الاثنين، 4 مايو 2020

الطلقة الأخيرة (3)




 كان يجلس عصرًا في حديقة بيت أبيه يرسم واحدًا من مشاريعه التي لن تنفذ، وينشد بصوت خافت شعرًا صعد من قاع ذاكرته حتى طفا على سطحها:
        من جديد ها أنا ألقاك
        في عصف الذهول المر 
        تجتاز الفجاج السود، مخبولًا شقيًا
        وبعينيك سؤال  أخرس الدمعة مازال عصيًا
        ما الذي سدد في قلبك سكينًا؟
        وفي عينيك حزنًا أبديًا

    دخلت عليه منى فقطعت عليه إنشاده ورسمه، نظر إليها، لقد أصبح لها وجه كوجه المرأة التي تكرهه.
   هل هذه منى التي عمدها بحبه على مدار سنوات عمرها؟
  أنزل عينيه من على وجهها وسألها: أي شيء تريد السيدة الصغيرة؟
  جلست في مواجهته وردت على سؤاله بسؤال: هل الباشا يسخر الآن مني؟ 
   رد قائلًا: ليست سخرية،  أنا أضع قليلًا من السخافة على ًطبق الحديث لكي أستطيع تناوله، ولكي لا أنفجر في وجه كل هذا الكون، السخيف.
   قالت: هل أنت غاضب منا؟
   قال: لا، أنا غاضب من نفسي، فعندما يلدغ أحدهم من الجحر ذاته مئة مرة يكون مغفلًا لا يحق له الغضب من الآخرين، عليه أن يوجه سهام غضبه إلى قلبه هو.
   قالت: نحن لم نقاطعك، لقد تركناك لفترة، حتى تلتقط أنفاسك، فقد تعيد التفكير في الموقف، بابا أنت لم تقدم لنا تفسيرًا منطقيًا لرفضك.
    تنهد مصطفى قبل أن يقول: تتحدثين عن المنطق، إذًا اسمعي، كل هذه الحياة يحكمها منطقان لا ثالث لهما، منطق الشهداء ومنطق الناس، في منطق الناس، الشهداء جماعة من المتهورين الحالمين الذين أضاعوا  أعمارهم جريًا وراء سراب.
  وفي منطق الشهداء، الناس ما هم إلا حفنة من الجبناء الذين لا يقدرون  المعنى ولا يفهمون الرمز.
   أنا أيتها السيدة الصغيرة من الشهداء، وأنت وشقيقاك وأمك من الناس، فلن  نجتمع قط على كلمة.
   أشارت إليه بكل يدها اليسرى وقالت: بابا لا تغضب لو قلت لك أنا لم أفهم شيئًا.
  شرد مصطفى وراء يسرى ابنته، لقد حزنت المرأة التي تكرهه عندما علمت أن ابنتها عسراء، ولكنه أحب اختلاف ابنته، وتوقع لها مستقبلًا محتلفًا عن قريناتها، طبعًا لم يتوقع أن تكون عاقة، كان يسرف في تقبيل أصابع يسراها وباطن كفها وظاهره، كان يقبل اليد التي ترفعها الآن في وجهه.
  جاءه صوتها: بابا، هل أنت معي؟ 
  قال: كنت معك، وها قد عدت إليك، أنت لم تفهمي شيئًا وهذا أمر طبيعي، فالناس لن تفهم لغة الشهداء، اسمعيني جيًدا: قبل جلسة خطة شقيقك، كنت أعلم أنني خسرت كل شيء، إلا شيئين، أنت وشقيقيك ونفسي، ثم خسرتكم فلم يعد لي سوى نفسي وطلقتي الأخيرة.
  هذا البيت هو نفسي، وأنا لن أسمح لأحد أن يرغمني على خسارة نفسي، دعوني أقابل ربي بربح ما.
   هذه الحديقة بأشجارها وحشائشها هى أنا، هذا البيت هو أنا، طرقاته هى أنا  غرفه هى أنا، حيطانه وسقفه، شرفاته ونوافذه، موضع مقعدي الهزاز، مكان تخزين البصل والثوم، غرفة غسيل الملابس، هذه الأشياء هى أنا، هل فهمت شيئًا الآن؟
  أمد يدي وأمررها برقة على جذع شجرة التمر حنة فتهز أغصانها شاكرة أقول للنخلة: سأرسمك حتى أحبسك في ورقة بيضاء، فتشمخ بأنفها وترد قائلة: لن تستطيع فأنا بنت الصحاري البكر ولدت حرة وكذا سأموت.
  أيتها السيدة الصغيرة، لقد مرت أمي من هنا، وأبي مر من هنا، أسمع همسهما، وأشم رائحتهما، وعندما تهدمون هذا البيت سيموتان، ولن أسمح لأحد بقتل أبي وأمي أمام عيني.
   تريدون حرماني من حديقتي وشرفتي وسريري لكي تصبحوا أثرياء عندما تنقلون سريري وخزانة ملابسي من غرفتي إلى غرفة جديدة لن يكون السرير سريري ولا الخزانة خزانتي. 
   قاطعته: حتى لو تفهمت أسباب رفضك، فأين ذهبت حقوقنا عليك؟
    رد بهدوء: ليس لأحدكم عندي أي حق، لقد تكفلت بكم قدر جهدي حتى بلغتم جميعًا سن الرشد، اعملوا وادخروا وأصبحوا أثرياء ولكن بعيدًا عن  بيت أبي.
    قالت: هل لن تساعدنا؟ 
  ابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال: لو ربحت مالًا فسأساعدكم، وستكون مساعدتي من باب التصدق على روح مشاعر كانت وماتت.


     ***


   مرت الأيام ومصطفى يعيش منتشيًا بانتصار مبدأه: كل مشكلة ولها حل، وها هو قد حل مشكلة أولاده بهزيمة خطتهم التي رسمتها لهم المرأة التي تكرهه، نعم خسر أولاده ولكنه لم يخسر نفسه، سيموت عندما تأتي ساعته، ولكن لن يسمح لأحد بأن يقتله.
   تلك النشوة التي تليق برجل غريب الأطوار حالت بينه وبين جلد ظهره على فرص الثراء التي أضاعها، كل ميسر لما خلق له، وهو ليس مخلوقًا لأن يمتطي أحد ظهره.
    يتذكر عندما عمل شهرًا واحدًا في مكتب أستاذ من أساتذته.
   دار نقاش بينه وبين أستاذه، قال فيه الأستاذ: يا أخي فلقت رأسي بحسن فتحي، حسن فتحي هذا هراء وعمارته أكذوبة صحفية.
    يومها رد مصطفى بحسم: الرجل الهراء هو ذلك الرجل الذي كان يقول لتلاميذه: لقد أصبحنا مسخًا عندما تبنينا عمارة الحديد والزجاج، ثم عندما أشاروا بطرف أصغر أصابعهم إليه لبى إشارتهم وراح يجمع تلاميذه ليشاركوه جريمة بناء عمارات الزجاج والحديد.
   لم يحدث أكثر من أن الأستاذ أشار إلى باب الخروج، ثم قال لظهر مصطفى: اذهب إلى المحاسب وخذ حقك، ثم لن أراك في الشارع الذي يقع فيه مكتبي مرة ثانية  ً
   من بعد تلك الواقعة لم يستعن به مكتب هندسي واحد كأنهم جميعًا اتفقوا على طرده من ملكوتهم. 
   قطع رنين هاتفه المحمول حبل ذكرياته التي لم يعد يرى أنها سوداء، تناول  المحمول، نظر إلى شاشته فقرأ اسم ماري صاح بمرح: البرديسي هانم تتصل بعبد الله الفقير إليه مصطفى فوزي، ما الذي حدث في الدنيا؟ 
  ردت من الطرف الآخر: أنت أسخف موهوب عرفته، لكن ما علينا، عندي  لك عرض، وكم أنا حزينة لأنني لم أجد غيرك لينفذه. 
   ضحك وقال: سبحان المعز المذل، قولي عرضك، مع احتفاظي بحقي في التعجب من الحدأة التي ترمي الناس بالكتاكيت. 
  ضحكت وقالت: حدأة في عينك، لسانك أطول من قامتك، اسمعني: دول المتوسط من الاتحاد الأوروبي، إيطاليا وفرنسا، وهذه الدول التي تعرفها قررت إنشاء جائزة لعمارة المتوسط على أن يعبر كل متسابق عن عمارة بلده مع ملمح يشير للإقليم كله، لن يصعب عليك وضع خازوق روماني أو عمود إغريقي في جانب من جوانب مشروعك.
    قاطعها سائلًا: وما علاقتك أنت بهذه القصة كلها؟
   قالت بتأفف: دائمًا أنت هكذا تريد معرفة كل شيء وأين بدأ وكيف انتهى، يا سيدي أنا لي مكتبي، وبعلاقات المكتب عرفت القصة كلها، وعرفت أن أولى دورات انعقاد الجائزة ستكون في القاهرة، من باب تكريم اسم مصر أنت ستتسابق باسم مكتبي، وستفوز، لأنك ـ وهذا أعترف به كأني أتجرع  السم ـ موهوب، ثم لأن مكتبي سيدعمك.
  عادت إليه روح السخافة التي بدأ يعتمدها في حواراته فسألها: مكتبك أم مكتب البرديسي، ثم أنا لم أسمع باسم مكتبك هذا، ثم ما المقابل الذي ستطلبينه مقابل العمل تحت اسمك أو اسم مكتبك؟
   ردت بنبرة غضب: أنت مهندس أم ضابط مباحث؟
  مئة مرة قلت إن الحاج البرديسي لروحه السلام كان يعاملني كما يعامل الأب ابنته، ويرعى موهبتي لوجه الله، تصدق أم لا فهذه مشكلتك، حلها بعيًدا عني، لم تسمع باسم مكتبي لأنه ليس مكتبًا من مكاتب بئر السلم، مكتبي دولي يا زميلي العزيز، أعماله أهم من إعلاناته، نحن نعمل في أوروبا يا أخ، لدى جهات حساسة، عندما تفوز، وأنا قلت لك إنك ستفوز، فلمكتبي ثلث قيمة الجائز، نسيت أن أخبرك بأن صاحب المركز الأول  سيحصل على ثلاثمائة ألف يورو، كم سعر اليورو اليوم؟
    ضحك وقال : أنت الدولية التي تعرفين هذه الأشياء الغامضة.
   ردت: سخيف كعادتك، اليورو اليوم يساوي سبعة عشر جنيهًا وثلاثين قرشًا، لا أظن أنه سيعلو أو يهبط عن هذه القيمة خلال ستة أشهر، يعني نحن نتحدث عن خمسة ملايين ومئة وتسعين ألف جنيه، لي منها ثلثها والباقي لك، الاتحاد الأوروبي سيتحمل الضرائب.
    دفقة أمل لم يجربها منذ زمن نوال ضربته من أخمص قدميه حتى منابت شعره، دفعته لأن يسأل بصوت متشكك: وإن لم أفز بالمركز الأول هل سأخرج من المولد بلا حمص كالعادة؟
  ردت ماري نافدة الصبر: هناك عشر جوائز للعشرة الأوائل، صاحب المركز العاشر سيحصل على خمسين ألفًا، وأنا قلت لك: أنت ستفوز بالمركز الأول، سأنتظرك غًدا في فندق الغزالة لمزيد من الشرح، كن مطمئنًا سأدعوك للغداء والجلسة كلها ستكون على حسابي، سلام.


***

  عندما جلس مصطفى مع ماري في الفندق الشهير سألته: هل يعجبك تصميم الفندق؟
  قال: فندق باسم عربي وبمواصفات أوروبية في قلب القاهرة الحارة المتربة المزدحمة، مشكلتي معكم جميعًا أنكم لا تريدون الاعتراف بأن العمارة هى قلب الأشياء، وعندما يكون القلب معطوبًا  أو غريبًا عن الجسد فلا حديث عن سلامة البنيان.
  قالت باستهانة: أفكارك هذه هى التي جعلتك ما أنت عليه الآن، يا زميلي أنت موهوب بل أعظمنا موهبة ولكنك دفنت نفسك. 
   جملتها أوجعت مصطفى فقرر رد الطعنة فسألها: بأي حق ستحصلين على ثلث الجائزة إن فزت بها؟
  ردت ببساطة: بحق البيزنس يا درش، المسابقة مقصورة على المكاتب فقط، يعني أنك بمفردك لا تستطيع التقدم، ثم مكتبي سيوفر لك الخدمات التي تريدها في تصميمك الذي ستنافس به، اسمع يا مصطفى:الحياة كلها إما بيزنس أو أوهام.
    قاطعها متعجبًا: والمعاني يا ماري؟
    قالت بذات البساطة :المعاني هى أوهام المثقفين أصحابك، البيزنس هو حقيقة العالم الوحيدة إضافة إلى الموت، غير ذلك أوهام.
   شرد مصطفى موبخًا نفسه: عن أي معان تتحدث مع واحدة باعت شبابها لرجل تقول إنه كان يرعاها كما يرعى الأب ابنته؟
   صاحت ماري: نحن هنا، أين ذهبت؟
  رد مصطفى: لماذا لا تقولين لي نكتة، فأنا أعتبر الضحك حقيقة من الحقائق.
   ابتسمت ماري ابتسامة عريضة كشفت لمصطفى أنها قد أنفقت عشرات آلاف الجنيهات لتحصل على أسنان كأسنانها هذه.
   قالت ماري: هى نكتة لن تضحك غيرك، هل تعرف من التي ستنافسك؟
    قال: لا أعرف.
    قالت: حياة عيسى. 
   ما أن نطقت ماري باسم حياة حتى أطلق مصطفى واحدة من ضحكاته التي  تلًابت بوقار الفندق الشهير.
   المضحك أن ماري شاركت بتلقائية مصطفى الضحك حتى أن دموعًا طفرت من عينيها، ثم عندما هدأت نوبة الضحك سألته بصوت متقطع: يقولون إنك تعرف النحو وهذا الكلام، فهل تكرمت وشرحت لي لماذا توقع حياة كتاباتها باسم امرأت شعبان، وليس امرأة كما نكتبها ونعرفها؟
   ضرب مصطفى كفًا بكف ثم قال: هى تريد التميز بأي شيء، قد لا تعرفين أن اسمها الحقيقي هو حياة أحمد خليل العيسوي، هى رأت أن العيسوي لا يتوافق مع رنين اسم حياة، فجعلته عيسى وعندما تزوجت اختارت رجلًا اسمه شعبان، انظروا إلى تواضعي، أنا حياة عيسى تزوجت من شعبان.
   الذين يتحدثون عن الفرق بين امرأة وامرأت قالوا: إن امرأت  تطلق على امرأة مقصودة على وجه التحديد، في القرآن (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) 
   قال مصطفى: هل فهمت شيئًا؟
   ردت ماري ضاحكة: وأم النور ولا كلمة.


 ***

...... وغدًا الجزء الأخير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق