قبل عشر سنوات من عامنا هذا أصدر
علاء الأسواني مجموعته الأولي "الذي اقترب ورأى" ثم اتبعها بمجموعته
"جمعية منتظري الزعيم" ولأسباب تنبع كلها من "فساد حياتنا
الأدبية" تعرضت المجموعتان لـ "حادث مؤسف" حسب تعبير فناننا الكبير
علاء الديب، وتمثل هذا الحادث المؤسف في النشر الضيق والتجاهل النقدي، إلا فيما
ندر.
وهذا "الحادث المؤسف"
جعل "المفاجأة تسيطر على معظم الكتابات التي تناولت رائعة الأسواني
"عمارة يعقوبيان" فمعظم من كتب عنها لم يكن قرأ قبلها للأسواني فظن
روايته قفزة عملاقة حققها كاتب بين ليلة وضحاها ولو كان من كتب تحت تأثير
"المفاجأة الجميلة" قد قرأ "مجموعتيه" لعلم علم اليقين أن
"عمارة يعقوبيان" في حقيقتها إنجاز كاتب كابد الكتابة زمنًا طويلاً ولكن
"فساد حياتنا الأدبية" حال بينه وبين الوصول إلى قارئه.
وفي محاولة من الأسواني لإزالة
آثار"الحادث المؤسف" الذي تعرضت له مجموعتاه انتخب الأسواني من
المجموعتين عشر قصص ليعاد نشرها في مجموعة حملت عنوان "نيران صديقة".
في هذه المجموعة "الجديدة
القديمة" نرى بوضوح محورين اثنين اعتمد عليهما الأسواني في إدارة حركة قصصه.
المحور الأول هو الحرية، فقد
أعاد الأسواني أبطال قصصه أحرارًا كما ولدتهم أمهاتهم فحظوا بحرية ندر أن نالوها
في كتابات كتاب آخرين.
تبدو الحرية ساطعة مشرقة في أولى قصص المجموعة
"الذي اقترب ورأى" فبطلها "عصام عبدالعاطي" هو ابن لرسام
موهوب يعيش في الظل لافتقاده "اللمعان".
ولأن عصام "مراقب محايد"
فقد اكتشف أن أباه ورفاقه ليسوا كسالى كما أنهم ليسوا بلداء فكيف انحدروا إلى
هاوية "المخدرات" إنها مصر تلك البلد التي لا تكف عن إنجاب الموهوبين
كما أنها في نفس الوقت مغرمة بطحن عظامهم هذا "الاكتشاف المروع" جعل
عصاما لا يكره شيئًا مثل كرهه لمصر والمصريين، فالمصريون عنده ليسوا سوى حشرات
ضارة وبلدهم التي يفاخرون بها صباح مساء ليست سوى "بالوعة" تتكاثر فيها
هذه الحشرة، إنه يرى الحشرات وبالوعتها رأى العين من خلال تعامله مع رئيسه في
مصلحة الكيمياء الدكتور سعيد هذا الذي فشل في الحصول على الدكتوراه ولكنه نجح نجاحًا
ساحقًا في مضاجعة كل العاملات في المصلحة، لم تفلت منه واحدة منهن، ثم هناك أم
عصام السيدة التي هدها "السرطان" فجعلها تتمنى موت ابنة خادمتها لكي
تتفرغ لها الخادمة بكليتها وهناك الجدة التي تنتقم من أهلها الذين ما عادوا يهتمون
بأمرها فتتبول على نفسها ولا تفعل ذلك إلا أمام الضيوف، ثم هناك الخادمة هدى التي
تخدم الأم والجدة وتعطي جسدها لعصام ومقابل ذلك تحولت إلى صاحبة الكلمة العليا في
البيت بعد أن اطلعت على عورات الجميع وعرفت نقاط ضعفهم. يقطع عصام شوطًا طويلاً في
كراهيته لمصر والمصريين ويلزم نفسه بعزلة قاسية يفقد خلالها إيمانه بأي شيء وبكل
شىء، لقد أصبح مؤمنًا بالعزلة والعزلة وحدها، ثم حدث له حادث عرضي كان السبب
الرئيسي في اكتمال دائرة العزلة الجهنمية، فذات يوم كان عصام يتسلى بتقليب صفحات
إحدى المجلات الفرنسية عند حلاقه، ووقعت عيناه على صورة بيت أوروبي، هذه الصورة ستفتن
عصاما وتجعله يسعي لاقتناء كل ما تطوله يداه من صور الحياة الأوروبية، ومن خلال
تحديقه في الصور سيكتشف عصام اكتشافًا مروعًا آخر، إنه مأخوذ "بالروح
الغربية" التي تسجلها الصور، إن كل شيء لامع ونظيف ومتقن وجميل هو بالضروري
غربي، وإن كل ما هو متخلف وقبيح هو مصري، بهذه المصارحة مع نفسه سيتوغل عصام أكثر
فأكثر داخل نفق العزلة الذي حفره بنفسه ولنفسه، وهذه العزلة ستقوده إلى تخيل
لقاءات تجمعه بفاتنة أوروبية تدور بينهما مناقشات حادة إذ ترى هي في مصر بلداً يضج
بالحيوية والحياة والجمال ويرى هو عكس ذلك، جوع عصام إلى الجسد وحضور الفاتنة
الأوروبية يدفعه إلي أن يزورها في مقر عملها حيث تعمل مترجمة في إحدى شركات
الاستيراد والتصدير، في مقر الشركة يفاجأ عصام بما يزلزل كيانه "لا يعمل
لدينا أحد بهذا الاسم" هكذا أخبرته السكرتيرة، تطور النقاش بين عصام
والسكرتيرة لينتهي الأمر بطرده خارج الشركة، حاول عصام العثور على صاحبته
الأوروبية ولكن محاولاته جميعاً باءت بالفشل فكل الذين استشهد بهم قالوا إنهم لم
يروه يوماً يصاحب أوروبية حتى عامل البار في الفندق الشهير الذي جلس فيه عصام ذات
ليلة مع صاحبته الأوروبية قال إن عصاما كان بمفرده وكان يخاطب نفسه بالإنجليزية
وبصوت عال ويضحك ضحكات عالية. وأضاف "البارمان" إنه أرجع تصرفات عصام
الشاذة إلى سكره، تنتهي القصة وعصام في مستشفي الأمراض العقلية محاطًا بعزلة كاملة
شاملة سعى دائمًا خلفها.
أتاح الأسواني لأبطال هذه القصة
الطويلة أو "الرواية القصيرة" الفرصة كاملة لكي يظهروا خفايا أنفسهم فلم
يلجأ إلى لغة مجازية بل اعتمد لغة مباشرة صادمة وقد دفع الأسواني ثمن لغته هذه
عندما قدم المجموعة لدار نشر حكومية فرفض مسئولوها نشرها وبعد مفاوضات اقترح
المسئولون على الأسواني تصدير المجموعة بكلمة يبرأ فيها الكاتب من لغة وأفكار بطل
قصته، ولما رفض الأسواني كتابة كلمة "البراءة" هذه تعرضت المجموعة كما
سبق وأشرت إلى "حادث مؤسف".
الحرية نفسها يتيحها الأسواني
للطفل بطل قصته "مدام زتامزيس" ففي كل يوم أحد يصطحب الأب طفله
"بطل القصة" لزيارة مدام زتا، وما أن يستقر الأب داخل شقة مدام زتا حتى
يرى ابنه وجهه الآخر إنه هنا "مجاملاً مداعبًا هامسًا حنونًا مضطرمًا
بالعاطفة ".
شأنه شأن الأطفال جميعًا معجب بأبيه ولذا لا
يخبر أمه بأي شيء، وبعد أن يرحل الأب ويصبح الطفل رجلاً وقورًا في الأربعين من
عمره يلتقي مصادفة بمدام زتا التي أصبحت الآن عجوزاً وحيدة يحاول الرجل تذكيرها
بنفسه وبالأيام التي ولت وعندما تتذكره مدام زتا تشب على أطراف قدميها لتطبع قبلة
على رأسه.
أما المحور الآخر فهو ما يمكن
تسميته بـ "التقمص" ولكي يتقمص الكاتب "حيوات" أبطاله فلابد
أن يكون قد عايشها معايشة صادقة إذ إن المعرفة العابرة لا تكفي هنا.
ولعل قصة "أختي الحبيبة
مكارم" هي أبرز القصص التي ترشدنا إلى "موهبة" الكاتب في التقمص.
بطل القصة هو "حسن محمد نجاتي" مصري يعمل بالسعودية، أنانيته مسخت روحه
فتحول إلى "كائن" منافق لا هم له إلا جمع المال مضحيًا بأمه العجوز
المريضة وبأخته التي يلقي عليها عبء الاهتمام بأمه كاملاً، تبدأ القصة التي اختار
لها الكاتب شكل رسالة مرسلة من حسن لأخته بالبسملة ثم حمد الله والصلاة على نبيه،
بهذه المقدمة "الإيمانية" يحاول حسن أن يقنعنا ويقنع أخته أنه رجل مسلم
مؤمن صادق في كل ما سيقوله بعد قليل.
ماذا قال حسن؟ قال إن الحياة في
الغربة صعبة والمال قليل، إضافة إلي ما يعانيه من اضطهاد "الكفيل" له
لأن الكفيل يفتح أذنيه لوشاية الحساد الذين يقولون إن حسنًا يعطي دروسًا خصوصية
لابن أحد الأثرياء علمًا ــ هكذا يؤكد حسن لأخته الحبيبة مكارم ــ إن ما يربطه
بهذا الثري هو الحب لله وفي الله! وبعد أن طرحنا حسن وطرح أخته أرضًا بـ
"عواطفه الإيمانية" يصل إلى "مربط الفرس" أي إلى الهدف
الحقيقي من إرساله للخطاب فيقول لأخته:
مكارم أرجوك.. سوف تجدين في هذا
الخطاب خطابًا آخر صغيرًا مرسل إلي الحاج غريب السمسار.. اذهبي إليه على مقهى
الأمانة وأعطيه الخطاب فورًا وقولي له أن يتصل بي هاتفيًا للضرورة، وإن لم يجدني
يتصل بحضرة الشيخ فهد الربيعي رقم هاتف 5821465 (06).. هذا الموضوع مهم جدًا يا
مكارم جزاك الله خيرًا يا أختي الحبيبة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أخوك
حسن محمد نجاتي
القصيم في 5 من محرم عام 1413
_________________________
نشرت
بجريدة العربي
ــ 9 مايو 2004