الأحد، 19 فبراير 2006

حكايات من دفتر الشهداء


          
(1)
رجل من المنصورة كان يبحث عن جثث أولاده الثلاثة، عثر على جثتىّ ولدين ووضعهما في السيارة، وواصل البحث عن جثة ولده الثالث كان على مدار الساعة يصرخ فى المسئولين: يا بكوات معي جثتان افرجوا عن الثالثة لكي أعود لبلدي، أنتم تعرفون أن المسافة كبيرة بين الغردقة والمنصورة تقترب من الألف كيلو متر وأخشى أن يزيد السفر من تفسخ جثث أبنائي.
أجاب المسئولون : عليك بالذهاب إلى قنا لكي تستلم جثة ابنك الثالث .
سألهم الرجل: ولماذا قنا وجثة ابني ها هي بين أيديكم وأمام عيني؟.
أجاب البكوات: جثة ابنك ستذهب إلى قنا لكي يقوم الطبيب الشرعي بفحصها!!
بكى الرجل قهراً وحزنًا وحسرة على جثث أولاده التي ستتفسخ من طول السفر، ولكن من يهتم لبكاء رجل فقير لم يفقد سوى ثلاثة أبناء فقط !!
(2)
صعيدي من سوهاج كان له بين الشهداء القتلى بيد الظالمين أربعة من صلبه وستة من صلب شقيقه، عشرة رجال من أسرة واحدة. ظل يبحث عن جثثهم أربعة أيام وعندما قتله الحزن والبحث صرخ في البكوات أعطوني أي جثة أخمد بها نار قلبي وقلب عائلتي.
(3)
عجوز صعيدي علمته الأيام أنه وشعبه أهون على الحكومة من جناح بعوضه، تلقى خبر غرق أكبر أبنائه ذهب مثل أهل الغرقى مصطحبًا ابناً آخر ليشاركه التعرف على جثة المغترب الغريق. كان حظه جيداً فما هي إلا ساعات حتى وجد جثة ابنه بين يديه، كاد يصيح من الفرح!!
ولكن ابنه الذي معه قال له : يا أبى هذه ليست جثة أخي.
قال الأب محتدًا: بل هي جثة ابني وأنا أعرف الناس به.
رد الابن محتجًا: هذا ليس أخي.
 هوى الأب إلى الأرض وقد تكاثرت عليه الهزائم، وقال لابنه ودموعه تملأ عينيه: وافقني لا جربك الله حزن فقد الولد، قل هي جثة أخي، قلها حتى نعود وندفنه ونتلقى العزاء، قلها لكي يسكن قلب أمك.
(4)
حاول الصعيدي اختراق صفوف شرطة الوالي، لا لكي يرى البحر ويمتع عينيه بجمال منظره، بل ليبحث عن جثة شقيقه، شرطة الوالي غلاظ القلوب، منعوه، اشتبك معهم، تدخل صعيدي آخر وقال له دعك منهم ما هم إلا كلاب حراسة ومناظر تشريفة.
(5)
صباح الأربعاء الثامن من فبراير 2006 قالت "الأهرام" في صدر صفحتها الأولى إن رئيس البلاد قد أكد أن دم الضحايا لن يذهب هدرًا. قبل أن يفلق القهر رأسي وقعت عيناي في الصفحة نفسها من الجريدة ذاتها على خبر يقول: "قررت السلطات السعودية منع العبارة "السلام 94" من العمل بالموانئ السعودية، وذلك بعد أن تبين للسلطات السعودية أن العبارة متهالكة ولا تصلح للإبحار، وعليه فقد عادت العبارة بلا ركاب إلى ميناء السويس.
ما إن قرأت الخبر حتى صحت، كما صاح الشاعر القديم.
"زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع".
كان الخبر يكذب "مانشيت" الجريدة فالقتلة يعلمون أنهم فوق السحاب، ولذا لم يضعوا في عيونهم، كما يقولون "حصوة ملح" وينتظروا حتى تجف دماء القتلى أو على الأقل تهدأ مشاعر الغضب، بل سارعوا إلى حصد مصريين آخرين عبر باخرة أخري متهالكة، وما ذلك الطغيان إلا لأن صاحب شركة السلام عضو معين من قبل رئيس البلاد بمجلس الشورى، ورفع الحصانة عنه ومحاسبته أمر لن يحدث حتى لو قتل ببواخره المتهالكة عشرات الآلاف من فقراء مصر.
(6)
ظهر تقرير التنمية البشرية عن مصر عام 2005، وجاء فيه أن 20% من سكانها حوالى 16.5 مليون مواطن يعيشون تحت خط الفقر، أي يبلغ دخلهم اليومي أقل من دولار "خمسة جنيهات"، وأن ثلثي هؤلاء الذين يعيشون تحت خط الفقر يتمركزون في الصعيد، وأن أفقر محافظات الصعيد أي أفقر محافظات مصر هي محافظة أسيوط، كما أكد التقرير أن عدد الأميين يبلغ 34.5 من مجمل عدد السكان، وأن ثلاثة من بين كل أربعة شبان وجدوا فرصة عمل حصلوا عليها بالمحسوبية والوساطة والعلاقات الشخصية.
عند هذا الحد أغلقت التقرير وأنا أهمس لنفسي:
"ليست العبارة هي التي غرقت بل مصر كلها ترقد الآن متعفنة في طين القاع المظلم".
(7)
إبراهيم مرزق عبدالحفيظ هو عند أبيه الولد البكري الفالح، وهو عند أمه الحبيب  الغائب وعند أشقائه الأب الثاني، وهو عند طفله أب لن يعرفه أبداً، فقد رحل وطفله لم يبلغ من العمر سوى شهرين، وهو عند الزوجة عمود الخيمة الذي هوى، وهو عندي مفجر الضحكات، كان إذا رآني ضيفًا في إحدى الفضائيات سارع من الكويت مهاتفًا الأهل والجيران ليبلغهم أنني أتحدث للتليفزيون، ثم يتصل بي طالبًا حفظ حقوقه في تعميم المشاهدة، ثم هو عند الحكومة مواطن من قرية التمساحية التابعة لمركز القوصية التابع لمحافظة أسيوط، أنهى دراسته وأدى الخدمة العسكرية، جاوز الثلاثين بقليل، تغرب مطاردًا لقمة العيش ولما أراد العودة إلى وطنه صعد بقدميه إلي عبارة السلام 98 فتعرض إلى حادث مؤسف أودى بحياته.
هذا هو إبراهيم مرزق عبدالحفيظ عند حكومة مصر لا أكثر ولا أقل، ولكنه عند الله شهيد يأتي دمه يوم الفزع الأكبر يطالب بالقصاص، ساعتها سيدرك القتلة أن سجل جرائمهم متخم، وأن أيديهم ملطخة بدماء فقراء أبرياء، ساعتها سيدفعون الثمن كاملاً، ومن يدرى فلربما يكون دم إبراهيم ورفاقه من الشهداء الأبرار، هو الشرارة التي توقد نارًا تطهرنا من كل هذا الدنس الذي يحيط بنا.

(8)
اعطوا الرجل الذي ذبحته الحسرة صورة، وقالوا له هل هذا ابنك؟ تأمل الرجل الصورة لحظة ثم أطلق ضحكة مجنونة.
قال لهم يا بكوات هذه صورة "ذراع" وليست صورة ابني، قال له الذي يحاوره اعذرهم يا حاج فهم لم يصوروا الجثة كاملة توفيرًا لنفقات التحميض.
(9)
كم مرة أذل فيها رئيس ا لبلاد أعناقنا بحديثه عن المليارات التي أنفقها (وكأنها من ماله الخاص) على تأسيس البنية التحتية؟ ثم كم مرة أخرجت فيها الكوارث لسانها ساخرة من هشاشة، بل غياب البنية التحتية. بكوات الفواجع لم يجدوا في البحر الأحمر كله ثلاجات تكفي لحفظ جثث من نعتبرهم نحن شهداء ويعتبرونهم هم صرعى حادث مؤسف، فماذا فعلوا؟ قاموا بتوزيع الجثث على طول البلاد وعرضها، فعلى سبيل المثال هناك خمس جثث في ثلاجة مستشفي مدينة القوصية، وهي ليست لأحد من أبناء المدينة، وبين القوصية والغردقة ما يزيد على 400 كيلو متر، أين البنية التحتية التي قلتم مليار مرة إنكم أنفقتم المليارات على تشييدها؟
(10)
كانت شرطة الوالي تدوس بأحذيتها الثقيلة قلوب المكلومين، وكان البرد والحزن يفترسان الأجساد والقلوب، وكان رئيس البلاد هناك بعيداً متدثرًا بمعطفه يحضر تدريب فريق كرة القدم، وكانت مصر التي هي مصر تمسح دموع المقهورين تربت على أكتافهم، تقول لهم بملء فمها أنا معكم، كلنا غرقى وحرقى، كلنا في اليم جثث شوهتها ملوحة البحر وافترستها أسماك القرش، كانت مصر التي هي مصر قد أرسلت واحدة من بناتها امرأة محجبة وأوصتها بالصعايدة الفقراء خيراً، قالت لها اصنعي لهم شاياً وطعاماً، فهؤلاء هم ملح الأرض وعمارة الوادي، قالت المحجبة التي لها شرف نهى الزيني لبيك يا أم وجعل الله قاهري أولادك مقهورين وضرب الله عليهم الذلة والمسكنة والهوان، وأذاقهم يوم الفزع الأكبر العطش والجوع، ملأت المحجبة التي لها مروءة نهي الزيني حقيبتها بالطعام وبرادها بالشاي ودارت على الصعايدة المقهورين تستحلفهم بالله رب العرش العظيم أن يقبلوا طعامها وشايها لكيلا يقتلهم الجوع والعطش.
مصر التي هي مصر أرسلت رجلاً معه حمولة عشرين سيارة من البطاطين، وقالت له أنا أعلم أن الحزن يشعل القلوب نارًا فلا تحتاج الأبدان إلى غطاء، ولكن كن باراً بهؤلاء المكلومين ودثر أبدانهم المرتجفة بالغطاء.
كانت مصرهم تلهو وتلعب تخادع وتدلس، وكانت مصرنا هنا في قلب الفاجعة تسند ظهر المكلومين الثكالى، وستظل هنا معنا إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وساعتها سيعلم الذين ظلموا: "أي منقلب ينقلبون".
___________________________
نشرت بجريدة   العربي ــ 19 فبراير 2006