورجال الأعمال والإعلام، عرس حقيقي، يليق بعريس الليلة.
كان مصطفى مؤمنًا بأنه سيكون العريس وستزف إليه الجائزة الكبرى بوصفها عروسه التي ستعيد ولادته مرة ثانية.
كان مصطفى يجلس بجوار ماري في الصف الثالث، الصفان الأول والثاني كانا للرسميين من دول المتوسط.
سألته ماري: هل أنت متوتر؟
قال: حتى أن قلبي يكاد يتوقف.
قالت: اطمئن، ستفوز.
قال: أنت تعرفين كل شيء، فكيف لم يتم تسريب النتائج لك؟
قالت: ظني أن هذه هى المرة الأولى التي لا يتم تسريب نتيجة مسابقة تجري على أرض مصر، هكذا حظك.
أشار مصطفى إلى الشاشة العملاقة التي تعرض صور المتسابقين وقال: متى ينتهي كل هذا؟ يجب أن يشعروا بحالتي.
ابتسمت ماري وقالت: فات الكثير، كلها دقائق ويجلس المحكمون فوق المنصة ويعلنون النتائج.
فجأة همس مصطفى: انظري حياة قادمة نحونا.
همست ماري: إن سلمت فرد بأدب، وإن تجاهلتنا فخيرًا فعلت.
وصلت حياة إليهما وسلمت بحرارة صادقة، وخصت مصطفى بضغطة على كفه وصوتها يخرج من منطقة ما من جسدها غير فمها قائلة: نشكر المسابقة لأنها جعلتني أراك، من الشهر القادم سينطلق صالوني الثقافي وأنتما في أول قائمة المدعوين.
هزا رأسيهما شاكرين الدعوة الكريمة، فغادرت حياة لتعود إلى مقعدها في طرف الصف الرابع.
همس مصطفى لماري: ما هذا الذي تلبسه هذه المرأة؟
قالت ماري: ظننتك ستسألني عن عطرها.
قال: أنا هندسة قسم عطور، عطرها أعرفه هو شانيل جاردينا جراند إكستريه، ثمن زجاجته التي تبلغ سعتها ثلاثين مللي أربعة آلاف دولار يعني راتبي في عام كامل.
ابتسمت ماري وقالت: فستانها من تصميم بيت أزياء اسمه اليزابيتا فرانكى.
قاطعها مصطفى بحدة: لا تستغلي جهلي فهذا ليس من الفساتين في شيء.
ردت مبتسمة: لم أكمل وصفي، الفستان كما رأيت، هو عبارة عن مايوه وفوقه فستان شيفون مطرز فيبدو كأنه كاش مايوه سواريه، وأما حزام خصرها فهو من الستان المرصع بأحجار كريمة، هذا الفستان، بعيدًا عن أحجار الحزام لن يقل ثمنه عن ربع مليون جنيه.
قال مصطفى بغيظ صادق: إنه يظهر مؤخرتها و...
سارعت ماري بمقاطعته: ومتى سترتها يا مصطفى؟ يا ابني هذه رأس مالها.
تنهد مصطفى وقال: هذه المرأة تجعلني أعيد التفكير فيما أعتبره خرافات.
باهتمام قالت ماري: لا أفهم قصدك.
رد مصطفى :هل هذه المرأة تصادق الشيطان مقابل منحها شبابًا دائمًا؟
يا ماري هى من عمرنا ولكن ليس هناك تجاعيد لا في وجهها ولا في يديها ولا حتى في رقبتها، أعلم أن أطباء التجميل يفعلون المعجزات، ولكن ليس لهذا الحد من الشباب، هى تبدو كأنها امرأة ناضجة في الثلاثين من عمرها.
وضعت ماري أصبعها فوق شفتيها وهى تهمس: هذا يكفي، المحكمون يصعدون إلى المنصة.
كان كلامه مع ماري قد قلل كثيرًا من توتره، ولكن ما أن رأى المحكمين وهم يأخذون أماكنهم فوق المنصة حتى عاد إليه التوتر وتسارعت دقات قلبه حتى أنه راح يمرر يمينه على صدره ببطء ورقة ليسكن هذا القلب الذي يصرخ طالبًا لحظة التتويج.
قدم رئيس لجنة التحكيم نفسه بوصفه المهندس ألفونسو أيسانو من أكاديمية الهندسة الأسبانية.
استبشر مصطفى خيرًا وزاد تفاؤله عندما قال الرئيس إن نائبه هو ماريو فلاكنتو عميد مهندسي روما.
همس مصطفى لنفسه: إسبانيا وإيطاليا، سأفوز ورب الكعبة.
بدأ الرئيس في النداء علىالفائزين بادئًا بالفائز العاشر.
صعد الفائز والجميع يصفق له، تسلم جائزته التي كانت نخلة من النحاس ومعها شيكًا بخمسين ألف يورو.
عرضت الشاشة العمارة التي صممها الفائز فصفق لها الجميع، ووقف الفائز على يسار الرئيس.
مع توالي صعود الفائزين، كان من الطبيعي أن يبلغ توتر مصطفى عنان السماء، ولكن ما حدث كان العكس، فمع كل اسم تهبط سكينة عجيبة على قلبه، فالرئيس لم ينطق الاسم الأول بعد.
صعد الجزائري الفائز بالمركز الرابع، عمارته أجبرت مصطفى على التصفيق وا قفًا، لقد صنع هذا المهندس شيئًا فاتنًا.
صفرة فاقعة علت وجه ماري عندما نطق الرئيس اسم مصطفى بوصفه صاحب المركز الثالث.
مصطفى نفسه تعطل سمعه، فأعاد الرئيس النداء عليه، عاد الوعي لماري فهمست في حسم: قم يا مصطفى، أنت لم تقصر، وهذا نصيبك.
عادت لمصطفى حالة السقوط التي سيطرت عليه بعد طعنة نوال، لقد سقط في الوقوف وسقط في السير حتى بلغ حافة المنصة وسقط في صعودها، وسقط في مصافحة الرئيس وتسلم الجائزة التي كانت شجرة زيتون من الفضة والتلويح بها لكاميرات الت ليفزيون والصحافة.
أخيرًا انتبه إلى طريقة وقوف الفائزين، العشرة يمثلون فريقين، خمسة على يسار الرئيس وخمسة على يمينه.
وقف على يمين الرئيس ثم شرد كأنه في حديقة منزل أبيه قال لنفسه: جائزة المركز الثالث تبلغ مائتي ألف يورو، مبلغ معتبر لم يكن يرقى إليه خيالي، حتى مع خصم ثلث ماري سيظل المبلغ طيبًا، ولكن وفق أي مواصفات كان يجب أن أكون الأول أو الثاني، لقد صنعت لهم عمارة من مواويل الصعيد وضحكات السكندريين وسمسمية القناة، كيف لم ينتبهوا لروحها؟
صعد اليوناني صاحب المركز الثاني، عندما عرضت الشاشة عمارته سقط مصطفى في نوبة التصفيق.
ثم تغير لون الإضاءة من الأبيض الصريح إلى الأزرق الخفيف، ثم البنفسجي، ثم تعانقت الألوان وبدأت تخفت شيئًا فشيئًا، حتى أظلمت القاعة والمسرح تمامًا، حبس انتظار اسم الفائز الأنفاس، من مكان خفي هبطت موسيقى ناعمة، من هذا العبقري الذي مزج دقات دفوف الزفاف المصرية الشهيرة بنغمات جيتار إسباني وبيانو فرنسي؟
كل موسيقى بلدان المتوسط كانت متمثلة في هذه القطعة النادرة.
ثم راحت الموسيقى تبتعد عائدة إلى المكان الذي انطلقت منه، وفجأة صاح الرئيس: المركز الأول ذهب إلى المهندسة المصرية حياة عيسى.
كشاف قوي جًدا سلط ضوءه على حياة ورافقها وهى تصعد إلى المسرح، حياة والرئيس فقط في بؤرة ضوء مبهر، تصفيق جنوني يأتي من القاعة ترافقه زغاريد مصرية، عبارات استحسان تبدأ بآوليه الأسبانية، وتنتهي بـيعيشك المغاربية.
ترمق حياة المشهد بقامة وعيون ملكة منتصرة.
سقط مصطفى في نوبة وعي لم يجربها من قبل، تأمل عمارة حياة التي تعرضها الشاشة، هذا أجمل شيء يمكن لبشر أن يصممه، لقد رأي مئات آلاف النماذج في حياته ولكن لم يخترق نموذج عقله وقلبه مثل عمارة حياة، لو كان هناك مركز أحسن من الأول لفازت به.
نوبة الوعي شعر بها مصطفى وهى تصعد من قدميه حتى سيطرت على رأسه، إنه في تمام وعيه وفي قمة يقظة لم يبلغها قط.
أشار بكل يديه للمصفقين والمهنئين طالبًا الانصات إليه.
صمت الجميع في انتظار كلمة مصطفى الذي سلط عينيه على لجنة التحكيم ثم قال: أشكر شرفكم الذي حكمتم به، فلولاه لقلت إنها ضاجعتكم جميعًا لتحصل على التاج.
وفق أي حسابات كان الطبيعي أن تهجم حياة على مصطفى لا لتسكته بل لتسحقه، ولكن ما حدث كان واحًدا من تلك الاستثناءات التي لا تخلو منها الحياة، جملة مصطفى جعلت ربة الأكاذيب والغطرسة تترنح، لقد ترنحت حقًا حتى أن أحد المحكمين سارع بالقبض على يدها لكي لا تسقط أرضًا وأجلسها مكانه.
سكون القاعة جعل مصطفى يبدو كأنه ممثل مسرحي أمسك بمفردات وتفاصيل دوره فراح يؤديه بتمكن نادر، لقد تجول على خشبة المسرح وكأنها غرفته التي يعرفها وتعرفه، ثم فجأة توقف مسلطًا عينيه على الجمهور المأخوذ ليقول: صفقتم لنموذج يستحق ما هو فوق المركز الأول، معكم عذركم، وذلك لأنكم لا تعرفونها أنا أعرفها كما أعرف كفي، هذه الجاموسة البيضاء الفاتنة لا تعرف كيف ترسم مثلثًا، بل لا تعرف كيف ترسم دائرة، بمالها أو بسطوتها أو بنفوذها أو بجسدها اغتصبت فنًا نادرًا لمهندس نادر سيموت المسكين بحسرته، أما أنا فلطالما حذرت العالم كله من طلقتي الأخيرة، التي سأصوبها الآن.
لم يستطع أحد إسكات مصطفى، لقد وقف كل الحاضرين على أطراف أصابعهم خوفًا من هذا المجنون الذي سيطلق النار بعد ثانية.
في لمح البصر هجم مصطفى على حياة التي هبت واقفة وصفرة الموت تعلو وجهها، وبيدين قاسيتين كأن الرحمة لم تخلق، مزق فستانها، كانت ضربة واحدة أصبحت حياة بعدها عارية تمامًا، ليس على جسدها سوى الحزام الستان المرصع بالأحجار الكريمة.
عندما تعالى الصراخ، ارتفع فوقه صوت مصطفى الذي وقف في وجه الجميع صائحًا: بعد الليلة لن تستر كل جوائز الأرض فضيحتها.