الأحد، 3 مايو 2020

الطلقة الأخيرة (2)





  عاش مصطفى مع المرأة التي ستكرهه سنوات زواجهما الأولى في هدوء يغلفه الرضا، لم يكن مصطفى يطلب أكثر من هذا. ثم حملت زوجته وجاءت له بمنى، التي بمجيئها انهارت معظم السدود التي أقامها مصطفى بينه وبين الناس.
   قال لنفسه وهو يرى تدفقه تجاه طفلته: ابنتي ليست من الناس، إنها المستقبل فإن كنت قد خسرت الماضي ومعه الحاضر فكيف أخسر المستقبل؟
  بعد منى بعام واحد فقط وفي بطن واحد جاء شقيقاها بلال ويحيي، بلال سبق يحيي بخمس دقائق كاملة، جعلته الكبير المطاع! وبمجيئهما انهارت  السدود.
   لقد عاد مصطفى إلى زمنه مع نوال، حيث التعلق بأدق تفاصيل المحبوب، كان إن مرض أحدهم يكاد يجن، كان إذا جاء من عمله يبدأ بمداعبتهم قبل أي شيء.
   لقد أخلى لهم أكبر وأطهر غرف قلبه لكي يقيموا بها إقامة دائمة غير مشروطة.
  عاش مصطفى سنوات اعتصر فيها دماغه لكي يصل إلى تلك النقطة التي بدأ منها نشع كراهية زوجته له يضرب أساس البناء.
   هو لم يكن من الذين يؤمنون بالتبدل الفجائي، هناك نقطة سم سقطت في الكأس ثم تراكمت النقاط حتى فاضت الكأس، كان يسأل نفسه: هل بدأ الأمر في تلك الليلة التي قالت فيها كذا فرددت أنا بكذا؟
   أم بدأ في ذلك الضحى الذي فعلت فيه كذا ففعلت أنا كذا؟
   أين نقطة البداية؟
   بدون تحديدها بصرامة وحسم لن يصل إلى شيء.
  ثم أخيرًا رحمه الله من وعثاء التفكير وهداه لتأمل وقراءة شخصية زوجته.
   المرأة لم تكن طيبة في يوم من الأيام، لطف السنوات الأولى لم يكن لطفًا.  
   كانت سعيدة وهى ترى أحلامها تتحقق، فها قد تزوجت بشاب مرموق ثم ها هي في فترة وجيزة تصبح أمًا لبنت وولدين، سعادتها بتحقيق أحلامها جعلها تبدو لطيفة هادئة راضية، ثم كان افتعال اللطف ضروريًا، فكيف كانت ستسوق له نفسها بدونه؟ 
   أما وقد تحققت الأحلام فقد حان وقت خلع الأقنعة، ظهر له أن المرأة تعاني من  إحساس مقيم راسخ بالضآلة، حاول البحث عن سبب لذلك الإحساس فلم يظفر بشيء، هى ضئيلة وانتهى الأمر. 
  كانت تحاول دفع الضآلة عنها، فبدأت بالتنمر ثم لم تجده نافعًا، فراحت تكتئب، ثم لم تجد الكآبة ترفع لها ذكرًا، فقذفت بنفسها إلى قاع التوحش.
   نامت ثم صحت فوجدته سخيفًا متعاليًا متغطرسًا ماديًا يعبد القرش ويسجد لمنفعته الخاصة، خياليًا، خائبًا، بليدًا، هو بالجملة الشيطان الرجيم، الذي ليس بأرضه ولو بقعة واحدة تصلح لزراعة أي شيء نافع، فكل أرضه نجسة عاقر.

 *** 

   أدرك مصطفى أن تخلصه منها لا يعني سوى حرمانه إلى الأبد من أولاده، فهى متوحشة ولن تقيم وزنًا لشيء أو لأحد، إنها من ذلك الصنف الذي يقطع أنفه ليغيظ جاره.
   ثم أدرك أن حرمانه من أولاده يعني موته البطيء، وهو لا يريد الموت البطيء، إنه يتمنى أن يموت مرة واحدة، دفعة واحدة.
   على ما سبق فقد اعتصم بأمور حياته السرية شديدة العلًنية!
   فهو يقرأ وينهل من أصفى ينابيع المعرفة التي تحتويها كتب مكتبة أسسها هو وأبوه، ثم هو يواصل تعلمه فنون العمارة، كأن أئمة ذلك الفن سيمتحنونه بعد ساعة، لقد وقع في غواية حسن فتحي. 
   كان طالباً عندما كان حسن فتحي في سنواته الأخيرة، لم يسع للقائه، ظنًا منه أن الرجل لن يموت إلا بعد أن يعيش عمر نوح!
  وعندما عرف بخبر رحيله ضربه ألم من ذلك الألم الذي كان يضربه في زمن نوال، اعتذر عن تقصيره في حق المهندس العبقري وراح يتتبع لمساته حتى عرف بين أبناء جيله بأنه أنجب تلاميذ مدرسة حسن فتحي الهندسية.
   لقد نجا مصطفى من فخاخ كراهية زوجته له لأن كل ما كان يفعله كان يفعله بروح ذلك الصوفي الذي يراه الناس يصلي ولكن لا يعرف أحد حقيقة مشاعره وقت صلاته.
    لم يسمح مصطفى لأحد بأن يفسد عليه مشاريعه التي أنفق عليها عمره، مشاريعه تلك تبدأ من عنايته الفائقة بأشجار حديقته اللطيفة وتنتهى برسوماته التي كانت زوجته تؤمن أنها تعاويذ تجلب شياطين الخراب والنكد!

 ***   

  من مأمنه يؤتي الحذر، ولم يكن لمصطفى مأمن سوى أولاده، لقد كشف لهم ظهره ليقينه بأنهم سيحمونه، وعرى لهم صدره ليقينه بأنه سيدافعون عن قلبه، ولكن كان لزوجته رأي آخر، فقد بذرت البذرة وتعهدتها بالعناية والرعاية لسنوات في هدوء وسرية، حتى أصبحت البذرة شجرة سامقة لا يمكن اقتلاعها إلا بتضحيات جسيمة.
   كان من قراءات مصطفى أنه قرأ ذات ليلة أن النمل يتمتع بثلاث صفات.
    أولا :الواقعية والتفكير الجيد في المستقبل؛ حيث إنه يجمع في الصيف غذاء الشتاء.
  ثانيًا: عدم الانسحاب أو الاستسلام أبدا لأن النمل إن حاولنا حجزه في مكان محدد سيبحث عن وسيلة ليخرج من المأزق بتسلق الحاجز أو بالمرور من جوانبه. 
  ثالثًا: التفاني في العمل، مع الحرص على التمسك بالهدوء الكامل، لكي لا يشعر بوجوده أحد.
   لقد كانت زوجته ضئيلة كنملة وقوية كنملة، لقد أخذت منه عياله، كانت تنسج خيوط شباكها خيطًا فخيطًا وعقدة فعقدة في هدوء وحرص، فلم يشعر أبًدا بأن هناك مؤامرة قد وقع في فخاخها.
   لقد دبرت المرأة فأحسنت التدبير وكادت فأحسنت المكيدة، صنعت ذلك على مدار الأيام والليالي والأسابيع والشهور والسنين، وعندما جاءت ساعة الجد، تحطم  كل شيء.




   كان مصطفى جالسًا تحت شجرة نوال، عندما وجد أولاده يتجهون نحوه بمشية عسكرية كانوا يمشونها بقصد إضحاكه، وكان هو يضحك صادقًا من كل قلبه عندما يمشون تلك المشية.
   تحلقوا حوله جالسين على مقاعد البامبو العتيقة التي يحرص الحرص كله على صيانتها فتبدو متماسكة متينة رغم مرور السنوات.
    سألهم مبتسمًا: ماذا تريدون يا عصابة الخير؟ 
    ردت منى: نريد الخير، لنا وللآخرين.
    سألها:عن أي آخرين تتحدثين؟
    رد بلال: حضرتك وماما.
   جاءت المرأة وجلست خلف أولادها ولكن في مواجهة مصطفى بحيث يتمكن من رؤيتها بوضوح تام.
    قالت أم عياله: أنا لا ناقة لي ولا جمل في هذا الموضوع، وما ستتفقون عليه مع أبيكم سأرضى به.
    شعر مصطفى بنمل التوتر يزحف في عروقه فقال: هل ندخل إلى صلب الموضوع مباشرة؟
    رد يحيي بهدوء قاتل: سنبيع البيت.
   
   تدخلت يد القدرة الإلهية لكي لا يسقط مصطفى من فوق مقعده، لقد ضربه الألم الذي سحقه يوم تسلم خطاب نوال.
   هو نفس الألم يهاجم بنفس سيوفه التي سقاها السم حتى ارتوت.
    لقد استنكر صوته وهو يسأل أولاده: أي بيت؟
  ردت منى وكأنها لا تقود جيوش الألم: هذا البيت الذي نسكنه. 
  أحس مصطفى بما لم يحس به على مدار عمره، لقد شعر وكأن أحدهم قرب جمرة متقدة من خديه، نعم الجمرة لم تحرق جلد خديه ولكنه شعر بسخونتها تلفحه، نظر باتجاه زوجته فرأى ابتسامة لعينة تتراقص على  شفتيها.
   كانت تلك الابتسامة هى الجمرة التي كادت تحرق جلد خديه، والتي جعلته يدرك حقيقة الموقف، لقد كانت ابتسامة النصر النهائي.
   كانت ابتسامتها تقول له: كنت تظن نفسك شجرة وتظن أولادك عصافيرها، لا يا زوجي العزيز، لقد ربيتهم أنا على عيني حتى جعلتهم الوحوش الكاسرة، وها أنا أطلقهم عليك، فلترني كيف ستخلص لحمك من بين أنيابهم؟
    ابتسم مصطفى في وجوه أولاده، ابتسامة الذي  يعلم أنه قد هزم، ثم سأل بلالًا: لماذا أنت صامت؟
   رد بلال كأنه لا يذبح أباه: سكت لأن الخطة كلها عندي.
  هز مصطفى رأسه كأنه معجب بكلام ابنه: هل تتكرم بالكشف عن خطتك؟
   قال بلال: بعد بحث ومفاوضات ومساومات ولقاءات، توصلت إلى اتفاق مع المقاول صادق السبع، حضرتك تعرفه طبعًا، سنعطيه كامل مساحة البيت، المباني والحديقة، سيوفر لنا هو شقة من خمس غرف وحمامين ومطبخ كبير، وسيدفع هو إيجارها، ثم سيقوم بهدم البيت، مع إزالة الحديقة طبعًا، ستكون بين يديه قطعة أرض مساحتها الصافية تساوي ثمانمائة متر، سيبني عمارة شاهقة من عشرة طوابق، كل طابق يضم أربع شقق، لك ولماما شقة مساحتها مائتي متر، وثلاث شقق واحدة لكل واحد منا، يعني كلنا سنجتمع في طابق واحد، وبعد أن أزهق روحي من المساومات، قبل أن يحصل لنفسه على أربعة طوابق تكون ملكه يفعل بشققها ما يشاء، الخمسة طوابق المتبقية تكون بيننا وبينه، نؤجر شقق تلك الطوابق ونتقاسم  الإيجار، ولا أظن أن هناك عرضًا أحسن من هذا؟ 
   وكأن صوته يأتي من جوف قبر سأل مصطفى بلالًا: ومتى يبدأ تنفيذ الخطة ومتى تنتهي؟
   رد بلال بثقة: لو حضرتك وقعت معه العقد اليوم سيبدأ غًدا، وهو قال إن العمارة ستكون جاهزة للسكن بعد ثمانية أو تسعة أشهر من يوم توقيع العقد.
   أغمض مصطفى عينيه للحظات حاول خلالها استحضار طيف أبيه، ولكن الطيف لم يأت فمسح على وجهه وقال بهدوء: الخطة عظيمة لا شك في عظمتها ولكن لماذا أبيع بيت أبي؟ 
  هنا لم تتمالك المرأة التي تكرهه نفسها فقالت بصوتها الذكوري المتحشرج من أثر السخط الذي يسكن قلبها: عن أي ماذا تتحدث؟
   صدق الذي قال: الأعمى هو الذي لا يرى من الغربال، ابنتك مخطوبة ولابد من تجهيزها، كيف ستجهزها؟.لا تقل لي: الفرج عند الله.
    وولداك هذان كيف سيواجهان الحياة وليس بين أيديهما لا مال ولا سكن؟
   خطة بلال باركه الله، ستضمن لكل واحد شقة يجري فيها الخيل، ثم سنربح  الكثير من تأجير شقق الطوابق المتبقية، وهذا الكثير سيجعلنا نصعد إلى سطح الدنيا.
   أشار إليها مصطفى بكامل كفه لكي تسكت فسكتت، فقال: كيف سترونني، عندما أقول لكم بملء فمي: لن أبيع بيت أبي؟
  ران الصمت على الجميع للحظات، ثم اندفعت التي تكرهه قائلة: وما الجديد في أنانيتك وغطرستك وعشقك للفقر؟
  رفضك هدم البيت لا يعني سوى أنك تكره أولادك وتقف في وجه مستقبلهم، رفضك لا يعني سوى أنك تفضل هذه الأشجار البائسة التي تملأ حياتنا  بالنمل والحشرات على أولادك، هل تفهم أصلًا معنى كلمة أولاد؟ 
  صدعتنا من كثرة ما قلت: أنا راهب في محراب أولادي، كل حياتك كلام في كلام، ولكن ساعة الجد تخلع قناع الراهب وتظهر وحوش الأنانية التي تجرى في عروقك.
  عاد مصطفى بظهره للخلف ومد ساقيه ثم صفق برتابة وقال للتي تكرهه: الله ! ما أحسنك، أداء مسرحي مبهر يا هانم.
  اعتدل وتأمل عيون أولاده ليعرف موقفهم من كلام أمهم، لقد جاءه اليقين، أولاده موافقون، يا الله ! أهو عند أولاده أناني كذاب عاشق للفقر يفضل الأشجار عليهم؟
   لقد تحطم المعبد، كل الكلام بدون جدوى، كل الصراخ بدون جدوى، كل البكاء بدون جدوى، كل الصمت بدون جدوى، وحدها السخافة يجب أن تتربع على عرش هذا المشهد الجهنمي.
   قال مصطفى موجهًا حديثه لأولاد: لو قلنا إن كل كلام أمكم عني صحيح تمامُا، فهل أشجار حديقة بيت أبي تملأ حياتكم بالنمل وبالحشرات الطائر منها والزاحف؟ 
  سكت الأولاد فواصل مصطفى كلامه قائلًا: لن أصف أمكم بالكذب، لأنها لم تكذب، أنا في عينيها وقلبها كما قالت، وهى تراني كما وصفتني، وفي ختام هذه الجلسة اللطيفة سأقول لكم كلمة واحدة: هذا بيت أبي أنا، وليس بيت أبيكم أنتم، لن أبيع ولن تهدموا بيت أبي إلا إذا حجرتم علي، وأحذركم من أن تقودكم هذه المرأة لتلك الخطوة لأن ردي سيكون مدمرًا.
   بقيت كلمة ثانية، أنا مؤمن بأن بداخلي طلقة وحيدة وأخيرة سأطلقها يوم على رأس كل هذا القبح الذي يحيط بي، لا أريد أن تكون رأس أحدكم مستقرًا لطلقتي.

*** 

  بعد تلك الجلسة اعتمد مصطفى على ظاهره المخادع، إنه رجل طبيعي تمامًا، يعيش حياة طبيعية تمامًا، ليس هناك أي شيء يعكر المزاج أو ينغص الحياة أو ينكد المعيشة، أما في باطنه فقد كانت خناجر الجلسة قد استقرت في قلبه، حاول مرة نزع خنجر منها فكاد الدم أن يتدفق، فترك الخناجر على حالها قائلًا: عندما أموت سيراها حفار القبور وسينتزعها، سيربح كثيرًا عندما يبيعها لأنها من هزائم ذهبية نادرة.
    بعد جلسة الخناجر، لم يحدث جديد مع المرأة التي تكرهه، لقد مات كل تواصل بينهما من زمن بعيد، الجديد كان مع أولاده، يضحك ساخرًا عندما يقفز إلى ذهنه تعبير: أولادنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض.
   ها هم فلذات كبده يقاطعونه، مقاطعة تامة، يتهربون حتى من إلقاء السلام عليه، فإن تعذر على أحدهم التهرب، لم يبادر بإلقاء السلام، ينتظر حتى يلقي أبوه التحية فيغمغم برد غامض، ثم يهرول ليختفي في أول غرفة تصادفه.
   مر شهر على جلسة الخناجر، حاسب فيه مصطفى نفسه أعسر حساب، وخلص إلى أنه قد أخطأ مرتين، مرة في اختيار الحبيبة والأخيرة في اختيار الزوجة.
   ولكن كيف كان سيحسن الاختيار؟ 
   كيف كان سيعرف ما في الغد؟
  لقد مكثت نوال خمس سنوات تسبح بحبه، ثم غدرت في لحظة، ومكثت المرأة التي تكرهه ثلاث سنوات ترتدي قناع اللطف، ثم  أصبحت وحشًا كاسرًا بين عشية وضحاها.
  كان من تمام محاسبة مصطفى لنفسه أن سألها: لماذا أنا تحديًدا الذي يقع في هذه الفخاخ؟ 
  رد على سؤاله قائلًا: اعلم يا مهندس تراخيص الحي الشهير بفساده، أنهم جميعًا لم يحطموا قلاعك، لقد تسربوا إليك من ثغور عيوبك، أنت يا سيد مصطفى مثل الفاكهة ولكنها فاكهة معطوبة، فمن الطبيعي أن يجتمع عليها  الذباب، هناك عيوب ما في شخصيتك تجعلك هدفًا سهلًا لسهامهم، أنت لم تضع يديك بعد على عيوبك، وأغلب الظن أنك لن تضع يديك عليها، فقد  اشتعل رأسك شيبًا، ومضت سنوات تصحيح المسار، فستظل على حالك وسيظلون على حالهم، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

 *** 

...........وغدًا جزء جديد 

هناك 3 تعليقات:

  1. الزوجة كارهة من الأعماق إلى الآفاق كره رعيب..
    الأولاد مشروع جحود وعقوق جماعي مخيف..
    مأساة إغريقية بحق..
    وما أكثر المآسي المصرية المغمورة،والتي هي أشد بطشًا من المآسي الإغريقية المشهورة؟!!

    ردحذف
    الردود
    1. صدقت أستاذى الفاضل وما أكثر مآسينا
      أشكر لحضرتك اهتمامك ومتابعتك
      تحياتى

      حذف