سأحكي لكم حكاية توضح ما أريد قوله : حكاية محمود
حسن إسماعيل مع النيل ".
قبل أن يسترسل الخال في قص الحكاية
علينا ، قاطعه بلال سائلًا :" هل كانت بينك وبين محمود حسن إسماعيل علاقة شخصية
".
يبتسم الخال قبل أن يرد
:" إنها ذات العلاقة التى تربطنا بالمتنبي مثلًا ، عندما كنت وأمل دنقل وباقي
رفاقنا من شعراء وكُتاب الجنوب الصعيدي نقيم في قرانا البعيدة عن العاصمة ، كانت أشعار
محمود حسن إسماعيل ضروريًا لنا كأنها رغيف العيش ، كنا نحبه هذا الحب الصافي وندرك
كم هو فنان متوحد فريد ، عندما جئنا إلي القاهرة زرنا الأماكن التى ذكرها في شعره ،
وبدأنا رحلتنا من نخيل منطقة الجزيرة ، ثم عرفت طريقي إلي مبني الإذاعة التى بدأت تذيع
بعض الأغنيات التى كنت أكتبها ، وذات يوم قابلني فاروق شوشة فى ممر من ممرات الإذاعة
قال لي والفرح المخلوط بالجدية يتراقص علي وجهه :" ابشر ، محمد حسن إسماعيل يريدك
".
لحظة لقائي بمحمود حسن إسماعيل
كانت من ضمن اللحظات الفارقة فى حياتي ، إنه الشاعر الشهير الخطير ، يثني علي أغنياتي
ويتحدث عن مذاقها الفريد وعن نكهتها الجديدة الطازجة ، ثم دعاني إلي كوب شاي ، أهي
يا عيال كوباية الشاي دي أعتبرها أحد أرفع الأوسمة التي نلتها في
حياتي ، بعد المقابلة سألني شوشة :" ماذا قال لك الشاعر ؟".قلت له
:" لقد عزمني علي كوباية شاي ". ضحك قائلًا :" تمام ، لقد وصلت يا عم
، محمود حسن إسماعيل لا يقدم الشاي سوى لأحبابه ".
خفت أن يشرد بنا الكلام ونبتعد
عن قصة النيل ومحمود حسن إسماعيل ، فسألت الخال :" هل نعود إلي أصل قصة الوطن
والنيل ".
صاح :" ها كويس إنك لسه فاكر
، الأستاذ محمود وهو من هو معرفة بالوطن وناسه ، كان ينزل أسوان في بدايات بناء السد
العالي ، طبعًا أنا مضروب بالسد ، ليست مسألة عشق شاعر لبناء حتى لو كان هذا البناء
هو السد العالي ، الموضوع أكبر وأشد تعقيدًا من كل هذا الكلام ، السد هو هويتي الشخصية
، أنا إنسان هذا السد ، كأنه أبي وعائلتي وعزوتي ، عرفت بوجود الأستاذ في فندق يطل
علي النيل مباشرة ، أخذت فلوكة ، ووصلت بها إلي تحت نافذته مباشرة ورحت أصيح آمحمود ، يا محمود حسن إسماعيل ، لم يكن يمكنني الوصول
إليه إلا بهذا الصياح ، هبط الرجل الخطير بقامته المديدة وسألني :" ماذا تريد
مني يا أبنودي " قلت له سأعرفك على النيل ، رد علىّ قائلًا :" هل نسيت أنني
صعيدي من أسيوط وأعرف النيل جيدًا ".
قلت له دعك من نيل القاهرة والمدن
الكبرى ، بل دعك من نيل أسيوط ، هنا أصل النيل المصري ومنبع خيره ، هنا نيل ليس كمثله
نيل ، لعبت الفكرة في رأس الأستاذ ، فركب معي مركبي الصغير ، يومًا بطوله وأنا أطوف
به النيل ، قدمته للصخور وللأمواج وللعمق وللطول وللعرض وللشاطئ وللأشجار وللطمي ،
قدمته لكل كائنات النيل ، في ختام اليوم الشاق تنهد الأستاذ في راحة ثم قال لي
:" الآن أعرف مصر كأني لم أعرفها قط ".
صمت الخال لحظة ثم واصل قائلًا
:" هذا يا عيال المعني الذي أريده من الحكاية ، الوطن هو ناسه وأرضه ، لابد من
تعب ومكابدة لكي نعرف الوطن ، اعرفوا الناس وتعلموا منهم ، ليس بي أدني قدر من التعصب
ولكنى أشهد أن ناس هذا الوطن هم خير الناس ، فقط ينتظرون فرصة الوصول إليهم والاهتمام
بهم ، وساعتها سيحدث العناق العظيم بين ضوء الفكرة وحرارة تطبيقها ، فاكرين قصيدتي " الدايرة المقطوعة
" قلت فيها :" إذ مش نازلين للناس فبلاش " هذه هي القضية بكل وضوح ،
الناس أولًا وأخيرًا ".
جاءت السيدة نهال بدور شاي صعدي جديدة ، وجلست في مواجهة زوجها الذي
نظر إلى قدميها وتمتم :" جزمتك حلوة قوى يا نهال ".
ضحكت وبلال ، بينما لم تسمع السيدة
نهال جملة الخال فرجته أن يعيدها فرفض فهممتُ بأن أعيد عليها الجملة فأقسم ألا أفعل
قائلًا :" شاعر كبير يغازل حبيبته ، فإن لم تشم الوردة فلن نقدمها لها ثانية ".
ضحكنا جميعًا ، ثم أقلقني ما قاله
الخال عن الناس وعناء الوصول إليهم فسألته مباشرة :" كيف ترى ميدان التحرير والناس
؟ ".
رد مبتسمًا :" هل تخجل من
السؤال المباشر عن رؤيتي لعلاقة شباب ونخب الثورة بالناس ، بل علاقة الثورة ذاتها بالناس
؟ ".
قال بلال :" لقد جئنا للسلام
عليك ولا نريد إرهاقك في حوار سياسي ".
قال الخال :" انظروا إلي
المسافة بينكم وبين الفلاحين مثلًا ثم تحدثوا عن الثورة ، قرب أو بعد المسافة يحدد
نجاح الثورة أو فشلها ، أنا لا أحدثكم عن العشوائيات أو عن طلاب الجامعة أو عن المقاولين
، أحدثكم عن كتلة كبيرة متماسكة لها خبرات في الحياة والنضال والبناء ، مصر بمجملها
هي ثمرة عرق الفلاحين ، عبد الناصر كان واعيًا لهذه النقطة فذهب إليها مباشرة ، من
أول يوم لثورة يوليو ، كانت ترى خطورة الفلاحين ، وكانت تعرف إن الوصول إليهم هو نجاح
أكيد لها ، تعرفون أن عبد الناصر قد اعتقلني ، المعتقل غير السجين ، السجين له حقوق
، واسمه مسجل في الدفاتر ، يعني لو مات أهله سيعرفون له قبرًا ، المعتقل هو بالأساس
مختطف لدى جهة لا يعرفها ولا تعرفه ، مجرد رقم لا يدرى متى يعود إلي إنسانيته ، المهم
بعد الإفراج عني ، عدت وأنا فى غاية التعب والتشاؤم إلي أبنود ، كنت أنشد شيئًا من
الراحة والشفاء من ذكريات الاعتقال ، صباح يوم كنت أمر على أحد جسور أبنود ، كان الخال
مش عارف مين ، غاطس في طين غيطه ، رأني أمشي منكسرًا فصاح :" يا رومان ، عبد الرحمان
، مالك يا وليدي ".
فقلت له بصوت مخنوق :" الراجل
دا اللى اسمه جمال أبو عبد الناصر حبسني وتعبني ".
فصرخ الخال فلان في وجهي مستنكرًا
:" عما تقول إيه ؟ الراجل دا ؟ ناصر حبيبنا بقي اسمه الراجل دا ؟ جرى لمخك إيه
يا عبد الرحمان ؟
دا الرئيس جمال أبو عبد الناصر
على سن ورمح ، دا الراجل اللى لبسني مركوب في رجلي ، دا الراجل اللى خلاني من الملاك
، وخلاني اشتري لباس دمور استر بيه نفسي ، دا الراجل اللى بيدني السماد والتقاوي ببلاش
، وبيشترى مني المحصول وبيدني تمنه فورى ، اعقل يا أستاذ ، ولو كان عندكم حاجة تقدروا
تساعدوا بيها الراجل دا رحوا لغاية عنده وقدموها ليه ، وإن كان بينكم مشاكل ، أهي مصارين
البطن بتتعارك ، اصطلحوا معاه وساعدوه علشان كلنا نهم وننهض مع بعض ".
يصمت الخال للحظة ويمسح بكفيه
على وجهه كأنه يريح الوجه من عبء الذكريات ثم يقول :" صوت الخال فلان لم يفارقني
من يومها ، وكلماته تسكنني ، لقد عرفت منها الكثير ، عرفت منها إن الشعار سيظل شعارًا
، ما لم ينزل إلي الأرض ويغرس جذوره فيها ، هل يعرفكم الفلاحون ؟ هل تعرفونهم ؟ هل
ستظلون في التحرير إلي الأبد ؟ من سيصبر عليكم ؟ من سيساعدكم ، ميدان التحرير بكل ما
فيه من نبل وحلم وشهامة ومروءة ، هو فكرة ، مجرد فكرة ، اخرجوا بفكرتكم إلي الناس ،
كل الناس ، قدموا لهم الدليل على أنكم معهم ، عندما تصل الثورة إلي الفلاحين ، هم سيتولون
أمرها ، سيحرسونها ويكبرونها ويقتلعون الحشائش الضارة التى ستتعلق بها ، سيفعلون معها
مع يفعلونه مع غيطانهم ، ساعتها أبشروا بالنصر الكامل التام للثورة ، هذا لو كنتم تريدون
الثورة بمعناها الحقيقي ، أما إن كان هدفكم إلقاء حجرة في بحيرة الصمت فقد فعلتم وزيادة
".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 16 أبريل 2015