الثلاثاء، 5 مايو 2020

الطلقة الأخيرة (4)



    عاد مصطفى بقوة الأمل إ لى ما كان عليه قبل ثلاثين عامًا، لقد عاد إلى زمن حياة أمه وأبيه ونوال، حيث كل شيء ميسور وكل شيء ممكن، كان يعمل كالمجنون يكاد لا يشعر بما حوله، هو كان قد  شفر المرأة التي تكرهه من سنوات، ولكن العجيب أن موقفه من أولاده كاد يذوب في حمى انكبابه على العمل.
    سيعمل وسيفوز بالمركز الأول وسيحصد الملايين، سيعطي لكل واحد من أولاده مليون جنيه، لا لكي يسكتوا عنه ولا لتحسين صورته في أعينهم ولكن لأنه هكذا خلق، هو رجل التصدق على محبة تمتع بها يومًا.
   ما بقى بعد هبته لأولاده يكفيه لأن يطلب إجازة بدون مرتب لعام، ينفقه في التجوال داخل الوطن ثم يسافر ولو لأسبوعين إلى إيطاليا وإسبانيا، هو لا يعرف سببًأ منطقيًا لتعلقه بهاتين البلدتين.
    رغم حمى الأمل والعمل التي تسيطر على مصطفى إلا أنه لم يفلح في طرد حياة العيسوي سابقًا العيسى حاليًا من خياله.
  كانت بنتًا من بنات دفعته، لم يعرف لها أحدًا رأسًا من قدمين، فهى مرة تنتمي لعائلة من محافظة الشرقية تربي خيول السباقات العالمية، ومرة هى كريمة الوكيل الأول السابق لوزارة الصناعة، ومرة ثالثة هى كريمة الرحالة جواب الأفاق أحمد خليل.
    كثيرون انصرفوا عنها ولكن هناك ثلة حافظت على الاستماع إليها والتمتع بصحبتها.
   حياة من وجهة نظر مصطفى لم تكن أكثر من جاموسة، جاموسة بيضاء كل ما فيها كبير مثل حال الجاموس، ولكن هناك تناسقا عجيبا صنعته يد  القدرة الإلهية، فإن كان نهداها كبيرين فهذا هو حال فخذاها، وإن كان ذراعاها طويلًن، فهكذا ساقاها. 
   هذا التناسق جعلها تسرف في إظهار تفردها، فعندما ضربت موجة الحجاب معظم بنات الجامعة، راحت هى تلبس أصغر من مقاسها بثلاثة وأربعة أرقام، لقد كانت أول بنت في جامعة عين شمس تلبس البادي القصير الضيق، فكانت إذا انحنت أدنى انحناءة ظهر أكثر من نصف ظهرها، أما بناطيلها فكانت عجيبة جًدا، فهى ضيقة جًدا تكشف متى انحنت عن الشريط العلوي للباسها الداخلي، وكان من المعتاد أن يعدد زملاؤها ألوان ألبستها، حتى أن أحدهم أقسم مرة أنه خبير بها، فهى تلبس الأحمر في يوم الأحد والأزرق يوم الاثنين والبنفسجي يوم الثلاثاء.
    يومها سألوا المقسم: لو كنت خبيرًا كما تزعم لقلت لنا ماذا تلبس يومي الإجازة الجمعة والسبت؟
    فرد بجدية: الأسود طبعًا.
   فسألوه: لماذا الأسود؟
   فرد ضاحكًا: أنتم مجموعة من البهائم، الأسود هو لون الحداد على غياب المتفرجين.
   كانت حياة هى أشهر بليدة، فهى لم ترسب قط، بل كانت تحافظ على تقدير جيد في كل أعوام دراستها، وهى التي لم يظهر عليها أقل اهتمام أو معرفة بعلوم الهندسة. 
  أحد المعيدين ضاق بها في محاضرة من المحاضرات فقال يوبخها: لو طلب منك رسم مثلث، فستسألين: أين أضع قاعدته، وأين أضع رأسه؟
    العجيب أن ذلك المعيد على وجه التحديد أصبح شديد الاهتمام بها من بعد يوم المثلث، وهو يوم كان له صداه بين رفاق الدفعة.
   في تفسير حصول حياة على تقدير جيد، بل في تفسير التحاقها بكلية الهندسة، بل في تفسير حصولها على الثانوية العامة، تنوعت الآراء، بعضهم قال: سطوة عائلتها سواء كانت عائلة تربية الخيول أو عائلة وكيل  أول وزارة الصناعة.
  آخرون قالوا: جسدها خرافي وهى تمنحه هدية معطرة للأساتذة والمعيدين.
   أصحابها قالوا: هى خارقة الذكاء، يكفيها شهر واحد لكي تلم بكل المناهج والذين يشنعون عليها هم حزب أعداء النجاح.
  يتذكر مصطفى أنه أثناء بحثه المجنون عن نوال التقى بحياة وسألها عن  قمره، فضيقت عينيها كأنها تحاول تذكر مصطفى ثم قالت وهى تعود للوراء خطوتين: آه مصطفى، سأقول لك الحقيقة: هيئتك ليست رومانسية، شكلك ليس عاطفيًا، وستجد غيرها ترضى بك.
    قامت بإلقاء عبوتها الناسفة على كيانه ثم أعطته ظهرها، هم لحظتها بأن  يجذبها من شعرها المصبوغ بعناية فائقة حتى يبدو كأنه أشقر خلقة، ثم يطرحها أرضًا، ولكنه كعادته في تلك الأيام سقط في نوبة من نوبات شلله.
   بعد عام التخرج غابت حياة سبع سنوات متصلة، أين كانت؟
  يقولون: في كندا، لا بل في المكسيك، لا بل في تايلاند، لا بل في التبت، لا  بل في كولومبيا، لا بل في البرتغال.
  وما هذه الدال التي أصبحت تسبق اسمها؟
 إنها دال الدكتوراة، لقد حصلت على الدكتوراة في فلسفة العمارة القوطية. 
  ضحك مصطفى يومها ضحكته الشهيرة، حياة لا تعرف العمارة أصلًا، أما عن القوط والقوطية فهما عندها من عائلة القوطة، التي هى الطماطم.
    كان مصطفى مؤمنًا بأن حاتم باشا هو فقط الذي لديه الخبر اليقين.
   قال له حاتم: حياة قادمة، فكن منها على حذر، هى كائن عالمي، ولا تصادق أقل من حكمدار العاصمة، فإن كانت علاقتك بها طيبة وطلبت منها خدمة فلن تتأخر بل ستسرف في العطاء، وإن كان بينكما تلك الخلافات التي تكون بين أبناء الجيل الواحد، فمن الأحسن والأسلم لك أن تجعلها تنسى وجودك في الحياة، فهى أفعى عضتها والقبر.
   فإن سمعتهم يقولون: حياة حصلت على الدكتوراة في فلسفة العمارة القوطية فزايد عليهم وقل بل حصلت عليها في تعانق الباليه مع المصارعة  الحرة.
   قاطع مصطفى حاتمًا وسأله: ماذا تعني بقولك إنها قادمة؟
   ضحك حاتم وقال: هذا ما ستخبرك به السنوات القادمة.
  وقد أخبرت السنين مصطفى بكل شيء، أصبح لحياة مقال ثابت في جريدة شهيرة، قرأ مصطفى عدة مقالات فأقسم: حياة لا تستطيع كتابة جملة واحدة من كل تلك المقالات.
  عندما جاء زمن الفضائيات أصبحت ضيفة دائمة على البرامج الجماهيرية بوصفها المثقفة حاملة الدكتوراة وراعية المواهب الشابة من خلال جمعيتها الخيرية التي تحمل اسم (أتولف).
 أتولف هذا ملك من ملوك القوط، والسيدة حياة قوطية من نعومة أظفارها، فمن الطبيعي أن تطلق اسم جلالته على جمعيتها، طبعًا هذا الاسم يضمن لها لفت الأنظار الذي تعشقه، كما يضمن لها تمويلًا سخيًا  من الأوروبيين، الذين يحنون لتلك الحقبة من تاريخهم.
   لقد نجحت حياة في أن تملأ الدنيا وتشغل الناس، لقد غزت وهى المسلمة الكنيسة وراحت تلقي محاضرات عن اللاشيء، وتربح أموالًا طائلة، ولكي تعزز مكانتها عند بعض المسيحيين الذين غرهم سطحها البراق، فقد راحت تهاجم بضراوة شعيرة الأضحية عند المسلمين بدعوى العطف على الخراف التي يريق المسلمون دمها!
  كاد بعض متعصبي المسلمين أن يفتكوا بها فغازلتهم بشن حملة ضد طقس التناول في الكنائس، فخسرت المسيحيين الذين يعتبرون التناول من أسرار كنيستهم المقدسة.
  يومها شمت بها المسلمون فهى على بعد شبر من خسارة الفريقين خسارة أكيدة، ولكنها ببراعة جمعت ما تفرق عندما صنعت لنفسها صفحة على الفيس بوك باسم (حياة امرأت شعبان).
   الذين يعرفونها ويعرفون شعبانها، يعلمون أن الرجل ليس أكثر من خادم ذليل يتمنى الحصول على شرف حمل حقيبتها.
   هى لم تلتفت للذين يعرفون الحقيقة، كانت تخاطب الجمهور الافتراضي الواسع وتقدم نفسها بوصفها امرأت شعبان الذي هو كلمة السر في نجاحها، شعبان الذي يمثل أصفى وأرق ما في الرجال من رقي وصفاء وسمو، لقد جعلت من الخادم الذليل الذي ربما لم تمكنه من نفسها مرة واحدة رجلًا أسطوريًا فهو الأوفى والأخلص والأشجع والأكرم، وما هى إلا المرآة التي تعكس جميل خصاله.
  عشق الرجال تلك المرأة المادحة لزوجها الخاضعة لأمره ولنهيه.
   كلامها هذا ضاقت به بعض النساء فهاجمنها بوصفها المرأة التي تعشق حياة الجواري والإماء، هجوم النساء عليها صب في مصلحتها لأنه جعل الرجال يزدادون تعلقًا بها، حتى أصبحت لدى كثيرين أيقونة مقدسة للأنوثة.
  وصفحة الفيس بوك أضيفت لها قناة خاصة على اليوتيوب يشاهدها الملايين، بعضهم يشاهدها لكي يتمتع بجسدها الخرافي الذي لم ينل منه الزمن، وكثيرون يشاهدونها لكي ينعموا باللاشيء الذي تقوله! 

*** 

 

   أخيرًا جاءت لحظة العرس، أكبر قاعات فندق الغزالة ضمت مئات من المتسابقين ورجال الأعمال والإعلام، عرس حقيقي، يليق بعريس الليلة.
   كان مصطفى مؤمنًا بأنه سيكون العريس وستزف إليه الجائزة الكبرى بوصفها عروسه التي ستعيد ولادته مرة ثانية.
  كان مصطفى يجلس بجوار ماري في الصف الثالث، الصفان الأول والثاني كانا للرسميين من دول المتوسط.
  سألته ماري: هل أنت متوتر؟ 
  قال: حتى أن قلبي يكاد يتوقف.
  قالت: اطمئن، ستفوز.
  قال: أنت تعرفين كل شيء، فكيف لم يتم تسريب النتائج لك؟ 
  قالت: ظني أن هذه هى المرة الأولى التي لا يتم تسريب نتيجة  مسابقة  تجري على أرض مصر، هكذا حظك.
 أشار مصطفى إلى الشاشة العملاقة التي تعرض صور المتسابقين  وقال: متى ينتهي كل هذا؟  يجب أن يشعروا بحالتي.
 ابتسمت ماري وقالت: فات الكثير، كلها دقائق ويجلس المحكمون فوق المنصة ويعلنون النتائج.
   فجأة همس مصطفى: انظري حياة قادمة نحونا.
  همست ماري: إن سلمت فرد بأدب، وإن تجاهلتنا فخيرًا فعلت. 
  وصلت حياة إليهما وسلمت بحرارة صادقة، وخصت مصطفى بضغطة على كفه وصوتها يخرج من منطقة ما من جسدها غير فمها قائلة: نشكر المسابقة لأنها جعلتني أراك، من الشهر القادم سينطلق صالوني الثقافي وأنتما في أول قائمة المدعوين. 
  هزا رأسيهما شاكرين الدعوة الكريمة، فغادرت حياة لتعود إلى مقعدها في طرف الصف الرابع.
  همس مصطفى لماري: ما هذا الذي تلبسه هذه المرأة؟
  قالت ماري: ظننتك ستسألني عن عطرها.
 قال: أنا هندسة قسم عطور، عطرها أعرفه هو شانيل جاردينا جراند إكستريه، ثمن زجاجته التي تبلغ سعتها ثلاثين مللي أربعة آلاف دولار يعني راتبي في عام كامل.
  ابتسمت ماري وقالت: فستانها من تصميم بيت أزياء اسمه اليزابيتا فرانكى.
  قاطعها مصطفى بحدة: لا تستغلي جهلي فهذا ليس من الفساتين في شيء. 
   ردت مبتسمة: لم أكمل وصفي، الفستان كما رأيت، هو عبارة عن  مايوه  وفوقه فستان شيفون مطرز فيبدو كأنه كاش مايوه سواريه، وأما حزام خصرها فهو من الستان المرصع بأحجار كريمة، هذا الفستان، بعيدًا عن  أحجار الحزام لن يقل ثمنه عن ربع مليون جنيه.
    قال مصطفى بغيظ صادق: إنه يظهر مؤخرتها و... 
  سارعت ماري بمقاطعته: ومتى سترتها يا مصطفى؟ يا ابني هذه رأس مالها.
  تنهد مصطفى وقال: هذه المرأة تجعلني أعيد التفكير فيما أعتبره خرافات.
   باهتمام قالت ماري: لا أفهم قصدك.
  رد مصطفى :هل هذه المرأة تصادق الشيطان مقابل منحها شبابًا دائمًا؟
   يا ماري هى من عمرنا ولكن ليس هناك تجاعيد لا في وجهها ولا في يديها ولا حتى في رقبتها، أعلم أن أطباء التجميل يفعلون المعجزات، ولكن ليس لهذا الحد من الشباب، هى تبدو كأنها امرأة ناضجة في الثلاثين من  عمرها. 
  وضعت ماري أصبعها فوق شفتيها وهى تهمس: هذا يكفي، المحكمون يصعدون إلى المنصة.
 كان كلامه مع ماري قد قلل كثيرًا من توتره، ولكن ما أن رأى  المحكمين وهم يأخذون أماكنهم فوق المنصة حتى عاد إليه التوتر وتسارعت دقات قلبه حتى أنه راح يمرر يمينه على صدره ببطء ورقة ليسكن هذا القلب الذي يصرخ طالبًا لحظة التتويج.
  قدم رئيس لجنة التحكيم نفسه بوصفه المهندس ألفونسو أيسانو من أكاديمية  الهندسة الأسبانية.
  استبشر مصطفى خيرًا وزاد تفاؤله عندما قال الرئيس إن نائبه هو ماريو فلاكنتو عميد مهندسي روما. 
  همس مصطفى لنفسه: إسبانيا وإيطاليا، سأفوز ورب الكعبة.
  بدأ الرئيس في النداء علىالفائزين بادئًا بالفائز العاشر.
 صعد الفائز والجميع يصفق له، تسلم جائزته التي كانت نخلة من النحاس ومعها شيكًا بخمسين ألف يورو.
  عرضت الشاشة العمارة التي صممها الفائز فصفق لها الجميع، ووقف الفائز على يسار الرئيس.
 مع توالي صعود الفائزين، كان من الطبيعي أن يبلغ توتر مصطفى عنان  السماء، ولكن ما حدث كان العكس، فمع كل اسم تهبط سكينة عجيبة على  قلبه، فالرئيس لم ينطق الاسم الأول بعد.
  صعد الجزائري الفائز بالمركز الرابع، عمارته أجبرت مصطفى على التصفيق وا قفًا، لقد صنع هذا المهندس شيئًا فاتنًا. 
  صفرة فاقعة علت وجه ماري عندما نطق الرئيس اسم مصطفى بوصفه صاحب المركز الثالث. 
  مصطفى نفسه تعطل سمعه، فأعاد الرئيس النداء عليه، عاد الوعي لماري فهمست في حسم: قم يا مصطفى، أنت لم تقصر، وهذا نصيبك.
 عادت لمصطفى حالة السقوط التي سيطرت عليه بعد طعنة نوال، لقد سقط في الوقوف وسقط في السير حتى بلغ حافة المنصة وسقط في صعودها، وسقط في مصافحة الرئيس وتسلم الجائزة التي كانت شجرة زيتون من الفضة والتلويح بها لكاميرات الت ليفزيون والصحافة.
  أخيرًا انتبه إلى طريقة وقوف الفائزين، العشرة يمثلون فريقين، خمسة على يسار الرئيس وخمسة على يمينه.
   وقف على يمين الرئيس ثم شرد كأنه في حديقة منزل أبيه قال لنفسه: جائزة المركز الثالث تبلغ مائتي ألف يورو، مبلغ معتبر لم يكن يرقى إليه خيالي، حتى مع خصم ثلث ماري سيظل المبلغ طيبًا، ولكن وفق أي مواصفات كان يجب أن أكون الأول أو الثاني، لقد صنعت لهم عمارة من مواويل الصعيد وضحكات السكندريين وسمسمية القناة، كيف لم ينتبهوا لروحها؟
  صعد اليوناني صاحب المركز الثاني، عندما عرضت الشاشة عمارته سقط مصطفى في نوبة التصفيق.
  ثم تغير لون الإضاءة من الأبيض الصريح إلى الأزرق الخفيف، ثم البنفسجي، ثم تعانقت الألوان وبدأت تخفت شيئًا فشيئًا، حتى أظلمت القاعة والمسرح تمامًا، حبس انتظار اسم الفائز الأنفاس، من مكان خفي هبطت موسيقى ناعمة، من هذا العبقري الذي مزج دقات دفوف الزفاف المصرية الشهيرة بنغمات جيتار إسباني وبيانو فرنسي؟
  كل موسيقى بلدان المتوسط كانت متمثلة في هذه القطعة النادرة. 
   ثم راحت الموسيقى تبتعد عائدة إلى المكان الذي انطلقت منه، وفجأة صاح الرئيس: المركز الأول ذهب إلى المهندسة المصرية حياة عيسى.
  كشاف قوي جًدا سلط ضوءه على حياة ورافقها وهى تصعد إلى المسرح، حياة والرئيس فقط في بؤرة ضوء مبهر، تصفيق جنوني يأتي من القاعة ترافقه زغاريد مصرية، عبارات استحسان تبدأ بآوليه الأسبانية، وتنتهي بـيعيشك المغاربية.
   ترمق حياة المشهد بقامة وعيون ملكة منتصرة.
  سقط مصطفى في نوبة وعي لم يجربها من قبل، تأمل عمارة حياة التي تعرضها الشاشة، هذا أجمل شيء يمكن لبشر أن يصممه، لقد رأي مئات آلاف النماذج في حياته ولكن لم يخترق نموذج عقله وقلبه مثل عمارة حياة، لو كان هناك مركز أحسن من الأول لفازت به.
  نوبة الوعي شعر بها مصطفى وهى تصعد من قدميه حتى سيطرت على رأسه، إنه في تمام وعيه وفي قمة يقظة لم يبلغها قط.
   أشار بكل يديه للمصفقين والمهنئين طالبًا الانصات إليه.
  صمت الجميع في انتظار كلمة مصطفى الذي سلط عينيه على لجنة  التحكيم ثم قال: أشكر شرفكم الذي حكمتم به، فلولاه لقلت إنها ضاجعتكم جميعًا لتحصل على التاج.
   وفق أي حسابات كان الطبيعي أن تهجم حياة على مصطفى لا لتسكته بل لتسحقه، ولكن ما حدث كان واحًدا من تلك الاستثناءات التي لا تخلو منها  الحياة، جملة مصطفى جعلت ربة الأكاذيب والغطرسة تترنح، لقد ترنحت حقًا حتى أن أحد المحكمين سارع بالقبض على يدها لكي لا تسقط أرضًا وأجلسها مكانه.
   سكون القاعة جعل مصطفى يبدو كأنه ممثل مسرحي أمسك  بمفردات وتفاصيل دوره فراح يؤديه بتمكن نادر، لقد تجول على خشبة المسرح وكأنها غرفته التي يعرفها وتعرفه، ثم فجأة توقف مسلطًا عينيه على الجمهور المأخوذ ليقول: صفقتم لنموذج يستحق ما هو فوق المركز الأول، معكم عذركم، وذلك لأنكم لا تعرفونها أنا أعرفها كما أعرف كفي، هذه الجاموسة البيضاء الفاتنة لا تعرف كيف ترسم مثلثًا، بل لا تعرف كيف  ترسم دائرة، بمالها أو بسطوتها أو بنفوذها أو بجسدها اغتصبت فنًا نادرًا لمهندس نادر سيموت المسكين بحسرته، أما أنا فلطالما حذرت العالم كله من طلقتي الأخيرة، التي سأصوبها الآن.
   لم يستطع أحد إسكات مصطفى، لقد وقف كل الحاضرين على أطراف  أصابعهم خوفًا من هذا المجنون الذي سيطلق النار بعد ثانية.
  في لمح البصر هجم مصطفى على حياة التي هبت واقفة وصفرة الموت تعلو وجهها، وبيدين قاسيتين كأن الرحمة لم تخلق، مزق فستانها، كانت ضربة واحدة أصبحت حياة بعدها عارية تمامًا، ليس على جسدها سوى الحزام الستان المرصع بالأحجار الكريمة.
  عندما تعالى الصراخ، ارتفع فوقه صوت مصطفى الذي وقف في وجه الجميع صائحًا: بعد الليلة لن تستر كل جوائز الأرض فضيحتها.
                 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق